لا يملك المتابع للتظاهرات المستمرة في الولايات المتحدة احتجاجًا على العنف الأمني الذي أودى بحياة الشاب الأسود جورج فلويد، إلا أن يدرك مدى تشابه أحداث اليوم مع ما شهدته الولايات المتحدة في الستينات من عنف مماثل.
ولعل هذا التشابه هو ما دفع إلى الواجهة بأحد أبرز رموز النضال الأسود ضد العنصرية وهو مالكوم إكس، الأسود المسلم داعية الحقوق المدنية، إذ تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة وخطبًا لإكس؛ يحار المرء معها، هل كان الراحل يتحدث عن زمنه أم عن أحداث اليوم؟
كان إكس يمثل هو ومنظمة «أمة الإسلام»، التي كان بمثابة متحدثها الرسمي، وأحد أهم قادتها بعد مؤسسها إلايجا محمد، تيارًا مضادًا لحركة الحقوق المدنية التي كان يتزعمها آنذاك القس المفوه مارتن لوثر كينج.
مالكوم إكس، ومارتن لوثر كينج
ففي حين كان كينج وأنصاره يطالبون باندماج السود في المجتمع الأميركي، كان إكس يرى أن هذا الاندماج لن يحقق العدالة المنشودة، إذ أنه سيكون اندماجه على أسس غير متكافئة، أسس تضمن بقاء السلطة والثروة في يد النخبة البيضاء في حين يبقى السود في أدنى السلم الاجتماعي.
وفي المقابل كان إكس يطرح فكرة الانفصال، لا الفصل العنصري، حيث يُكون السود مجتمعاتهم الخاصة ويحظون باستقلالية اقتصادية تضمن لهم التكافؤ مع البيض، ولعل هذا كان الدافع الذي جعل إكس يؤكد في الكثير من خطبه على ضرورة أن يملك السود أعمالهم الخاصة حتى يدروا على أنفسهم دخلًا مستقلًا، بدلًا من أن يبقوا مستهلكين ويستفيد غيرهم من العائد الذي يدرونه على أعمال يمتلكها أثرياء بيض.
وفي مقابل دعوة كينج المستمرة لانتهاج السلمية واللاعنف، كوسيلة لتحقيق مطالب السود السياسية، رفع إكس شعار «بأي وسيلة ضرورية»، مؤكداً على حق السود والأقليات بشكل عام في الدفاع عن أنفسهم ضد عنف قوات الأمن، وعنصرية بعض أفرادها.
كان إكس ينطلق من فكره مفادها أن الاندماج لن يضمن حقوق السود، لسبب بسيط وهو أنهم ليسوا في نظر النظام مواطنين أميركيين، فهم لم يأتوا إلى أميركا الشمالية كمهاجرين باختيارهم كما فعلت المجتمعات الأخرى، بل تم استجلابهم من بلادهم الأصلية كأداة لزيادة الإنتاج، ولعل إكس عبر عن هذا المعنى في أحد أشهر خطبه حين قال «لستم أميركيين، أنتم ضحايا الأمركة».
كما كان النظام السياسي الأميركي محل نقد مستمر لدى إكس، الذي لم ير فيه نظامًا ديمقراطيًا، وإنما «نفاقًا مستترًا» على حد تعبيره، ففي حين ينتخب البيض قادتهم، كان هذا الحق محرمًا على نحو عشرين مليون أميركي أسود في ذلك الوقت، وفي حين يبرر الساسة استخدام العنف المفرط والقوة العسكرية في الخارج (فيتنام نموذجًا)، فإنهم يدينون العنف إذا مارسه السود، علمًا بأنهم في حالة دفاع مشروع عن الذات.
كما أدرك إكس خاصة بعد أداء فريضة الحج عام 1964 وزيارته عدة دول إفريقية، من بينها مصر التي كانت تقود حركة التحرر الإفريقي، ضرورة ربط نضال السود في الولايات المتحدة بنضال شعوب العالم الثالث، وخاصة في القارة الإفريقية باعتبارها القارة الأم بالنسبة للأميركيين السود.
مالكوم إكس، ومقابلة مع الشيخ الباقوري شيخ الأزهر، ومفتي مصر حسنين مخلوف
حيث دعا إكس عقب عودته إلى الولايات المتحدة لقيام منظمة سماها منظمة «الوحدة الأفرو- أميركية»، موكداً في حوار صحافي أجري معه آنذاك أن الأفرو- أميركي أو المواطن الأسود في أميركا لن ينال حقوقه إلا إذا أصبحت إفريقيا، وطنه الأم، في موضع قوة.
وفي مقارنة لافتة، أوضح إكس أن المجتمع الصيني في الولايات المتحدة كان لفترة طويلة محل استهزاء وسخرية وضحية للتعصب، إلا أن كل هذا تغير عقب انتصار الثورة الصينية وتمكن قائدها ماو تسي تونج من تحويل الصين إلى قوة دولية.
ورغم اغتيال مالكوم إكس عام 1965، إلا أن دعوته الثورية ألهمت العديد من الشبان السود الغاضبين، وفي مقدمتهم كل من بوبي سيل وهيوي نيوتن، اللذان أسسا معًا ما عرف بحزب «الفهود السود» في ولاية كاليفورنيا، في السنة التالية على اغتيال إكس.
استغل الحزب معرفة مؤسسيه بالقانون الأميركي، وبحقيقة أن الدستور الأميركي يبيح في التعديل الثاني منه للمواطنين امتلاك وحمل السلاح، إضافة إلى أن قانون الولاية كان يبيح حتى ذلك الوقت للمواطنين مراقبة أداء قوات الأمن.
كان هذا القانون سبيل الحزب الأساسي لمراقبة رجال الأمن المنتشرين في أحياء السود الفقيرة، والذين كانوا يمارسون كافة صنوف العنف تجاه سكان هذه الأحياء، فحمل أعضاء الحزب الذين ارتدوا ما يشبه الزي العسكري أسلحة خفيفة، وباتوا يطوفون في مجموعات ليراقبوا رجال الأمن وليتصدوا لهم في حال انتهكوا حقوق معتقل أسود.
لكن الحزب لم يكتف بمجرد المراقبة بل طرح برنامجًا اجتماعيًا وسياسيًا متمثلًا، في عشر نقاط أساسية، طالب البرنامج بالمساواة التامة بين البيض والسود في فرص العمل والسكن والتعليم، وبدا واضحًا تأثره بروح الدستور الأميركي وقانون الحريات الذي يعد أحد أهم الوثائق الدستورية في الولايات المتحدة.
وانطلاقاً من برنامجهم، ومن تعاليم إكس التي تحض على الاستقلالية، بدأ أعضاء الحزب يقدمون لمجتمعهم خدمات أساسية مثل الرعاية الصحية، وبرنامج الإفطار المجاني، الذي استفاد منه عشرات الأطفال السود.
وتطبيقًا أيضًا لمبدأ التضامن الذي جسده مالكوم إكس، استغل الحزب افتتاح مكتب تمثيل له في الجزائر بموافقة الرئيس الجزائري آنذاك هواري بومدين، ومد جسور التواصل مع كافة حر كات التحرر كثوار فيتنام والفصائل الفلسطينية المختلفة وخاصة اليسارية منها.
كان من الطبيعي أن ترى السلطات الأميركية -وخاصة المباحث الفيدرالية- في الحزب خطرًا داهمًا، لا سيما وأن أفراده لم يكونوا يحملون السلاح فحسب، بل كانوا يحملون أيضًا فكر وكتابات الزعيم الصيني ماو تسي تونج التي كانت جزءًا أساسيًا من برنامج القراءة المقرر على أعضاء الحزب.
الأمر الذي دفع مدير الشرطة الفيدرالية جي إدغار هوفر، الذي كان يبغض كافة القادة السود بدأ بماركوس غارفي وانتهاءً بمارتن لوثر كينج، إلى أن يصف الحزب بأنه “أكبر تهديد داخلي لأمن الولايات المتحدة”.
جي إدغار هوفر
انتهجت المباحث الفيدرالية أسلوب القمع مع الحزب الذي وصل إلى حد الاغتيال، كما في حالة فريد هامبتون مدير فرع الحزب في مدينة شيكاغو، والذي رغم حداثة سنة (21 عاماً)، تمكن من تأسيس تحالف تجاوز حدود اللون والعرق، وجمع كافة المهمشين في المدينة من السود والإسبان والسكان الأصليين والفقراء من البيض، فما كان من المباحث الفيدرالية إلا أن داهمت مسكنه، وقتل في تبادل لإطلاق النار.
فريد هامبتون
ثم لجأت السلطات إلى أسلوب الاعتقال، حيث اعتقل هيوي نيوتن عام 1967 بتهمة قتل شرطي أبيض، وحبس بسببها لسنوات ثلاث إلى أن تبين أنه بريء من هذه التهمة، كما حُبس بوبي سيل أيضا عام 1968، بتهمة المشاركة في تظاهرات ضد مؤتمر الحزب الديمقراطي في مدينة شيكاغو، وتعرض في المحاكمة للتنكيل على يد القاضي وأمن المحكمة، الذي وصل إلى حد تقييده في كرسيه وتكميمه.
وعندما لم تفلح هذه الأساليب لجأت السلطات إلى استغلال الخلافات الداخلية، التي كان يعاني منها الحزب، وهو الأمر الذي أوجد انقسامات عدة أدت في نهاية الأمر إلى حل الحزب مطلع الثمانينيات.
ورغم اغتيال مالكوم إكس وحل الحزب الذي جسد أفكاره، إلا أن اللحظة الحالية في التاريخ الأمريكي استدعت ميراثه، خاصة وأن الأوضاع التي ثار الأمريكيون ضدها، وفي مقدمتها العنف الأمني والعنصرية لم تتغير حتى يومنا هذا.