اهتم باحثو العلوم السياسية بدراسة المدينة كفضاء للممارسة السياسية، وانطلق بعضهم من مفهوم للمدينة يستند إلى اعتبارها المكان الذي يتجسد فيه التفاعل اليومي، ويتم فيه الاعتراف بالاختلافات الثقافية، ومن ثم تصبح المدينة وكأنها مسرح يُدار على خشبته دراما الحياة اليومية. لذا لم يكن من المستغرب أن يجد بعض باحثي العلوم السياسية في الأعمال الأدبية مادة ثرية للبحث والتنقيب عن صور التفاعل اليومي التي تعكس علاقات القوة داخل المدينة، إلى جانب التعرف على كيفية تعامل الأدباء مع المدينة كفضاء للممارسة السياسية.
باحثة العلوم السياسية شيماء محمد الشرقاوي، في رسالتها للماجستير التي حصلت عليها من قسم العلوم السياسية، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تحت عنوان: «الأدب كمصدر للفكر السياسي في مصر: دراسة في المدينة وعلاقات القوة.. مدينة القاهرة نموذجًا»، طرحت في دراستها عدة تساؤلات حول كيفية معالجة الأعمال الأدبية المصرية لقضايا علاقات القوة وتحولاتها داخل مدينة القاهرة، مع التركيز على عدد من القضايا، كان من بينها قضية تتعلق بالكيفية التي أصبحت بها مدينة القاهرة فضاءً للممارسة السياسية خلال الفترة من بداية القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين، مستعينة في دراستها لتلك القضية بثلاثية أديب نوبل نجيب محفوظ التي أطلق عليها البعض «ثلاثية القاهرة»، ورواية «شرق النخيل» لبهاء طاهر.
شيماء محمد الشرقاوي
قاهرة نجيب
نجيب محفوظ عاشق القاهرة الأبرز الذي ولد بـ «حي الجمالية» القديم عام 1911، عاصر ثورة 1919 وهو لم يزل طفلا، غير أنه حين كتب ثلاثيته بات وكأنه مؤرخ الثورة الأوحد، يروي عن علاقته بعالم السياسة في حوار أجراه معه الأستاذ جمال الغيطاني، وصدر في كتاب بعنوان «نجيب محفوظ يتذكر»، إذ قال أديب نوبل: «دخلت السياسة حياتي منذ الطفولة، عندما كنت أرى المظاهرات في ميدان بيت القاضي. كانت المظاهرات الحقيقية في الأحياء الشعبية ما أذكره، ويهزني حتى الآن مظاهرات النساء في ميدان بيت القاضي وشوارع الجمالية».
شكلت ذكريات الطفولة لدى محفوظ المعين الذي لا ينضب نهل منه بمختلف أعماله، وعندما خط ثلاثيته التي أفرد فيها مساحة كبيرة لأحداث ثورة 1919، باتت الثلاثية وكأنها وثيقة تاريخية تروى عن القاهرة وثورة 1919، وصولا للحرب العالمية الثانية.
تلفت الباحثة شيماء الشرقاوي النظر إلى اهتمام محفوظ بتصوير المكان حيث كانت القاهرة نواته الأولى التي ينطلق منها ليعود إليها، فبات المكان وكأنه أداة فنية تساهم في تطوير الحدث ذاته، وفي تطوير النسيج الدرامي بما يكشفه المكان من صراعات نفسية ومادية. كما عبرت شخصيات الثلاثية عن ذلك الصراع الذي كان قائمًا بين مختلف التيارات الوطنية التي كانت متاحة على الساحة السياسية آنذاك.
تعاملت الثلاثية مع الصراعات الاجتماعية بوصفها صراعات بين قوى الرجعية وقوى الحداثة بفترة تاريخية بعينها، ومثل جيل السيد أحمد عبد الجواد وزوجته أمينة قوى الرجعية بما تضمنته من ثنائية التسلط والخنوع. فيما تمثلت قوى الحداثة في الطبقة البرجوازية العليا التي تنتمي إليها عايدة برواية «قصر الشوق»، فضلا عن الجيلين الثاني والثالث من أولاد السيد عبد الجواد وأمينة ومنهم: فهمي ذلك الطالب الذي شارك في ثورة 1919، فصار شهيدا، إلى جانب كمال طالب الفلسفة، وأحمد الشيوعي وعبد المنعم الإخواني بوصفهما رمزين لتيارين سياسيين اقتسما الفضاء السياسي فيما بعد.
ثلاثية نجيب محفوظ
تمكن محفوظ في ثلاثيته من التعبير عن الكيفية التي تم بها استخدام فضاءات مدينة القاهرة لفرض نوعًا من السيطرة على حركة المواطنين والتحكم فيهم، فضلًا عن كبح جماح أي حراك من شأنه أن يخرج عن النظام الذي باتت تفرضه سلطات الاحتلال الإنجليزي، ولم تقتصر حالة السيطرة تلك على فضاءات الأحياء الجديدة التي توطن بها الأجانب وبعض نخب البرجوازية المصرية، لكن الأمر امتد ليشمل تلك الأحياء القديمة.
«قالت أمينة وهى تلهث: الإنجليز يملؤون الطريق تحت بيتنا، هب فهمي من فراشه واثبا إلى النافذة، ورمى بصره فرأى تحت سبيل بين القصرين معسكرًا صغيرًا يشرف على رؤوس الطرق التي تتفرع عنده، يتكون من عدد من الخيام، وثلاث لوريات وشراذم متفرقة من الجند.. ورمى الشاب ببصره ناحية النحاسين فرأى معسكرًا ثانيًا عند تقاطع النحاسين بالصاغة كما رأى في الناحية الأخرى من بين القصرين معسكرًا ثالثًا عند منعطف الخرنفش.. وضحت له الحقيقة رويدًا، وهي أن الحي الذي أتعب السلطة المحتلة بمظاهراته المتواصلة قد احتُل احتلالًا عسكريًا».
كما كانت مدينة القاهرة فضاءً لإحكام السيطرة من قبل سلطات الاحتلال لدى محفوظ، كانت أيضا فضاءً عامًا للتشاور في أمور السياسة، وقد ربط محفوظ ما بين تتبعه لتطور عائلة «عبد الجواد» والأحداث العامة التي شهدتها مصر بتلك الحقبة التاريخية، من خلال اشتباك أفراد العائلة مع تلك الأحداث كل على طريقته.
توازت أحداث التظاهرات المطالبة بالاستقلال عن الاحتلال بالرغبة في التحرر من سطوة الأب وسلطته، وما تبعه من تغيرات في شكل ودينامية علاقات القوة داخل العائلة، ذلك أن محفوظ كان قد قارب ما بين ممارسة رب الأسرة للقمع داخل الفضاء الخاص للأسرة، وبين الاحتلال وممارسته لقمع المواطنين في الفضاء العام.
الفضاء العام لدى قاهرة محفوظ القديمة كان يقتصر على الرجال حتى اندلعت ثورة 1919، فخرجت نساء الحي القديم للمشاركة في المظاهرات المنددة بالاحتلال والمطالبة بالاستقلال، في حين كان فضاء أحياء المدينة الحديثة يحتوي على قدر من الحرية سواء في ممارسة السياسة عبر عقد حلقات النقاش العامة، أو من حيث وضعية المرأة داخل هذا الفضاء العام.
قاهرة نجيب محفوظ جاءت كحاضنة لثورة 1919 ففي رواية «بين القصرين»، أول أجزاء الثلاثية تدور الأحداث في ظل الثورة، ويتطور الحدث الروائي بها متزامنا ومتفاعلا معها، ويرصد محفوظ طبيعة التغيرات الاجتماعية التي شهدتها القاهرة والمجتمع المصري بصفة عامة، كنتيجة مباشرة لاندلاع الثورة وذلك دون أن تفقد الرواية جانبها الإبداعي على الرغم مما تضمنته من صفحات يمكن النظر لها كتوثيق تاريخي لأحداث الثورة.
قاهرة بهاء طاهر
ينتمي بهاء طاهر لكتاب جيل الستينات الذين منعهم الرئيس أنور السادات من الكتابة والنشر، حتى أن طاهر لم يتمكن من نشر أي عمل إبداعي له طوال مدة تصل لثماني سنوات من 1975 وحتى 1983، وصدرت رواية «شرق النخيل» سنة 1985، بعد أن تم نشرها في سلسلة حلقات بمجلة «صباح الخير» عام 1983 في أعقاب رفع الحظر عن بهاء طاهر عقب اغتيال أنور السادات في أكتوبر 1981.
طرح بهاء طاهر في روايته العديد من الموضوعات والقضايا السياسية، وربط عبر السرد الروائي ما بين مشكلة الأرض لدى عائلة في أقصى صعيد مصر، وبين أحوال مصر السياسية والاضطرابات الداخلية وانتفاضة الطلاب عام 1972، وتظاهراتهم الاحتجاجية المطالبة باسترداد الأراضي المحتلة بسيناء.
تعامل بهاء طاهر في روايته مع قضية استخدام فضاءات مدينة القاهرة كمجال عام للممارسة السياسية، وذلك من خلال استعراض حركة احتجاج الطلاب والتجمعات المتعلقة بمناقشة الأمور العامة، فجاءت الرواية وكأنها وثيقة تاريخية حية لما شهدته مصر من حركة احتجاج عام 1972، وهو ما لم يخل بطبيعة الحال بالنسيج الإبداعي للسرد الروائي.
«في الطريق إلى البيت رأيت -قبل أن أعبر كوبري الجامعة- جنودًا ملتفين حول عربة سوداء بداخلها ضابط ولها إريال. وتكررت نفس الصورة عند طرف الكوبري الآخر، وأمام كلية الطب، وفي عدة أماكن أخرى على طول الطريق. وعندما دخلت شارعنا الصغير في المنيرة رأيت ثلاث عربات للأمن المركزي ممتلئة بجنود يلبسون الخوذات ويمسكون العصيان وكانوا يطلون من عرباتهم على الشارع الهادىء صامتين، بينما وقف الضابط بجانب إحدى العربات يدخنون ويتكلمون». يكشف طاهر في هذا المقطع عن مدى سيطرة السلطة على الفضاء العام لترهيب المواطنين العاديين.
احتجاجات الطلبة 1972
على الجانب الأخر يبرز طاهر قدرة الطلاب على النفاذ للفضاء العام عبر احتجاجهم ومناقشاتهم العامة «كنا نقف قرب ناصية شارع سليمان باشا، وكان هناك عدد كبير من الناس. من الطلبة وغيرهم. يجلسون على رصيفي الشارع أو يقفون يتناقشون».
اتفق بهاء طاهر في روايته «شرق النخيل» مع محفوظ في ثلاثيته، في أنه كما تتمكن السلطة من فرض سيطرتها على الفضاء العام، يتمكن المواطنون أيضا من خلق مساحة للتشاور والنقاش في الأمور العامة داخل هذا الفضاء العام.
ميدان الثورة
تعامل كل من محفوظ وطاهر مع السياق التاريخي وفكرة «سياسات الشارع»، التي تناولها فيما بعد باحث العلوم الاجتماعية آصف بيات، وهي فكرة تشير إلى طبيعة تلك الصراعات التي تُثَار ما بين المواطنين/الجماهير والسلطة، وتتشكل تلك الصراعات في الفضاء المادي والاجتماعي في الشوارع والحدائق العامة والأماكن الرياضية .. إلخ، فيصبح الشارع وكأنه مكان وحيد للتعبير الجماعي، ذلك أنه حين يفقد الناس الثقة في السياسة الرسمية تصبح الشوارع ملاذهم الأخير.
آصف بيات، باحث في العلوم الإجتماعية
هنا تجدر الإشارة إلى أنه تم إنشاء ميدان الإسماعيلية «التحرير» حاليا في سياق تحديث مدينة القاهرة على يد الخديوي إسماعيل، فصار فضاءً للاحتجاج الشعبي عبر مختلف الفترات التاريخية. كان ميدان الإسماعيلية بمثابة ثكنة عسكرية لسلطات الاحتلال البريطانية ما جعله هدفًا للاحتجاجات منذ ثورة 1919، تلاها العديد من الاحتجاجات مثل أحداث انتفاضة 1935 – 1936، والتي أجبرت الملك على إعادة دستور 23 الملغي، وتغير اسم الميدان ليصبح في أعقاب يوليو 1952 «ميدان التحرير» الذي شهد احتجاجات 1968 في أعقاب هزيمة يونيو 1967، واحتجاجات يناير 1972 وانتفاضة يناير 1977 وصولا لثورة يناير 2011.
ميدان التحرير – 1920 (ميدان الإسماعيلية سابقا)
تختتم شيماء الشرقاوي تناولها لقضية مدينة القاهرة كفضاء للممارسة السياسية، بالإشارة إلى أن كلا من محفوظ وطاهر وعلى الرغم من اختلاف السياق التاريخي لكتابة الثلاثية ورواية شرق النخيل، واختلاف التجربة الذاتية للروائيَينِ قد نجحا في استخدام فكرة الميدان كفضاء للاحتجاج على سياسات السلطة الحاكمة، حيث أكدا على الطرح المتعلق بارتباط المكان بالممارسة السياسية إلى جانب التأثير المتبادل بينهما، فكما تسعى السلطة جاهدة لإحكام سيطرتها على الفضاءات التي يتحرك فيها المواطنون، فإن تلك الفضاءات ذاتها بما تحمله من تاريخ احتجاجي تعد خير دليل على قدرة المواطنين على مواجهة السلطة.
عبر ما يقرب من قرن من الزمان دأب المواطنون على استخدام ميدان التحرير كوسيلة للاحتجاج والتعبير عن الغضب، منذ ثورة 1919 وحتى ثورة 25 يناير 2011، التي شهدت سيطرة المواطنين على الميدان لمدة 18 يوما كاملة، كان الميدان هو السلاح الوحيد الذي امتلكه المواطنون، وهو الفضاء الذي عبروا من خلاله عن شكواهم وقضاياهم.
ميدان التحرير – 2011
وللحديث بقية،