منوعات

جناية السباعي على المعداوي؟؟

كنت أبحث عن الناقد الكبير الراحل أنور المعداوي الذي ولد في العام 1920 وتوفي في العام 1965 فوجدت أن الرجل قد ظلم حيًا وميتًا، والذين ظلموه حيًا لحقوا به، وكان بينهم وبينه ما يمكن قبوله من أسباب الخلاف والصراع، ولكن الذين ظلموه ميتًا لا حجة لهم ولا منطق.

ظالمو المعداوي هم صحف ومجلات ومواقع ينفق ناشروها عليها ملايين الجنيهات إن لم تكن الدولارات، ومع سخاء الإنفاق لا يكلفون أنفسهم عناء تدقيق معلومات خطيرة تمس سمعة اثنين من مشاهير كتابنا، أعني أنور المعداوي ويوسف السباعي.

رواية كاذبة

المعروف أن المعداوي قد رحل في ظروف مأساوية وقد خسر النقد العربي برحيله علمًا من أعلامه، فقد كان، رحمه الله، صاحب أسلوب وموقف وكان من العاملين بالحديث الشريف: «لا يمنعنَّ رجلًا هيبةُ الناسِ أن يقولَ بحقٍّ إذا رآه أو شهِدَه فإنه لا يقرِّبُ من أجلٍ ولا يباعِدُ من رزقٍ أو يقولَ بحقٍّ أو يُذكِّرَ بعظيمٍ». وقد قال الرجل ما يظنه حقًا فجلب لنفسه المتاعب التي لاحقته في حياته وبعد مماته.

أنور المعداوي

فسر الظالمون مأساة المعداوي في فقرة ينقلها الواحد منهم عن أخيه كأنها آية من الذكر الحكيم، وما هى في حقيقتها إلا من خبيث الكلام الذي يجب أن يوارى التراب لكي لا يؤذي الأنوف والعيون.

تقول فقرتهم: «كتب الناقد الشهير أنور المعداوي مقالًا، اتهم فيه الأديب الشهير يوسف السباعي بسرقة مخطوطة والده المترجم والروائي محمد السباعي «السقا مات» ونشرها باسمه هو.

https://www.youtube.com/watch?v=oo8de-QBH_Q

وأكد المعداوي في مقاله أن والد يوسف السباعي، محمد السباعي كان قد أطلعه على هذه المخطوطة، وقد غضب يوسف السباعي كثيراً من المعداوي، وبعد أن أصبح وزيراً للثقافة في عهد الرئيس أنور السادات، نقل المعداوي الذي كان يعمل موظفاً حكومياً، من القاهرة إلى أسوان «أقصى صعيد مصر»، حيث مات مقهورًا. 

يوسف السباعي

انتهت الفقرة الأكذوبة التي إن بحثت عنها ستجدها تسري في المواقع والجرائد والمجلات سريان النار في الهشيم.

كل ما في الفقرة المؤذية هو كذب لا يأتيه الصدق من بين يديه ولا من خلفه، وللحق ثمة جملة واحدة صادقة وهى أن يوسف السباعي، رحمه الله، كان وزيرًا للثقافة المصرية، أما غيرها فباطل من كل وجه.

الوجه الأول: محمد السباعي والد يوسف لم يكن رجلًا كغيره، لقد كان مترجمًا ذائع الصيت وروائيًا راسخًا، وعندما مات رثاه العقاد بقصيدة شائعة. وقد ولد الأستاذ السباعي الكبير في العام 1881 ورحل وفق معظم الروايات في العام 1931، وكان ميلاد الأستاذ المعداوي في العام 1920 فهل من العقل أن يرسل أديب شهير صاحب اسم وصيت بمخطوط روايته إلى طفل في الحادية عشرة من عمره؟

الوجه الثاني: أين مقال المعداوي الذي اتهم فيه يوسف السباعي بالسرقة؟ لماذا لا يعيدون نشره لإقامة الحجة؟ لن ينشروا المقال لسبب واحد وحيد، ألا وهو أنه لم يُكتب أصلًا ولا وجود له.

الوجه الثالث: قالوا إن يوسف السباعي قد نفى أنور المعداوي في السبعينات إلى أسوان، كيف هذا والمعداوي مات في منتصف الستينات؟ هل نفاه وهو ميت؟ لقد قالوا قديمًا: إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا، ولكن هؤلاء جمعوا على أنفسهم مصيبتين، الكذب والنسيان.

دخان النار

على ما سبق فما قاله ظالمو المعداوي باطل، ولكن لماذا وضعوا اسم السباعي في القصة؟

معروف أنه لا دخان بدون نيران، نعم السباعي كان له يد قاسية ساهمت في تعطيل المعداوي لكنها لم تقتله، والصراع والخلاف شيء ولكن القتل شيء آخر.

الناقد الأستاذ رجاء النقاش، رحمه الله، كان من أخلص تلاميذ المعداوي وقد روى قصة حياته من فصولها الأولى إلى أن أسدل الستار عليها.

 الناقد رجاء النقاش

قال الأستاذ النقاش في كتابه «صفحات مجهولة في الأدب العربي» الصادر قبل سنوات عن دار الشروق ما ملخصه: إن المعداوي كان يعمل في الإدارة العامة للثقافة بوزارة التربية والتعليم، وتلك الإدارة لم تكن كغيرها، فقد عمل بها الكبار من أمثال طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي، وكانت مهمة الإدارة الأولى، هى اختيار الكتب لمكتبات الوزارة، وهذه مهمة محببة لرجل مثل أنور المعداوي، وظلت حياته الوظيفية مستقرة، وعلا نجمه حتى أصبح الناقد الأكبر والأهم، ثم تولى العالم الجليل سليمان حزين منصب المدير العام لإدارة الثقافة، فوقع صدام غريب بينه وبين المعداوي، كان الدكتور حزين قد سجل اعتراضات على تقرير كتبه المعداوي وقال إن به أخطاء لغوية!

جن جنون المعداوي فرد الصاع صاعين لحزين الذي أمر بنقل المعداوي إلى وظيفة مدرس في مدرسة مغمورة.

ذهب المعداوي إلى المدرسة المغمورة أيامًا ثم أعلن انقطاعه عن الذهاب، فقام حزين بفصله، ليصبح في الشارع بدون عمل ولا دخل.

هذا العقاب كان قاسيًا جدًا على رجل له نفسية المعداوي فوقع تحت وطأة أمراض غامضة جعلته يهوى في بئر الأحزان ويفقد اسمه لمعانه.

 أسرار الصدام

تلك الوقائع كانت في النصف الأول من الخمسينيات وهى الفترة التي شهدت فتوة المعداوي العمرية والنقدية، وصدامه مع الدكتور حزين لم يكن للسباعي يد فيه، بل كان السباعي في تلك الفترة محبًا للمعداوي.

فما الذي حدث لكي تنقلب المحبة إلى عداوة؟

تقول وقائع التاريخ: إن يوسف السباعي عندما كان ناشئًا وكتب روايته «نائب عزرائيل» طارد المعداوي لكي يكتب عنه مقالًا يرفع به ذكره، كتب المعداوي المقال وأشار فيه إلى بعض عيوب كتابة السباعي ونصحه بسرعة التخلص منها.

ساهم مقال المعداوي في رواج اسم السباعي، وتواصلت الحياة إلى أن أصبح السباعي رئيسًا لتحرير مجلة الرسالة الجديدة، وكان المعداوي أيامها يكتب في جريدة القاهرة التي راهن عليها ليستعيد عرش النقد بعد فصله من عمله الرسمي.

كتب السباعي مقالًا دعا فيه للتخلص من كل قيود اللغة العربية، معترفًا بأنه يقع في الأخطاء التي تجعل أمثال طه حسين وبنت الشاطئ ينفران من رواياته وقصصه ومعهما معظم النقاد.

تصدي المعداوي بمفرده لحملة السباعي على اللغة العربية ودحضها ونقضها بعد أن نقدها، وكان أسلوب المعداوي عنيفًا شديدًا، فقام السباعي بإعادة نشر مقال المعداوي عن نائب عزرائيل لكي يوهم القراء بأن المعداوي رجل مغرض يهاجمه لأنه لم يستكتبه في مجلة الرسالة!

رد المعداوي شارحًا أسباب المقال الأول ولفت نظر القراء إلى أن مقاله الذي نوه فيه بذكر السباعي مضت على نشره تسع سنوات كاملة.

ربح المعداوي تلك المعركة ولكن السباعي لم ينسها له، فعمل على تجميد المعداوي بكل ما أوتي من قوة ونفوذ وعلاقات في الوسط الصحفي والثقافي، فلم يعد يطلب أحد منه مقالًا أو دراسة وتوارى اسمه عن عيون القراء، وتكالبت عليه الأمراض، حتى لقي ربه وهو في الخامسة والأربعين من عمره.

وتلك هى قصة جناية السباعي على المعداوي دون زيادة أو نقصان، وقد رحل المعداوي وبقي نقده اللامع الذي تأثرت به نخبة من النقاد العرب.

Related Articles

One Comment

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker