نقلا عن: صفحة الكاتب على فيسبوك
تؤكد كل الروايات المكتوبة، على ما فيها من تخبط، وأغانيه وألحانه المسجلة، وكتبه الأربعة، أن «كامل الخُلَعِيِ»، قد بلغ شأنا عظيما، لقُرابة أربعة عقود، في علم الموسيقى وفن الغناء، بوضعه مئات الألحان، لعشرات الأوبريتات، ومئات الأغاني، وبما امتلكه من مواهب في الشعر، والخط، والرسم، والإطلاع على الأدب، وما أصابه من ثراء، وما تمتع به من سخاء وكرم مع الجميع، قد انتهى به المطاف ماسحا للأحذية، ثم مريضا بشللٍ أقعده، ومات مُعدماً لا يجد قوت يومه، ولا ثمن الدواء، بل، لم يُشيّعه إلى مثواه الأخير غير قليل نفر من البسطاء!
ولا أدري لماذا استولي على ذهني أن صُنَّاع فيلم «شارع الحب» قد استلهموا حكايته، على نحو ما، في شخصية «جاديليو» الموسيقار (مختار صالح) التي قدمها الفنان العظيم «حسين رياض»، (سيناريو وإخراج عز الدين ذو الفقار ـ قصة وحوار يوسف السباعي)، بالرغم من اختلاف تفاصيل كثيرة بين الحكايتين!.
وكان الخُلَعِيِ قد ارتقى مقاما رفيعا في «علم الموسيقى»، وأجاد الغناء، وله تسجيلات كثيرة بصوته حفظتها الاسطوانات. ووضع كتابا مهماً بعنوان «الموسيقى الشرقية» وهو في السادسة والعشرين من عمره، وهو كتاب يستحق إعادة طباعته، والاهتمام بقراءته، لمعرفة أسبقية هذا الفنان المظلوم، وهو من قِلَّةِ جمعت الشِقَّين النظري، والعملي، في العلم والتلحين والغناء، وكتابة الأغاني، وأكسبته تجارب الحياة فلسفة عميقة، في فهم الناس والأحوال، ولكثرة تأملاته، وتعبيره بحرية عن أفكاره، ظنَّ البعض أنه «مختل نفسيا»، مع أنه شَغَلَ حياته كلها بالإبداع، بتلحين أكثر من 40 أوبريت. وكان له قصب السبق في بلورة هذا الفن، كما لحن مئات الأغاني الأخرى، غنَّيَ عشرات منها بنفسه. ومن المسرحيات التي وضع ألحانها: «كارمن، وكان زمان، والتلغراف، وتاييس، وروزينا، وإكسير الحب، والتالتة تابته، وآه يا حرامي، والشرط نور، وقيصر وكليوباترا، والشرف الياباني، والإيمان، ومبروك عليك، والسعد وعد، والبدر لاح».
وفى عزّ نشاطه الفني ذاك، زامل «داود حسني» لسنتين،حيث كانا ينتميان لمدرسة موسيقية واحدة، وعاصرا «سيد درويش» عن قرب، وأعجبهم فنه، وواظبا على حضور مسرحياته. كما كان صديقا للمنشد والمغني الشيخ «إبراهيم القصبجي» والد الفنان «محمد القصبجي»، وكان الرجل على دراية كبيرة بعلم تدوين الموسيقى، وتعلم «محمد القصبجي» من الخلعي الكثير، خاصة في الموشحات. وعاصر كثير من الرواد مثل «محمد عثمان»، و«عبده الحامولي»، و«سلامة حجازي»، و«سيد درويش»، و«زكريا أحمد»، و«محمد عبد الوهاب».
يقول الخُلّعي في كتابه «الموسيقى الشرقية»: « وقيل: إن الملاذ التي عليها مدار الوجود أربعة: المأكل لعدم قيام البدن بدونه، والسماع لتعلقه بالروح وهي أشرف أجزاء الجسم، والنكاح لتعلقه بالنسل، والملبس لستر البدن. ولا يُزاد في كل منها عن اللزوم، فإن زيد فيها عن ذلك حصل الإعياء، ما عدا السماع، فالزيادة لازمة فيه لغذاء الروح وراحة البدن وشفائه من الأسقام».
وفي استهلالة كتابه المدهش قال أيضا: «.. «أما بعد»، فلما كان فن الموسيقى من أجلِّ الفنون مذهبًا، وأعذبها موردًا ومشربًا، وأمزجها للطباع السليمة. وأروضها للنفوس الكريمة. كيف لا وهو مغناطيس القلوب .وشرح حال المُحبِ للمحبوب. ومذهب الأتراح، وغذاء الأرواح. ولذا عُني به أئمة السلف، وأساتذة الخلف، كابن سينا والفارابي والفازاني، وأبي الفرج الأصبهاني صاحب «الأغاني»، وألفوا فيه كتبًا قيمة كثيرة. ومؤلفات شهيرة، يضيق مجال الفكر عن استقرائها. ويقصر طول العمر عن استقصائها».
وحيث إني ممن منَّ الله عليهم بالانتظام في ذلك العقد الفاخر، تمسكت بأذيال الماضين وإن جئت في الآخر. وقنعت من الزمان هذه المنحة، وأرحت نفسي من التطلع إلى غيرها فالعمر وإن طال كلمحة.
لأن من كانت عنايته بتدبير جسمه، لا بتدبير روحه التي هي مناط شرفه وكرمه. فقد تجاوز حد العرفان. فإن المرء بالروح لا بالجسم إنسان.
مارست هذا الفن علمًا وعملاً على أكبر أساتذته قديمًا. واتخذته نديمًا، وبلوت فيه الألحان والأوزان. وميزت منه ما شان وزان، فألفيت أن أكثر الكتب الحديثة لا تشفي غُلَّة. ولا تُبري عِلَّة، ولذا وجهت الهمّة نحو التكلم فيه، بما عسى أن أكون من جملة واصفيه، مع ما رُميت به من اختلال أحوالي. وتعسر مطالبي وآمالي. واقتسام أمري بين مثبط للهمّة وحاسد. ومنكر للفضل وجاحد. وعدو في قلبه مرض. أو معاند لا يستقيم له غرض. فيجرحونني بظهر الغيب، وأنا غير شاهد. ويحرفون وجه كلامي إلى جهة
غرضهم الفاسد. سيما وقد استقبلت زماني وهذا الفن قد خبت ناره. وزوت أزهاره. ودجت مطالعه. وخوى طالعه. ولم يبق بيد أهله إلا صبابة. والخطأ فيه أكثر من الإصابة .ورغباتهم في معرفة قواعد الفن قليلة. والبراعة فيه لا تعد من الفضيلة. وقد نفد المجيدون والعلماء. وكثر المدَّعون والجهلاء، فاستعذت بالله من العجز والكسل، واستعنت به في بلوغ الأمل. ووضعت هذا الكتاب القريب المنال. العزيز المثال. ولم آلُ جهدًا فيما أودعته فيه من التوضيح والإفصاح عما يلزمه من علم النغم والتصوير والأوزان الصحاح. مع تبيين لذلك أتم بيان، حتى كأنه يشاهد بالعيان. وأضفت إليه المختار من تلاحيني، وتلاحين حضرة أستاذي الأول الذي سعدت بوجوده الأيام. وتزينت ببقائه الأعوام، العالم الجليل، والموسيقار النبيل «الشيخ أحمد أبو خليل»، وأكثرها من نغمات نادرة الوجود في هذه الأمصار. (كالنهاوند والبسته نكار. والعجم والبوسليك والحجاز كار.) فمن حفظها على أصلها. باهتزازاتها المرصعة بها. وتصور مسافات الأوزان. فلا شك أنه فائز على الأقران. وقلتها لا تزري بقيمتها فهي كالنقطة من العطر، ولو صغر حجمها ولكنها محصل كثير من الزهر. ولقد زينت صفحاته أيضًا بصور أشهر مشهوري هذا العصر مع المختار من محاسن صناعتهم. وبدائع بضاعتهم وسؤالي من المولى القدير. أن يترتب على هذا الكتاب الذي هو (كالنجم) صغير، كبير النفع المأمول. وأن يحظى لدى الموسيقيين خصوصًا والطلاب عمومًا بحسن القبول. وهو أكرم من أن يسأل في مثل هذه الطُلبة ولا يجيب. وسائل الله لا يخيب».
ولمن لا يعرف. ولد «محمد كامل سليمان الخُلَعِيِ الدمنهوري» في «كوم الشقافة» بالاسكندرية في يوليو 1870، ويقول البعض أنه ولد سنة 1876 بالاسكندرية، وهذا هو الأرجح عندي، فإذا كان قد ألف كتابه «الموسيقى الشرقية» 1902، أو حتى في 1904 كما ذكر البعض، وكان وقتها في سن السادسة والعشرين، أو الثامنة والعشرين، فيكون تاريخ مولده الثاني هو الصحيح.
ووالده «سليمان الخُلَعِيِ» ينتمي بجذوره إلى الوليّ «أبي الحسن الخُلَعِي» صاحب الضريح والمولد بمدينة رشيد. كان ضابطاً بحامية الاسكندرية، وانضم للزعيم «أحمد عرابي» في ثورته ضد «الخديوي توفيق»، وبعد انكسار الثورة تم تسريحه، مع بقية الضباط ضمن قرار الخديوي بحل الجيش، فضاقت بهم الأحوال تماما، ما اضطرهم للانتقال إلى القاهرة، بحثا عن سبيل للرزق، وسكنوا حيّ الجمالية، والتحق الغلام الصغير كامل بمدرسة إبتدائية هناك.
وكان والده يحب القراءة، ولديه مكتبة تضم الكثير من الكتب، تعلق بها ابنه، وحفظ كثيرا من الشعر العربي.
وبعد فترة انفصل والداه بالطلاق، وتأثرت نفسيته سلبا، ولما تمزق بينهما، راح يقضى أغلب وقته في الشارع، ثم ترك المدرسة، وحاول والده إعادته إليها بلا فائدة، لكنه ظل متعلقا بالكتب، وقرأ الكثير منها، مثل «العقد الفريد»، و«الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، و«تاريخ ابن الأثير»، و«عجائب الآثار في التراجم والأخبار» للجبرتي، وكثير من دواوين الشعراء العرب، قبل أن يكمل الخامسة عشرة، وساعده اختلاطه بكثير من الأجانب الذين يعيشون في القاهرة، على تعلم عدة لغات، فأجاد التركية، والفارسية، والإيطالية، وأتقن الفرنسية.
وتمتعه بموهبة كبرى في «الخط العربي» والرسم، أتاحت له العمل خطّاطاً، ورسَّاماً، في شارع محمد علي، وخلال كتابته«لافتات» المحلات التجارية، طلب منه كتابة ورسم «أفيشات» فرقة الشيخ «سلامة حجازي». وربطته في الفترة نفسها معرفة جيدة بالسيد «توفيق البكري» شيخ مشايخ الطرق الصوفية، الذي أُعجب بمواهبه المتعددة، واستضافه في ندوته الدائمة ببيته في الخُرنفش، وهناك التقى الفنان السوري «أحمد أبو خليل القباني»، وتوثقت صداقتهما، فالتحق «كامل الخلعي» بـ «فرقة القباني»، وسافر معه في جولة فنية امتدت لثلاث سنوات متتالية، طافوا فيها الشام،والآستانة،والموصل، وبغداد، تعلّم خلالها العزف على العود والغناء وسريعا ما شارك أستاذه «القباني» في تلحين مسرحية «عفيفة» التي تضمنت موشحات »يا راعي الظِبا في حيِّك غزال» وموشح «جاءك الغيث إذا الغيث هَمَا».
ونراه يصف الموسيقى في كتابه الجميل بقوله: «.. وقصارى القول في الموسيقى أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك، فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه، وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم، بانفعال الإبل بالحداء والخيل والحمير بالصفير كما علمت، ويزيد ذلك تأثيرًا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء، وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى، ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم «الآلات الموسيقية»، لا طبلاً ولا بوقًا، فيحدق المُغنُّون بالسلطان في موكبه بآلاتهم، ويُغنُّون فيُحرّكون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستمالة. ولقد سمعنا أيضًا أن في حروب العرب الأقدمين من كان يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب، فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قِرن إلى قرنه.
وهذا الفن آخر ما يحصل في العمران من الفنون، لأنه كماليّ في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح، وهو أيضًا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه كما هو واقع بالشرق الآن».
وكأنه بهذه اللمحة الأخيرة يقصد أحوال الغناء الآن!!.
وحين عاد من رحلة القباني تلك، التحق بكورال فرقة «سلامة حجازي» لعام كامل في 1905، ثم سافر إلى فرنسا وإيطاليا عام 1906،لدراسة الموسيقى، وشاهد الأوبرات والأوبريتات فاتسعت معرفته بالمسرح الغنائي الأوروبي. ويذكر أنه زار تونس، ومكث فيها بعض الوقت للتعرف على الموسيقى في شمال أفريقيا، كما قام أيضا برحلة إلى بلاد الحجاز، وقدم بعض فنونه هناك، وقام بدراسة فنونها القديمة.
وبعد عودته من أوروبا عمل أستاذا للموسيقى، وفاجأ الجميع بنبوغه وتفرده في تلحين الأوبريت، ولم يسبقه إليه مصري آخر، فأبدع في تلحين أوبرات «اللؤلؤة»، و«لص بغداد»، وأوبريتات عديدة لفرق «منيرة المهدية»، و«علي الكسار»، و«جورج أبيض»، و«أمين صدقي»، و«الأخوان عكاشة»، وغيرها، حتى جاوزت 40 أوبريت. إضافة لكتابته الأغاني، والأدوار، والطقاطيق، للمطربين والمطربات، فغنَّت له «أم كلثوم» خمس أغنيات، ولحنها «داود حسني»، منها «كل ما يزداد رضا قلبك عليّ» و«جنة نعيمي في هواك»، و«قلبي عرف معنى الأشواق»، ومن النوادر التي لحنها الخُلَعي أغنية من تأليف الدكتور «طه حسين»: «أنا لولاك كنت ملاك/ غير مسموح أهوى سواك سامحني/ في العشاق أنا مشتاق/ أبكى وأنوح بالأشواق/ صدقني عهدك فين نور العين/ بالمفتوح تهوى اتنين جابني/ أنا أهواك مين قساك/ أنا مجروح غايتي رضاك/ واصلني» (لم أعثر على تسجيل لها). وقيل أن ألحانه قاربت الخمسمائة. وكتب أيضا رواية مسرحية اسمها «أنين وحنين».
وتعد أوبريتاته التي لحنها لـ «منيرة المهدية» بداية حقيقية للمسرح الغنائي سنة 1916، حيث دخل التمثيل الأوبرا الغنائية لأول مرة، وتراوحت جهوده بين المسرح، و«جوقات الطرب» فمهّد بألحانه سبل الغناء لبعض النوابغ الذين حازوا شهرة كبرى على يديه. وقدم ألحانه لجماعة «ترقية التمثيل العربي» (شركة مصر للتمثيل والسينما)، وفرقة «علي الكسار».
ويقول أيضا في مقدمة كتابه «الموسيقى الشرقية»: «الموسيقى علم يُبحث فيه عن أحوال النغم من جهة تأليفه اللذيذ، والنافر، وعن أحوال الأزمة المتخللة بين النغمات من جهة الطول والقصر.
وهو علم يتم بجزئين: الأول: التأليف، والثاني الإيقاع المسمى بالأصول». و«الأصول عبارة عن موازين للألحان لعدم اختلالها واختلال المغنيين عندما ينشدون معاً، حتى لا يسبق أحدهم الآخر ولا يتأخر عنه بل يكون مجموعهم كواحد». وبهذا وذاك «يكون الغناء».
وقد وصل كتابه «الموسيقى الشرقية» الذي غطى ظهور الموسيقى منذ آدم، ومرورا بكافة العصور، إلى أقطار حول العالم، ووصلته رسائل إعجاب كثيرة من دول مختلفة. وربما كان هذا النجاح حافزه خلال السنوات التالية، لوضع ثلاثة كتب أخرى: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني للخُلَعِيِ»، و«أصداف الطرب». وظهر في كتبه، اهتمامه الكبير بموسيقى وغناء «إسحق الموصلي»، وبشاعر المعتصم «عبادة القزاز»، وشاعر المأمون «ابن ذى النون»، واحتفى بشكل خاص بكتاب «سفينة الملك» للشيخ شهاب، وغيره من كتب آباء الموسيقى العربية.
وكان يشجع قادة الفرق الموسيقية على كتابة «النُوَّت الموسيقية» لألحانه، خاصة الأوبريتات، ومنهم «عبد الواحد السكندري»، و«محمود خطاب»، و«عبد الحميد علي»، و«إلياس تليماك»، ومسيو «جان الطلياني»، و«باستورينو الطلياني». وبادر هو لاستخدام «النوتة الموسيقية» والأوركسترا في موسيقى المسرح الغنائي بديلا للتخت التقليدي، وكانت بدايته في ألحانه لفرقة«دار التمثيل العربي». وقام بتدوين موشحاته فيما أسماه «موسوعة السفينة الكمالية» التي منحها اسمه.
وعن الموشحات قال في كتابه «الأغاني للخلعي»: «لو كان أرباب هذه الصناعة ممن درسوا العلوم العربية لما كسدت، لأنها العماد المتين والأساس الذي يشيد فوقه جميع طرق الغناء العربي، وفن الموشح سواء من حيث نظمه أو نغمه، آية من آي الإبداع، فلا يجوز بأي وجه من الوجوه أن نهمله أو ننزله منزلة القديم المهجور ونحبذ سفاسف الأمور».
وقدم فعلا أكثر من مائة موشح، أورد منها تسعة نصوص في كتابه هذا واحتوت بعض أوبريتاته على 10 ألحان فى المتوسط، وشارك «سيد درويش»، كلٌ بألحانه، في بعض أوبرتاته المقتبسة عن الأدب العالمي، وهي روايات غنائية كبيرة قام بتعريب معظمها الكاتب «فرح أنطون»، وأراد تخصيص كتاب يُضمّنه النُوّت الموسيقية لألحانها، لكن يبدو أن الكتاب لم يكتمل. واستوقفني تعامله بنزاهة مع منافسيه في كل كتبه، وحرصه على رصد أعمال الفنانين من مختلف المشارب، ونشر صورهم، وإشادته بهم، وتشجيعه الجُدد منهم.
واهتم بشكل خاص بالافتتاحيات الموسيقية القصيرة لأوبريتاته قبل الدخول فى الافتتاحيات الغنائية.وابتكر أوزانا موسيقية خاصة به مثل:العجيب، والمفرح، والعويص، والورشان، والفاخت، والمحجر، والنوخت الهندي، والسربند. وفسّر طريقته المبتكرة تلك بمحاولته مطابقة الميزان الشعري على الميزان الموسيقى، فلا يكون في الغناء قِصَر في حال مدّ الحروف، وتفادي المدّ فيما يجب قصره، وطالب الأجيال الجديدة من الفنانين بابتكار أوزان حديثة تطابق الأوزان الشعرية.
وكان «كامل الخُلعي» أول من نبه لضرورة «توافق كتابة النوت الموسيقية للألحان العربية مع النوتة الغربية التي توافق الطبقات الحقيقية للأصوات»، وكان الفرق بينهما«خمس درجات كاملة أعلى» في كتابة نفس الأصوات، مما يجعل الغناء مستحيلا في بعض الأحيان».
والمفارقة أن هذه الملحوظة التي سجلها في كتاباته. أقرها «مؤتمر الموسيقى العربية الأول» الذي عقد 1932بالقاهرة، بعد عام من وفاته، وأقر المؤتمر توحيد كتابة النوتة، وربطها بدرجة الصوت الحقيقية، واستمر هذا إلى الآن، وظنِّي أنه كانت تجب الإشارة من القائمين على المؤتمر إلى دور الخُلعِيِ في هذه النقطة.
فلكي يؤدى أوركسترا غربي موسيقى شرقية كتبت على الطريقة التركية القديمة يجب تعديل النوتة بتخفيضها لتطابق الطبقة الحقيقية».
وربما لكل هذه الأسباب، صنّف البعض اسم «كامل الخلعي» ضمن «علماء الموسيقى»، وليس «أعلام الموسيقى»، وحسب!.
وبطبعه الإنساني، كان زاهدا في كل مظاهر الحياة، فلم يهتم بارتداء الملابس الحديثة، وعن هذه التفصيلة حكىَ الأديب الراحل «توفيق الحكيم» في مقالة له بمجلة الهلال، أنه كان بينهما موعد ذات مرة، فَمَرّ عليه في بيته، ليذهبا معا إلى المسرح، وكان الحكيم في كامل أناقته، ونزل معه الخُلَعِيِ بملابس البيت، على سلم خشبي متهالك يئزّ تحت وطء خطواتهما، خشي «الحكيم» أن يسقط بهما، ووصف الموقف بقوله: «كنا نسير، الخُلعِيِ بثياب مثل ثياب الشحاذين، وأنا بملابس الأفندي كاملة». وفي الطريق اشترى عدة أكواز من الصفيح، تلك التي كانت تستخدم في شرب الماء، وكانت مربوطة في خيط واحد، فوضعها على كتفه، وحين استنكر الحكيم هذا، قال ببساطة: وأخبيها ليه.. هو أنا سارقها؟!
وفي حياته عموما، لم يخضع لقيود اجتماعية معينة، ولم يلتزم بضوابط أية جماعة إذا شعر أنها تخنقه. وكان ينادم العظماء، في سهراتهم الخاصة، ومجالسهم الراقية، ويشدو بأرقى الألحان والكلمات، كما يشارك بحماس كبير في أوبريت حاشد بأحد مسارح التمثيل الغنائي التي يرتادها جمهور كبير من الطبقات الراقية، والمتوسطة.ويختلف في وقت آخر إلى أماكن متواضعة، ويغني وسط جوقة من «أولاد البلد» في حي «العشماوي»، أو غيره من الأحياء الفقيرة، ويردد معهم أغان شعبية مرحة، مما يحلو للصهبجية ترديدها في أفراحهم الشعبية، ومجالس المجون. وذات مرة طلبت منه فرقة «ترقية التمثيل العربي» تلحين رواية «طيف الخيال»، وفيها مشهد يؤديه حاو، فراح يبحث في شوارع القاهرة عن أحد الحُواة ليستلهم منه لحن المشهد، وفي أحد الشوارع وجد حاويا مطابقاً لتصوره،لاقت المسرحية نجاحا كبيرا، وكان اللحن هو:
في هوى حاوي البها.. ضاع مالي والنهى
عنه رضوان ســــها.. حـــور عين أمّ ملك
الهوى روض أغــن.. والطلا سيف الحزن
بين أربــاب اللســن.. نور الصفا قد أمّ لك
قيل في الورد ضحى.. أنت خــد تحتــــرق
كل حســـــن وضحا.. باللواحي تحـت رق
ووصف الخلعي «الصهبجيّة» في كتابه «الموسيقى الشرقيّة» وكانوا في الواقع «أصحاب قهاوي الحشيش»،وإن استخدم المصطلح بشكل ألطف في الأشعار لاحقا، وكانت تلك المقاهي تشهد حفلات الزفاف الشعبية، وحضرها هو كثيرا، وقال عنها: «كانوا يجلسون جماعتين متقابلتين على دكّتين وسطهما طاولة عليها شمع وزجاجات الخمر البخس، يُغنُّون الموشّحات المصريّة والشاميّة. وعند نهاية الموشّح يبدأ أحد الصبية بغناء موّال غاية في سخافة الألفاظ وقبح المعاني». يقصد الكلام الإباحي.
وكان يتمتع بروح ساخرة، فلم يوفر «الدخلاء على الفن»، وهجاهم بشدة في واحدة من قصائده اللاذعة، قال فيها:
ومغنٍ إن تغنَىَ أوســـع الندمان غمــــا
صوته سـوط عـذاب ليتني كنت أصما
كفّه والدفّ عكس يبــــدل التكَّات تمـــا
دُفُّه يٌدوّى كصـوت الرعد للآذان أصما
أحسن الجُلَّاس حظا كل من كان أصما
جاء في التنزيل عنه أنكر الأصوات حتما
ويذكر «محمد يوسف دخيل» في مقالته أنه كان برفقة «الخُلعي» مرة في «باب الخلق» وصادفا «صاحب عربة بحصان» أثقل عليه الرجل بحمولة كبيرة، فهجم «كامل الخلعي» فجأة بعصبية على العربجي وصمم على اقتياده إلى قسم البوليس بسبب قسوته على الحصان!.
واشتهر الخُلعي في حياته، بالكرم الشديد، وحنوِّه على الفقراء، وإنفاقه أكثرية دخله عليهم، وكان يطوف الشوارع والحارات ليطعم الكلاب والقطط الشريدة، وربما هذا ما ضاعف اعتقاد الناس الخاطئ بخلّله النفسي!!.
وامتدادا لسوء حظه بعد رحيله، انقض كثيرون على ألحانه، وأغانيه في أوبرتاته القديمة وتناتشوها وحوّلُوها إلى مقطوعات وألحان وأغان منسوبة إليهم، وتكتسبوا منها أموالا كثيرة، بينما كان أولاد «كامل الخلعي» يعانون شظف العيش، والإهمال الاجتماعي المطبق.
ولم يتوصل أحد لتفسير منطقي لما حدث للرجل قبل وفاته، من تدهور أحواله، بعدما كان ميسورا، فقد باع مئات الألحان للفرق المسرحية، وفي نهاية حياته لم يكن يجد قوت يومه، ولا ثمن الدواء بعدما داهمته الأمراض، وحاول البعض إرجاع ذلك لنشره عدة كتب تكلفت الكثير من المال، لاحتوائها العديد من الصور والنُوت الموسيقية، ولم تجد جمهورا إلا بين المتعلمين وهواة الموسيقى وهم قلة، ويرى البعض أن هناك سببا أهم من ذلك وهو عزوفه عن مسايرة شركات الاسطوانات التي لم تهتم بنشر أعماله الجادة، تماما مثل الأزمة المالية التي تعرض لها «سيد درويش»، للأسباب ذاتها، ومثلهما تعرض «بديع خيري» لأزمات.
ومما يستحق الذكر هنا عن سنواته الأخيرة، أن «مغنية كبيرة» (تقريبا أعرفها لما اشتهرت به من البخل والتصرفات الشبيهة) رفضت إعطاءه مقابل تلحينه أغنية لها، بينما حققت من وراءها مئات الجنيهات، ولم يكن في بيته حينها بضعة قروش. وانصرف عنه الجميع. وربما كان اجتماع هذه الظروف القاسية، هو ما دفعه للانتقام من المجتمع الجاحد، وربما من نفسه أيضا، بالإقدام على أغرب تصرف يمكن أن يفعله فنان ناجح بحياته!!.
فقد عمل ماسحا للأحذية!!
فهل كان هذا تعبيرا عن سخطه، واحتجاجا على ما آل إليه حاله، أم تأديبا لنفسه لأنه صرف الآلاف التي ربحها، وربما عشرات الآلاف على كل المحيطين من دون تحوط للأمراض والعوز!
وفي هذا الشأن، يُحكى أنه دخل أحد المقاهي القاهرة ذات مرة حاملا صندوق الورنيش، فأشار إليه أحد الجالسين ليمسح له الحذاء، لكن صدمة صعقت الرجل الذي أشار إليه، حين فوجئ بأن ماسح الأحذية هو صديقه القديم الموسيقار «كامل الخلعي».
كان الرجل هو «محمد العقاد الكبير» أشهر عازفي القانون في زمانه. وبادر من فوره لمعانقة الخُلَعِيِ، وبكي متأثرا بالمشهد، وتحدث إليه وسأله عن أحواله، وماذا فعل به هذا، والموسيقار شارد لا يرد، وحاول العقاد تقديم بعض المال فأبى الخلعي بحسم، وأخذ خمس مليمات أجرة مسح الحذاء فقط وانصرف دون أن يلتفت. وكأنه كان مصمما على إبلاغ احتجاجه على تجاهله بتلك الصيغة القاسية!!.
وجدير بالذكر هنا أن هذه الحكاية ذاتها وردت بتفاصيل مختلفة في صيغتين، منها هذه، والأخرى منسوبة إلى «توفيق الحكيم»، و كان فيها الشيخ «سلامة حجازي» هو الجالس على المقهى، بدلا من «محمد العقاد» لكن «العقاد الكبير»، المولود سنة 1850 توفي عام 1931، وهو العام ذاته الذي توفي فيه كامل الخُلعي، أما الشيخ «سلامة حجازي» فقد توفي 1917، في عز تألق «كامل الخلعي» في التأليف والتلحين والغناء، ووقتها كان يتمتع بشهرة واسعة، وسمعة طيبة في الوسط الفني، وميسور الحال جدا. والمنطقي أن تلك الواقعة حدثت في نهاية حياته، وقتما انفض الناس من حوله، وقبل أن يضرب الشلل جسده ويقعده حتى الموت.
ومن الأهمية هنا أيضا، توضيح أن «محمد العقاد الكبير» كان أشهر عازف للقانون، وشارك في تخت «عبده الحامولي»، وكان يتمتع بصوت جميل. وتولى لاحقا رئاسة تخت «أم كلثوم»، وتزوج من ابنة عبده الحامولي بعد رحيله وفاءً لأستاذه، وأنجب ابنَهُ مصطفى العقاد رائد آلة الإيقاع، الذي أنجب «إسماعيل العقاد» عازف الكمان، و«محمد العقاد الصغير» عازف القانون أيضا، وهذا الأخير (العقاد الحفيد) هو من تزوج المطربة اليهودية «سعاد زكي» وسافرا في وقت لاحق إلى نيويورك ثم اسرائيل، ومات هناك، ودفن في يافا، لهذا رأيت ضرورة الفصل بين العقاد الكبير، والعقاد الصغير حتى لا يقع أي التباس بينهما.
وبعد رحيل «كامل الخلعي» لم يتذكره، غير صديقه «محمد يوسف دخيل» في مقالة أراها هزيلة جدا، نشرت في «مجلة الرسالة» (وأظن تاريخ نشرها غير صحيح)، في ذكراه قال فيها: «إذا أثيرت في مجلس ذكرى «كامل الخُلَعي» انطلق المتحدثون في تناول ذكراه بشتى أنواع الحديث وليس فيهم من يضع إصبعه على نقطة الصواب من أحاديث المجلس، وأغلب ما يجتمع عنده حديثهم أن الرجل كان «مخبول العقل!»، وهي كلمة طالما ترامت إلى سمع «كامل» وهو حي يرزق، فكان يبتسم لها في اطمئنان غير مبال بما يذهب إليه الناس في شأنه من مذاهب. ذلك لأنهم ما كانوا يجدون لأنفسهم مخرجاً من التفكير في عقلية «كامل الخلعي» إلا أنه مخبول ذلك الذي يطوف الحارات والأزقة باحثاً عن الكلاب الضالة والقطط المشردة ليدفع إليها من الطعام ما يباعد بينها وبين الجوع».
فأي أسى يضرب القلب، لسوء ما انتهى إليه هذا الفنان، الذي بذل جهودا مخلصة للارتقاء بالفن والغناء المصري!!.