ثقافة

الأدب عرَّاب فهم أغوار النفس البشرية.. قراءة في علاقة علم النفس بالأدب(2-2)

يرى المعارضين لعلم النفس الأدبي والناقمين عليه، في أساليب التحليل الأدبي للقصيدة أو الرواية أو القصة، ما يكفي لفهم الأديب والدوافع التي أدت إلى أن يبدع ما أبدعه. غير أن أساليب التحليل الأدبي غير كافية لفهم طبيعة الإبداع والعوامل التي تؤدي إلى أن يبدع الأديب. فالأحكام التي يصدرها المحللون للأدب على الطريقة التقليدية عامة، متناقضة وسطحية. وفي الغالب يطغى عليها مجرد الشرح للقصيدة. والتعرض للإرهاصات التي مر بها الأديب بشكل أو بآخر في محاولة فجة لفهم شخصيته وبيئته الاجتماعية.

كما أن الشارحين والمحللين التقليديين للأدب، لا يعلمون إلا القليل، عن التطورات والتقدم الذي أحرزته المعرفة العلمية في حقل علم النفس عامة، وحقل علم النفس الأدبي خاصة؛ وعندما يصلون إلى لُب المسألة المتعلقة بالإبداع، يكتفون بالقول إن الأديب صاحب موهبة وإن الظروف التي عاشها أثرت عليه وأن طفولته كانت كذا وكذا. وكل ذلك عبارة عن محاولات ينقصها السند العلمي النظري كما ينقصها التحليل الدقيق.

تكشف قصائد أبي نواس، ومسرحيات شكسبير، وروايات نجيب محفوظ… إلخ. عن جوانب من النفس البشرية سواء عند أصحابها أو عند الآخرين، قد تعجز عن كشفه الدراسات النفسية التجريبية. وكما سوف نرى فيما بعد، فلقد لعب الأدب اليوناني القديم دورا كبيرا جدا، في نظريات فرويد حول النفس، وفي بناء عدد من المفاهيم النفسية التي لا غنى عنها، في أية محاولة لسبر النفس البشرية .تحت ضوء ما تقدم يمكننا إجمال موضوع علم النفس الأدبي فيما يلي :

1 – دراسة مجريات الحياة النفسية للأديب من خلال إنتاجه .

2 – دراسة العوامل التي تساهم في جعل إنسان ما ينتج أدبا .

3 – دراسة العوامل التي تساهم في عمليات الإبداع الفني عموما والأدبي خصوصا. إن علم النفس الأدبي يحاول أن يجيب على سؤال هام واحد هو :كيف ولماذا يبدع الأديب أدبا؟

بذلك يسعى علم النفس الأدبي إلى إثراء المعارف حول النفس البشرية عامة. فعلى الرغم من كل التقدم الذي عرفه علم النفس في خلال المائة عام المنصرمة، فما زالت معارفنا عن طبيعة النفس البشرية قليلة خاصة إذا ما قورنت بالمعارف التي حاز عليها الإنسان في العلوم الطبيعية والتكنولوجيا. إن الدراسة النفسية للأدب تكشف لنا عن جوانب لا تكشفها الدراسات التجريبية. بالإضافة إلى إثراء المعارف حول بعض الأمراض والانحرافات النفسية. لقد وجد أن أكثر المبدعين في الفن يعانون من بعض الأمراض النفسية، التي ربما كان لها الأثر الحاسم في إبداعهم الأدبي كما هو الحال مثلا في حالة أبي نواس .

بالرجوع إلى كتاب: “أبو نواس: الحسن بن هانئ” للأديب والفيلسوف عباس محمود العقاد (1889-1964) نجد: (أن طبيعة أبي نواس لم تكن من الطبائع التي تتسلل إليها العقد النفسية؛ لأنه كان يبوح برذائله ويتكشف بها ويتعمد أن يجابه الناس بها علانية، وإنما تكمن العقدة النفسية في طوية الإنسان، أو تتسلل إليها من الكبت وطول الكتمان).

إلا عقدة واحدة هي الاستثناء لهذه القاعدة وهي “عقدة الإدمان”. فقد كان إدمانه الخمر هوسا، ولم يكن مجرد عادة أو لذة ذوقية، ولا بد وراء كل هوس من عقدة نفسية. فما هي هذه العقدة التي أثبت نفسا محصنة من العقد، فغلبتها ولم تفلح فيها إباحته، ولا العلانية التي عاش فيها من طفولته إلى ختام عمره.

إنها غلبته؛ لأنها جاءته من قبل طبيعته، ونعني بها الطبيعة النرجسية.

فهي الطبيعة التي تزين للنرجسي عادات العرض والظهور، وهذه العقدة النفسية ليست مما يتقبل العرض والظهور؛ لأنها مهينة لصاحبها مذلة له بين قومه، وهي خسة النسب في عصر الأنساب والأحساب.

وربما خطر لبعضهم، أن إنسانا مثل أبي نواس في مجونه واستخفافه؛ لا يعيى بمثل هذه العقدة، ولا يتحرج منها وهو لم يتحرج قط من منكر أو رذيلة، لكنه عند النظر إليه خاطر خاطئ، لا يثبت على التأمل والمراجعة، فإن احتمال الهوان يهدم النرجسي، ولا يبقي له بقية يعتصم بها، وأما احتمال الملام والنقد فقد يجاري طبيعته إذا كان فيه معنى التحدي ولفت الأنظار، وقد يهزأ النرجسي بالملام والنقد مع علمه برياء اللائمين وتذبذب الناقدين، واعتقاده أنهم مثله في الفجور وإن خالفوه في الظهور.

وينبغي أن نعرف قوة هذه العقدة النفسية في زمان أبي نواس، خاصة قبل أن نعرف السر في غلبتها عليه، وعلاجه لها بإدمان السكر والتهافت على عشرة الندماء. فالعصر الذي عاش فيه أبو نواس كان معترك الأنساب والأحساب بين كل إنسان، وكل إنسان في العصر الذي عاش فيه.

لمزيد من الاطلاع انظر عباس محمود العقاد: أبو نواس: الحسن بن هانئ، “فقرة عقدة الإدمان”، ص(95 وما بعدها).

يعتبر الأديب كائنا بشريا يعيش ضمن مجتمع له مشاكله وثقافته وأتراحه وأفراحه. والأديب يتأثر (ويؤثر) بالأحوال السائدة في مجتمعه؛ فيكتب عنها ويحللها من خلال منظاره الفردي الذاتي. لهذا يمكن لنا أن ندرس الأوضاع الاجتماعية السائدة في وقت ما، من خلال الإنتاج الأدبي، نثرا كان أو شعرا أو قصة أو مسرحية أو رواية. وتعد روايات نجيب محفوظ أفضلَ مثالٍ في هذا المضمار .

إن الإنسان صانع ثقافة. وتوجد ثقافات عديدة تتشابه وتختلف عن بعضها إلى حد ما. والشعوب تصنع الثقافات كما أن الثقافات تصنع الشعوب. وبما أن الأدب جزء من الثقافة، يصبح بالإمكان أن ندرس خصائص الشعوب من خلال ثقافتها عامة، ومن خلال آدابها خاصة. وعندما تبرز الخصائص الثقافية (من خلال الدراسات النفسية للأدب) تستطيع عندئذ أن نعرف بدقة المقومات الأساسية للشخصية القومية. وهذا كله يساهم في تحقيق الاستقلال الثقافي لشعب من الشعوب. في أن الدراسة النفسية للأدب العربي إبان النهضة العربية قبل وبعد الحرب العالية الأولى، يساعد على بناء الشخصية العربية القومية الأصيلة، وفهم عوامل تكوينها بدقة.

وأخيرا.. قد تساعد الدراسة النفسية للأدب في تكوين أدباء جدد. فالأديب المبتدئ بحاجة إلى معارف جمة عن مجريات الحياة النفسية للأدباء، كما يحتاج أيضا لدراسة العوامل النفسية التي تساهم في إبداع المبدعين من الأدباء كل على شاكلته.

ففي كتاب “علم النفس الأدبي مع نصوص تطبيقية” يوضح الناقد والباحث اللبناني إبراهيم فضل الله، أهمية ودور العامل والمضمون النفسي في المنتج الأدبي، مبينا أن عالم النفس سيغموند فرويد لجأ إلى الأدب ليبرهن على صحة نظرياته في التحليل النفسي، فحلل عقدة “أوديب” من خلال الأدب اليوناني القديم.

كان فرويد يعقد مقارنة بين عمل الروائي وعمل الطبيب النفسي، ويقول في هذا الصدد، إن الاثنين مجالهما الحياة النفسية، وما يصل إليه الطبيب النفسي بالعلم يبلغه الأديب بالحدس، وغير مطلوب من الطبيب النفسي أن يأخذ بالمنهج الأدبي.

ففي هذا السياق، أكد فرويد استفادته من الأعمال الأدبية والأساطير في صياغة مصطلحات التحليل النفسي الشهيرة، مثل: “الأوديبية” نسبة إلى أوديب، و”النرجسية” نسبة إلى أسطورة نرجس، و”السادية” إلى الماركيز دو ساد، وما إلى ذلك. وذهب إلى وجود ما يثبت أن الأدب قد تجاوز الطب النفسي التقليدي، وأن الروائي دائما ما يسبق رجل العلم في اقتحامه عالم النفس، بكل ما فيه من حيل وعقد وصراعات وإحباطات. وفي هذه الحالة، يصبح المبدع أو الأديب -وفق مدرسة التحليل النفسي- شخصا ذا استعداد للانطواء والعزلة، وليس بينه وبين مرض “العصاب” مسافة بعيدة. وهو شخص تحفزه نزعات عنيفة صاخبة، فهو يصبو إلى الظفر بالقوة والتكريم والثراء والشهرة ومحبة النساء، لكن تعوزه تلك الوسائل التي توصله لتحقيق تلك الغايات، لذا فهو يعزف عن الواقع، شأنه في ذلك شأن كل فرد لم تشبع رغباته، وينصرف بكل اهتمامه وبكل طاقاته “الليبيدية” أيضا إلى الرغبات التي تخلفها حياته الخيالية، ما قد يسلمه بسهولة إلى المرض النفسي.

وأيضا وفق تلك المدرسة يصبح المنتج الفني أو الأدبي مظهرا من مظاهر السلوك، ولذا؛ فلا بد من ربط هذا المنتج بشخصية صاحبه، على أساس أنه يعبر بطريقة رمزية عن هذه الشخصية، خاصة دوافع بعض السلوك الشعورية وغير الشعورية.

ومن ثم، نجد أن العلاقة القائمة بين الأديب وعمله هي علاقة مزدوجة ذات اتجاهين، إذ يمكن من خلال تحليل العمل وتفسيره إلقاء الضوء على بعض اتجاهات الأديب ودوافعه، وما قد يعانيه من صراعات نفسية، كما أن معرفة الملابسات الحياتية التي عاش في ظلها، خاصة الخبرات التي مر بها منذ طفولته، تساعد على تحليل وفهم النص الأدبي الذي ينتجه. وعلى سبيل المثال، يساعدنا فهم الخبرات الحياتية التي مر بها المؤلف في معرفة الأسباب التي دفعت الأديب، ولماذا طرق بعض الموضوعات دون غيرها، وصياغة أسلوبه بشكل خاص على هذا النحو، لذلك غالبا ما نكتشف أن الأديب أو الشخص المبدع يعاني كثيرا من الصراعات، وأن النص أو المنتج الأدبي إنما هو حلٌ لهذا الصراع النفسي القائم بين الرغبة ومعوقات الإشباع، أو بين مبدأي اللذة والواقع، حيث يلجأ الكاتب لا شعوريا ربما إلى كبت رغباته من أجل التصالح مع الحضارة. وبالتالي يستطيع الأديب أن يتناول أية قضية من القضايا النفسية، ويكتب فيها من منظوره الأدبي أو الفني، من دون أن يكون في تناوله للقضايا العلمية أي انتقاص من الناحية الجمالية. فالجهد النظري الذي قام به فرويد، ترك أثرا لا يمكن تجاهله في الثقافة المعاصرة، فصار أساسا فكريا انطلق منه أتباعه ليطبقوه على أبحاثهم، في الفن والأخلاق والدين والميثولوجيا والسياسة والتاريخ.

وهكذا نجد أن البدايات الأولى للتحليل النفسي الأدبي كانت قد تمت عندما اجتمع حول فرويد، منذ العام 1902، جماعة صغيرة من الأتباع، وكونت معه المؤتمر الأول للتحليل النفسي في سنة 1908. وفي العام 1910، تأسست الجمعية الدولية للتحليل النفسي، واستمرت تعمل كتنظيم مركزي للمحللين النفسيين في أنحاء العالم. وطبّق رانك -أحد أعمدة الجمعية الدولية للتحليل النفسي- تقنيات التحليل النفسي على مجالات الأدب والفن وعلم الاجتماع .

كما ساهمت كتابات أدلر ويونغ، وهما من تلامذة فرويد، في اكتشاف الشخصية اللاشعورية. وأيضا دراسات فراي. ويجد المؤلف أنه -بعد ذلك- انتقلت الدراسات إلى الأدب فأعدَّت ماري بونابرت تحت إشراف أستاذها فرويد، دراسة في التحليل النفسي الأدبي، حلَّلت فيها إحدى الشخصيات الأدبية، ثم تلتها دراسة رينيه لافورغ حول شارل بودلير 1821-1867. وتتابعت سلسلة الإصدارات والدراسات والمنشورات الداعية إلى اعتماد التحليل النفسي في نقد الأدب.

ترتكز مناهج التحليل النفسي الأدبي على نظرية مفادها أن النص الأدبي هو من نتاج لا شعور كاتبه، وبالتالي تكون مهمة تحليل المؤلف هي التدرج في البحث عن اللاشعور، والتفتيش عن المكبوتات الطفولية المبكرة التي حدثت للمؤلِّف، والتي انعكست على نصه، فكل نص أدبي هو من نتاج هذه المكبوتات الطفولية أو صدمة الميلاد.

ولقد أثر التحليل النفسي في الأدب عندما ركز على أثر اللاشعور في النتاج الأدبي، ونتيجة لهذا التأثير برزت في فرنسا، بين العامين 1920-1938، حركة أدبية كانت لا تعترف بالقيمة الشعرية، إلا إذا كان الشعر من نتاج اللاشعور، وعرفت هذه الحركة بالمدرسة السريالية. وكان السرياليون لا يعترفون بقيمة للشعر إلا لذاك الناتج عن تداعي الأفكار. ولذلك ركز أصحاب هذه المدرسة دعوتهم على الكتابة العفوية.

خلاصة القول، يسعى علم نفس الأدبي إلى دراسة نفسية المبدع، وعملية الإبداع المنتجة للنص، وكذلك دراسة العلاقات والبُنى التي تؤسس النص، وسيكولوجية الأدب التي تطال بالدراسة حتى الأثر الافتراضي على جمهور المتلقين في ما يعرف بـ “سيكولوجية الجمهور”. والواقع أن الأدب أصلح الميادين الفكرية لإظهار العلاقة الوثيقة بينه وبين علم النفس، لأنه نتاج اللاشعور قبل أن يكون حصيلة الوعي والإدراك. سئل رائد التحليل النفسي فرويد عن الأساتذة الذين أثروا في تكوينه، فكان جوابه إشارة من يده نحو مكتبته، حيث اصطفت روائع الكتب العالمية. والحق أن الأعلام الذين ورد ذكرهم في دراسته، دليل واضح على سعة مطالعاته الأدبية، وإفادته من تراث البشرية. فجواب فرويد السابق، دليل على الصلة الوثيقة بين الآداب والفنون من جهة، وعلم النفس من جهة أخرى، نظرا إلى أن الشعراء هم “علماء النفس الأوائل الذين سهلوا لمن جاء بعدهم من علماء العصور الحديثة، اكتشاف أعماق النفس البشرية”، ولذا، نجد فرويد يشيد بأولئك العارفين الضليعين بالنفس الإنسانية الذين اعتدنا تكريمهم “باسم الشعراء وأدباء”.

المراجع المعتمدة:

– خير الله عصّار: مقدمة لعلم النفس الأدبي، منشورات بونة للبحوث والدراسات، عنابة (الجزائر)، ط1، 2008.

–  إبراهيم فضل الله: علم النفس الأدبي مع نصوص تطبيقية، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2011.

– محمد حسن غانم: علم النفس والأدب (أسئلة حائرة وإجابات مراوغة)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2019.

– أنور عبد الحميد الموسى: علم النفس الأدبي: منهج ” سيكولوجي ” في قراءَة ” الأعماق “، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 2022.

– محمد مندور: في الأدب والنقد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2022.

– عباس محمود العقاد: أبو نواس: الحسن بن هانئ، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2014.

– إبراهيم أبو عواد: الترابط بين علم النفس والأدب والتاريخ، مجلة التنويري، 9 مارس، 2024. https://altanweeri.net/11778/

–  رشا أحمد: علم النفس والأدب… صراع حول أسرار النفس البشرية، صحيفة الشرق الأوسط، ديسمبر 2020. https://2u.pw/pSGvrE6

– أنور محمد: علم النفس الأدبي، موقع البيان، دبي (الإمارات العربية)، 15 يوليو 2012. https://www.albayan.ae/paths/books/2012-07-15-1.1688428

– Dick Schram and Gerard J. Steen: The Psychology and Sociology of Literature, John Benjamins Publishing Company, Amsterdam (Netherland), December 2001.

حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock