ياسمين لورش – زميل باحث في «المعهد الألماني للدراسات العالمية والإقليمية»- (GIGA)
حاتم شقرون – باحث في «المرصد التونسي للتحول الديمقراطي» – (OTTD)
عرض وترجمة: أحمد بركات
للوهلة الأولى، قد تبدو السلفية والشعبوية ضدين لا يلتقيان. ففي نسختها التقليدية غير المسيسة تحديدا، تتسم السلفية بفهمها الديني المتشدد، وتركيزها الصارم على مظاهر التقوى المرتبطة بحزمة جامدة من الطقوس الدينية، والتزامها التام بمنهج التوحيد. وعلى الجانب الآخر، ترتبط الشعبوية بوجه عام بالسياسات المشخصنة، والقيادات المتحمسة، واستخدام خطاب شوفيني يصل في بعض الأحيان إلى حد الابتذال،.
رغم ذلك، بينما عُرفت السلفية لوقت طويل بنسختيها غير المسيسة، و الجهادية العنيفة.
تشير البحوث والدراسات الحديثة إلى الدور بالغ الأهمية الذي بات يلعبه السلفيون السياسيون الذين يعملون ضمن أنواع مختلفة من الأنظمة السياسية القائمة.
تفاوض على الحضور.. لا الإصلاح
وبينما تعود جذور السلفية السياسية إلى المملكة العربية السعودية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، إلا أن هذه الظاهرة لم تثر الاهتمام السياسي والأكاديمي إلا بعد صعود الحركات السلفية السياسية في العديد من بلدان الشرق الأوسط في أعقاب الربيع العربي، وهو التوجه الذي تجلى أكثر ما تجلى في «حزب النور السلفي» في مصر الذي حصل على أكثر من 24% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية 2011 – 2012.
وكما تؤكد الأبحاث التي أجريت مؤخرا حول هذه الظاهرة، خاصة فيما يتعلق بنشاطاتها واستراتيجياتها، فإن السلفية السياسية أكثر برجماتية ومرونة وتطويعا لنفسها مع متغيرات الواقع من كل من السلفية غير السياسية والسلفية الجهادية محدوديْ المرونة والتكيف كما أن السلفية السياسية أكثر انفتاحا من السلفيتين الأخريين على الأيديولوجيات والقوى السياسية الأخرى.
وتشير حالة «ائتلاف الكرامة» التونسي إلى أن الانفتاح ’التكتيكي من قبل بعض السلفيين السياسيين يمكن أن يمتد أيضا إلى اللقاء مع الشعبوية.
إننا نضع صعود «ائتلاف الكرامة» داخل سياق التحول الديمقراطي الناجح، ولكن غير المكتمل، الذي تشهده تونس، والذي لا يزال تكتنفه كثير من الصعوبات. وبحسب «أمل بو بكر»، فإن هذا التحول قد شكل حتى الآن عملية تخضع لقيادة نخبوية تعيد فيه النخب العلمانية والإسلاموية المعتدلة المتنافسة التفاوض حول حضورها داخل الفضاء السياسي على حساب صياغة إصلاحات بنيوية مهمة، وتهميش العديد من القوى الاجتماعية والسياسية البديلة، وبالتالي احتكار المشهد السياسي ما بعد الثورة. وكما سيتم تفصيله لاحقا، تمكن «ائتلاف الكرامة» من خلال هذا السياق من جذب عدد قليل، ولكن مؤثر، من الناخبين من خلال الشعبوية الدينية اليمينية، حيث قدم نفسه كقوة (ثورية)!! تهدف إلى مساعدة المهمشين والمقهورين. ومن ثم فإن صعود «ائتلاف الكرامة» يشير أيضا إلى مخاطرة أكثر عمومية تحيق بعملية دمقرطة تحتكرها النخبة وحدها، وتتعرض للاستغلال – وربما التهديد أيضا – من قبل القوى الشعبوية الدينية بمختلف أنماطها.
الشعبوية والسلفية السياسية
يُعرِّف عالم السياسة الهولندي «كاس مود» الشعبوية بأنها «أيديولوجيا تعتبر المجتمع منقسما بصورة نهائية إلى مجموعتين متجانستين وعدوانيتين إلى أقصى درجة، وهما ’الشعب النقي‘ و’النخبة الفاسدة‘، والتي تؤكد أن السياسة يجب أن تكون تعبيرا عن الإرادة العامة للشعب». من هنا – كما يؤكد مود – فإنه بالإمكان «دمج الأيديولوجيا الشعبوية مع أيديولوجيات أخرى مختلفة تماما». وبينما يشير مود في المقام الأول إلى كل من الأيديولوجيات اليمينية واليسارية – ومن ثم إلى أحزاب شعبوية مختلفة من اليمين واليسار – في ديمقراطيات ليبرالية راسخة في أوربا والولايات المتحدة، إلا أنه من السهولة بمكان أن نتصور أن بناء انقسام بين ’الشعب النقي‘ و’النخبة الفاسدة‘ قد يتناسب تماما مع بعض تمثلات الأيديولوجيا السياسية السلفية أيضا. أما الشق الثاني من تعريف مود للشعبوية – الذي يصف المطالبة بأن تكون السياسة «تعبيرا عن الإرادة العامة» كسمة أساسية للشعبوية – فيصعب توفيقه مع السلفية السياسية. يرجع هذا إلى أن السيادة بالنسبة إلى السلفيين السياسيين (كما هو الحال عند كثير من الإسلاميين المتحمسين) لا بد أن تكون لله، وليس للشعب. رغم ذلك، يؤكد مود أيضا أنه بدلا من أن تكون المرجعية للشعب ’الحقيقي‘، فإن الشعبويين بوجه عام يتحدثون عن «مجتمع متَصوَر». من حيث المبدأ، يمكن أن يشير هذا المفهوم أيضا إلى مجتمع قائم على أساس أيديولوجي ويضم المؤمنين بالسلفية. علاوة على ذلك، كما يؤكد مود بالاقتباس عن المفكرالسياسي «فريد زكريا»، فإن الشعبوية تمثل تعبيرا عن «ديمقراطية غير ليبرالية»، وهو شكل من أشكال الحكم الذي تروج له الكثير من الأحزاب الإسلاموية أيضا.
عالم السياسة الهولندي «كاس مود»
وفي مقال بصحيفة نيويورك تايمز حول تكتيكات التعبئة التي وظفها حزب النور إبان الانتخابات البرلمانية المصرية 2011 / 2012، يلفت «ديفيد كيركباتريك» إلى أنه بدلا من الدعوة دائما وفقط إلى تطبيق «أحكام دينية صارمة»، مثل حظر الخمور وفرض الحجاب وقطع يد السارق، عمد الشيوخ السلفيون المرتبطون بحزب النور في بعض الأحيان إلى شن «هجوم شعبوي صارخ على التنازلات التي تقدمها النخبة الليبرالية المصرية». ويمكن النظر إلى توظيف الأحزاب السلفية لهذا الخطاب الشعبوي باعتباره ممارسة لما أسماه «شادي حامد» «سياسة إثارة الامتعاض» في سياق تتزايد فيه التفاوتات بين كثير من المواطنين من جانب والنخبة السياسية الراسخة من جانب آخر، وهي ملاحظة وثيقة الصلة أيضا بالمشهد التونسي.
مجموعة من السلفيون يعدون جداول الانتخابات أثناء الانتخابات البرلمانية المصرية 2011 / 2012
تطور السلفية السياسية في تونس
في أعقاب الربيع العربي الذي أدى إلى سقوط نظام بن علي الاستبدادي، وانتخاب حزب النهضة الإسلامي المعتدل في عام 2011، توقع العديد من الخبراء تطور السلفية السياسية إلى قوة مهمة في المشهد السياسي التونسي. يرجع هذا التوقع على وجه التحديد إلى حقيقة أن تونس – على غرار مصر – شرًعت رسميا المشاركة السياسية للسلفيين في وقت مبكر. ففي بداية عام 2012، تمكنت ثلاثة أحزاب سلفية صغيرة في تونس – هي «جبهة الإصلاح»، و«حزب الأصالة»، و«حزب الرحمة»، الذين دعوا جميعا إلى تطبيق نظام قانوني قائم على الشريعة – من التسجيل في وزارة الداخلية.
لكن، بعد أقل من ثلاث سنوات بدت السلفية السياسية في تونس وكأنها قوة متراجعة، ولم تحظ الأحزاب السلفية السياسية جميعها سوى بنسبة تصويت ضعيفة للغاية في الانتخابات البرلمانية لعام 2014، ولم يفز أي منها بمقعد واحد في البرلمان. كما فشلت «جبهة الإصلاح»، بوصفها الحزب السلفي الأكبر والأكثر تعبيرا عن السلفية من الناحية الأيديولوجية، في إنشاء بنى تنظيمية وحزبية قادرة على البقاء والاستمرار في المشهد السياسي التونسي الصاخب.
لكن، من المثير للاهتمام أن عضوا في المكتب التنفيذي لجبهة الإصلاح أوضح في مقابلة أجريت معه في عام 2016 أن الجبهة شكلت قوائم انتخابية في بعض الدوائر ضمت مرشحين مستقلين بالتعاون مع حزب سياسي آخر يحمل اسم «الشعب يريد»، وهو ما يشير إلى قبول بعض قادة الجبهة الانخراط في مفهوم «السيادة الشعبية»، بل وفي الأفكار الشعبوية المتعلقة بمفهوم «الإرادة العامة» عند «مود».
وفي حين بقيت الأحزاب السلفية المسجلة رسميا بعيدة عن العنف، لكن بغير قيمة حقيقية على المستوى السياسي، قامت «حركة أنصار الشريعة تونس» – وهي حركة اجتماعية إسلاموية كانت تتمتع بدعم موسع من قبل الشباب المهمشين، وخلطت في البداية الخطاب الجهادي بالأنشطة الدعوية والسياسات المتشددة المثيرة للخلاف – بالتحول سريعا إلى ممارسة العمل الإرهابي بدءا من عام 2012 وما بعده. وأسهم الهجوم على السفارة الأمريكية في نهاية عام 2012، وعمليات الاغتيال التي وقعت في العام التالي ضد اثنين من السياسيين اليساريين التونسيين، وهما «شكري بلعيد» و«محمد الإبراهيمي» – وهو ما يُنسب كله إلى «أنصار الشريعة تونس» – في تصاعد التوتر بين حكومة حزب النهضة وحزب المعارضة العلماني «نداء تونس»، وهو ما كان نذيرا بعرقلة التحول الديمقراطي في تونس. وظلت الأوضاع تتفاقم حتى أنهت التسوية، التي توصل إليها حزبا النهضة ونداء تونس، بعد جهود تفاوضية، هذه الأزمة السياسية في عام 2013، وحظرت حكومة حزب النهضة «حركة أنصار الشريعة» باعتبارها منظمة إرهابية.
https://youtu.be/2s-fSDqXCPg
مسيرة حركة أنصار الشريعة تونس للمطالبة بتحكيم الشريعة أمام المسرح البلدي مارس 2012
(يُتبع)
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي، ومراجع الدراسة من هنا