حاصرت أحزاب المشركين المدينة في الحرب التي عرفت بغزوة الخندق، وأراد رسول الله أن يعلم أخبارهم، فانتدب لتلك المهمة حذيفة بن اليمان، المهمة لم تكن سهلة بأي حال، وكانت الأحوال كما وصفها الله في كتابه العزيز (هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً).
يروي حذيفة القصة فيقول: «لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً منها، أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: (إن بيوتنا عورة وما هي بعورة) فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، يتسللون ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك، إذ استقبلنا رسول الله رجلاً، رجلاً حتى مرَّ عليَّ، وما علي جُنة من العدو، ولا من البرد، إلا مرط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا؟، قلت: حذيفة، فتقاصرت إلى الأرض، فقلت: بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم، فقال: قم. فقمت، فقال: أتني بخبر القوم، قال: وأنا من أشد الناس فزعاً، وأشدهم قراً، فخرجت، فقال رسول الله: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته.
يقول حذيفة: فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوف إلا خرج من جوفي، فما أجد منه شيئاً، فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئاً حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا برجل أدهم ضخم يُقوِّل بيده على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل، الرحيل، ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون: الرحيل، الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبراً فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم، ومن بينهم الريح يضربهم بها.
ثم خرجت نحو النبي، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً متعممين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله وهو يشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون.
فأنزل الله عز وجل: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ. هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب: الآية 9 وما بعدها).
شارك حذيفة وأبوه رضي الله عنهما في غزوة أحد، وأثناء القتال، نظر حذيفة إلى أبيه فرآه وهو تتناوشه سيوف المسلمين ظناً منهم أنه من المشركين، فنادى: أي عباد الله، أبي، أبي، فلم يفهموا قوله، وما احتجزوا حتى قتلوه، وحين علم المسلمون تولاهم الحزن والوجوم، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، وانطلق يؤدي واجبه، وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله فيأمر بالدية عن والد حذيفة، ولكنه يتصدق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حبا له وتقديرا حتى أنه جعله صاحب سره.
ويروي حذيفة فيقول: بينما النبي سائر إلى تبوك نزل عن راحلته ليوحى إليه وأناخها النبي صلى الله عليه وسلم فنهضت الناقة تجر زمامها منطلقة، حتى لقيها حذيفة بن اليمان فأخذ بزمامها يقودها، حتى رأى رسول الله جالساً فأناخها، ثم جلس عندها حتى قام رسول الله فأتاه فقال: من هذا؟، فقال: حذيفة بن اليمان، فقال النبي: فإني مسر إليك سراً لا تحدثن به أحداً أبداً، إني نُهيتُ أن أصلي على فلان وفلان: (رهط ذوي عدد من المنافقين)، ولم يذكرهم رسول الله لأحد غير حذيفة بن اليمان، فلما توفي رسول الله كان حذيفة يقول: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي، كانوا يومئذ يُسرون واليوم يجهرون.
ولما استخلف عمر رضي الله عنه، كان إذا مات الرجل ممن يظن عمر أنه من المنافقين، الذين أبلغ عنهم النبي حذيفة، أخذ بيده فقاده، فإن مشى معه صلى عليه، وإن انتزع حذيفة يده فأبى أن يمشي، انصرف معه، ويأمر من يصلي عليه.
وفي مرض النبي الذي توفاه الله فيه، دخل حذيفة عليه فقال: يا رسول الله، كيف أصبحت بأبي أنت وأمي، يقول حذيفة: فردَّ عليّ بما شاء الله، ثم قال: يا حذيفة أدْنُ منّي، فدنوتُ من تلقاء وجههِ، قال: يا حُذيفة إنّه من ختم الله به بصومِ يومٍ، أرادَ به الله تعالى أدْخَلَهُ الله الجنة، ومن أطعم جائعاً أراد به الله، أدخله الله الجنة، ومن كسا عارياً أراد به الله، أدخله الله الجنة قلتُ: يا رسول الله، أُسرُّ هذا الحديث أم أعلنه؟، قال: بلْ أعلنْهُ، يقول حذيفة: فهذا آخر شيءٍ سمعته من رسول الله
وكان حذيفة رضي الله عنه يحب العزلة ويقول: لوددت أن لي مَنْ يصلح من مالي، وأغلق بابي فلا يدخل عليَّ أحد، ولا أخرج إليهم حتى ألحق بالله، ولمّا نزل بحذيفة الموت دخل عليه بعض أصحابه فسألهم: أجئتم معكم بأكفان؟، قالوا: نعم، قال: أرونيها، فوجدها جديدة فارهة، فابتسم وقال لهم: ما هذا لي بكفن، إنما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص، فاني لن أترك في القبر إلا قليلاً، حتى أبدل خيراً منهما، أو شراً منهما، ثم تمتم بكلمات: مرحبا بالموت، حبيب جاء على شوق، لا أفلح من ندم، وأسلم الروح الطاهرة لبارئها، ولم يكن قد مضى على مَقْتلِ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أربعين ليلة.