غيب الموت الكاتب الصحافي رجائي الميرغني، ليسود الحزن بلاط صاحبة الجلالة، إذ تعترف الأجيال الصحافية المختلفة بالقيمة التي مثلها الميرغني كأحد أبرز رجال العمل النقابي، إذ دافع بشراسة وثبات عن حرية الصحافة، ووقف ضمن كتيبة المقاتلين دفاعًا عن استقلال النقابة في واحدة من أهم وأكبر معارك المهنة في القرن العشرين.
توفي الميرغني صباح الأربعاء، إثر ذبحة صدرية، فغادر دنيانا عن عمر ناهز الـ 72 عامًا، لكنه ترك خلفه ميراثًا نقابيًا لا ينسى، فوكيل نقابة الصحافيين الأسبق عرف بإخلاصه للمهنة حتى النهاية، لم يعرف إلا مصلحة المهنة، فانخرط في الدفاع عنها وعن استقلالها بلا هوادة، فكسب محبة شيوخ المهنة وإجلال شبابها.
رجائي الميرغني
ولد الميرغني في 25 سبتمبر 1948، في العام الذي ضاعت فيه فلسطين، لذا لم يكن غريبًا أن يشب على الاهتمام بقضايا الأمة العربية، ويؤمن بالمصير العربي المشترك، وعندما تخرج من قسم الصحافة بجامعة القاهرة العام 1970، التحق بقسم الأخبار بوكالة أنباء الشرق الأوسط، لكن لم يكن غريبًا أن يتخصص في الشؤون الفلسطينية والعربية.
سرعان ما نحى الميرغني القلم مؤقتًا، لكي يتمكن من حمل السلاح ويشارك في حرب أكتوبر 1973، وكان في نفس فرقة المشير حسين طنطاوي، ضمن اللواء 16 مشاة الذي دخل معركة «المزرعة الصينية» بالدفرسوار، والتي تكبد فيها العدو خسائر فادحة، بينما أصيب الميرغني بشظية مدفعية، كانت كوسام شرف.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها عاد الميرغني إلى الصحافة والعمل في وكالة أنباء الشرق الأوسط، إذ واصل الترقي والصعود المهني حتى وصل إلى منصب نائب رئيس التحرير بالوكالة اعتبارًا من 2007، والمسؤول عن شبكة المراسلين بالوكالة، وخلال عمله بالأخيرة بدأ جهاده دفاعًا عن استقلالية المهنة بالدفاع عن استقلال الوكالة، فكان أحد المنضمين لحملة رفض إلحاقها بوزارة الإعلام 1984، والتي انتهت بتراجع الحكومة عن الفكرة.
وارتبط الميرغني بالعمل النقابي منذ مطلع الثمانينيات، ويحدث «أصوات أونلاين»، عن هذه الفترة نقيب الصحافيين الأسبق، يحيى قلاش، الذي يعد أحد أصدقاء العمر مع الميرغني، إذ أكد أن الميرغني ارتبط طوال عمره بفكرة الدفاع عن استقلالية الصحافة، وتابع: «لم يهتم الميرغني بكونه داخل مجلس النقابة أو خارجه لكي يعمل من أجل صالح المهنة وأصحابها، لذا ستجده في الصفوف الأولى دومًا».
يحيى قلاش
وأشار قلاش إلى زمالته مع الميرغني في مجلس النقابة «1995- 1999»، عندما اشتركا في خوض واحدة من أبرز وأكبر معارك النقابة في تاريخها، وهي معركة القانون (93) لسنة 1995، الذي كشف عن نية حكومية لتقليص حرية الصحافة، فشارك الميرغني مع عدد من الصحافيين والقانونيين في صياغة مشروع قانون الصحافة.
ويقول قلاش: «تجلى الأداء النقابي لرجائي الميرغني في تلك المعركة، إذ شارك بحسن إدارته وتنظيمه الجيد للأمور، ومن يقرأ أدبيات هذه المعركة سيرى بعينيه بصمات الميرغني في كل ما كتب، كان مثالا للنقابي وليس النقابنجي الذي يطنطن بلا أي فعل حقيقي، وهو ما تراه عندما دخل لجنة قيد الصحافيين، فكان يحرص على أن يقرأ كل ما يتقدم به الصحافي من مادة تصل في بعض الأحيان إلى عدة كراتين، ويقوم بنقلها إلى منزله لكي يقرأها بتمعن، كما أنه رفض تماما فكرة الكوتة التي تحدد لكل مؤسسة صحفية العدد المسموح به للقيد في النقابة، فكان شعاره هو قبول الصحافي طالما استوفى شروط التقدم».
وكشف نقيب الصحافيين الأسبق بعض المعارك التي خاضها الميرغني قائلا: «عند هدم المبنى القديم لنقابة الصحافيين، كانت توجد جدارية نادرة للفنان فتحي محمود، رفض الميرغني فكرة هدمها، وطالب بحمايتها وشاركته في ذلك، فتم الحافظ على الجدارية دون أن تمس رغم إصرار المقاول المسؤول على هدمها، وفي النهاية تدخل وزير الثقافة وقتها فاروق حسني، وأرسل مجموعة علمية للإشراف على فك الجدارية ونقلها للمقر المؤقت بالأزبكية تمهيدا لتركيبها في المبنى الجديد».
الفنان فتحي محمود
ولفت قلاش إلى انتصار الميرغني في معركة حماية ذاكرة الصحافة المصرية، إذ نزل إلى بدروم النقابة وبدأ عملية فرز وأرشفة تراث النقابة من الإصدارات الصحافية النادرة والدوريات المهمة، والتي يعود بعضها إلى القرن التاسع عشر، ومن ضمنها صحف عبد الله النديم، وكانت ملقاة على الأرض، يتهددها خطر التلف، فوضع نواة لحماية هذا التراث، ثم في سنوات لاحقة تم الاتفاق مع مكتبة الإسكندرية على أرشفة هذه النوادر بشكل رقمي.
عبد الله النديم
وكشف يحيى قلاش بعض الجوانب الخفية من حياة صديق عمره، إذ أكد أن العديد من الصحافيين لا يعرفون أن الميرغني كان صاحب مواهب متعددة، فهو شاعر وفنان تشكيلي أهدى بعض أعماله إلى النقابة، لكن الجانب الأهم هو حسه الأدبي العظيم الذي تجلى في مشروعه المهم وغير المنشور «يوميات حرب أكتوبر»، وأتمنى أن ننجح مع زوجته الزميلة خيرية شعلان، في نشرها تكريمًا لذكراه.
رجائي الميرغني وأسرته
وانتخب الميرغني عضوا بمجلس النقابة للمرة الثانية خلال دورة 1999- 2003، واختير خلالها وكيلا أول للنقابة ورئيسًا للجنة القيد، وخلال هذه الفترة وضع عدة قواعد مهنية لاختيار الأعضاء الجدد، وفي نفس الفترة اختير أمينًا عامًا مساعدًا للجنة الدائمة للحريات باتحاد الصحافيين العرب.
وأعد كتاب «الصحفيون في مواجهة القانون 1993»، كما نشر كتاب «نقابة الصحافيين» ضمن سلسلة النقابات المهنية التي يشرف عليها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فضلا عن عشرات المقالات والدراسات المنشور في مختلف الدوريات حول قضايا الصحافة والعمل النقابي والتطور السياسي.
وينتمي رجائي الميرغني إلى أسرة مهتمة بالشأن العام، فشقيقه إلهامي الميرغني، أحد مؤسسي حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، أما الشقيق الأصغر فهو الممثل المعروف ضياء الميرغني، صاحب الأدوار الكوميدية في السينما المصرية.
ضياء الميرغني