تقديم
يبدو أن الأمر لا يتعلق بمقتل جورج فلويد على يد شرطي أمريكي، ولا بحالات فردية تكررت فأثارت ردود أفعال غاضبة في أنحاء الولايات المتحدة، إذ تشير الإحصاءات إلى أن تزايد حالات القتل على يد الشرطة الأمريكية قد تطور خلال السنوات الأخيرة ليصبح ظاهرة بنيوية في المجتمع الأمريكي تستدعي التفسير. رغم مرور 5 سنوات على صدوره، تنشر «أصوات أونلاين» تقريرا بحثيا مهما يجيب على السؤال: لماذا تقتل الشرطة الأمريكية الكثيرين مقارنة بالشرطة الأوروبية؟
«أصوات أونلاين»
كتب: بول هيرشفيلد: أستاذ مشارك في علم الاجتماع وأستاذ مشارك في برنامج العدالة الجنائية في جامعة روتجرز
عرض وترجمة: تامر الهلالي
تقتل الشرطة الأمريكية بضعة أشخاص كل يوم، مما يجعلها أكثر فتكًا من كل أجهزة الشرطة في أوروبا. تشير المعدلات التاريخية لعمليات إطلاق النار القاتلة من قبل الشرطة في أوروبا إلى أن الشرطة الأمريكية في عام 2014 كانت أكثر فتكًا بمعدل 18 مرة من الشرطة الدنماركية وأكثر مائة مرة من الشرطة الفنلندية، بالإضافة إلى أنها قتلت أكثر من الشرطة في فرنسا والسويد ودول أوروبية أخرى.
وبصفتي باحثًا في علم الاجتماع والعدالة الجنائية، فقد شرعت مؤخرًا في فهم أسباب ارتفاع معدلات القتل التي ترتكبها الشرطة في الولايات المتحدة مقارنة بمعدلاتها في أوروبا.
أسلحة أكثر.. موت أكثر
تتحدى مثل هذه الفوارق الضخمة التفسيرات البسيطة، لكن ثقافة السلاح الأمريكية هي عامل مهم يبرز بوضوح في هذا السياق. على عكس الدول الأوروبية، تسهل معظم الولايات الأمريكية على البالغين شراء مسدسات للدفاع عن النفس وإبقائها في متناول اليد في جميع الأوقات تقريبًا. إن الحصول على بنادق بشكل غير قانوني في الولايات المتحدة ليس أمراً صعباً. وتشير تقارير إلى أن حوالي 57٪ من ضحايا القوة المميتة كانوا مسلحين ببنادق فعلية أو ألعاب أو نسخ طبق الأصل.
و عادة ما تستعد الشرطة الأمريكية لتوقع وجود البنادق، ما قد يجعل شبح العنف المسلح قائماً بحجة إمكانية التعرض للتهديد. كما أن اللجوء لبعض أدوات التهديد مثل الهواتف المحمولة والمفكات قائماً طوال الوقت. تلك العوامل تجعل الشرطة الأمريكية أكثر خطورة وتوجهاً نحو العنف، كما أنها تعزز ثقافة الشرطة القائمة على القسوة والعدوان.
وتشير الإحصائيات إلى أن الأمريكيين المسلحون بالأسلحة البيضاء الأقل فتكا مثل السكاكين هم أكثر عرضة للقتل على أيدي الشرطة.
و يشكل حاملوا الأسلحة الأقل فتكًا حوالي 20٪ فقط من ضحايا القوة المميتة في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن معدلات هذه الوفيات وحدها تتجاوز إجمالي معدلات ضحايا القوة المميتة المعروفة في أي بلد أوروبي.
ويعتبر عنف السكاكين مشكلة كبيرة في إنجلترا، لكن الشرطة البريطانية أطلقت النار على شخص واحد وهو يحمل سكينًا قاتلًا منذ عام 2008 حتى عام 2015 – على الرغم من أنه كان محتجزاً لرهائن. وبالمقارنة ، فإن حساباتي المستندة إلى البيانات التي جمعت من موقع fatalencounters.org وواشنطن بوست، تظهر أن الشرطة الأمريكية أطلقت النار بشكل قاتل على أكثر من 575 شخصًا يُزعم أنهم كانوا يحملون شفرات وأسلحة أخرى مماثلة خلال السنوات من 2013 إلى 2015.
وتساعد العنصرية على تفسير سبب تعرض الأمريكيين من أصل أفريقي والأمريكيين الأصليين بشكل خاص لعنف الشرطة، كما تساعد الإيديولوجية الأمريكية السائدة القائمة على الفردية، على تفسير لماذا يقدم المواطنون البيض والمشرعون على منح المزيد من الدعم لرجال الشرطة المثيرين للجدل ولتكتيكات الشرطة العدوانية في مقابل قليل جدًا من الدعم لمكافحة الإجرام والفقر.
ليست العنصرية وحدها
لكن العنصرية وحدها لا يمكن أن تفسر سبب احتمال وفاة الأمريكيين البيض غير اللاتينيين بنيران الشرطة الأمريكية بمعدل أكبر 26 مرة من نظرائهم الالمان. والعنصرية وحدها لا تفسر لماذا لا تظهر بعض الولايات معدلات عالية نسبيًا لفتك الشرطة بالمواطنين، حيث يكون كل من مرتكبي وضحايا القوة المميتة من البيض تقريبًا، وهو ما ينطبق على ولايات مثل مونتانا ووست فرجينيا ووايومينغ.
ثمة تفسير آخر يتمثل في إحدى السمات الرئيسية المميزة للشرطة الأمريكية – وهي محليتها الجغرافية – وهو ما قد يتسبب في قيام بعض الأقسام ذات الموارد الضعيفة لبعض مهامها بشكل سيئ، ومما يفاقم الأمر أن الحكومات المحلية التي تعاني من مشكلات مالية مثل حكومات فيرغسون وميسوري قد تتعامل مع الغرامات ورسوم الحجز ومصادرة الأصول كمصادر للإيرادات وهو ما يشكل سببا إضافيا للمزيد من المواجهات مع الشرطة.
الأخطار في الأماكن الصغيرة
قُتل أكثر من ربع ضحايا القوة المميتة في مدن يقل عدد سكانها عن 25000 شخص على الرغم من حقيقة أن 17٪ فقط من سكان الولايات المتحدة يعيشون في هذه المدن.على النقيض من ذلك، كقاعدة عامة، لا تمول المدن والبلدات في أوروبا قوات الشرطة الخاصة بها، كما أن الشرطة البلدية في أوروبا بشكل عام عادة ما تكون غير مسلحة ولا تملك سلطة الاعتقال. ونتيجة لذلك، فإن قوات الشرطة المسلحة الوحيدة التي يواجهها المواطنون بشكل روتيني في أوروبا هي شرطة المقاطعات (نظير شرطة الدولة في الولايات المتحدة) أو الشرطة الإقليمية (في الكانتونات السويسرية) أو الشرطة الوطنية.
في الولايات المتحدة، حددت المحكمة العليا التفويضات السلوكية الوطنية الوحيدة لاستخدام لقوة المميتة ، والتي اعتبرت في عام 1989 أنه من المسموح دستوريًا للشرطة استخدام القوة المميتة عندما ترى «بشكل معقول» ضررًا وشيكًا وخطيرًا. إن قوانين الولايات التي تنظم القوة المميتة – في 38 ولاية – تعتبر متساهلة وفقاً لما تسمح به قرارات سابقة للمحكمة العليا.
معايير أوروبية مختلفة
على النقيض من ذلك، تتوافق المعايير الوطنية في معظم البلدان الأوروبية مع الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تفرض على 47 دولة موقعة عليها، السماح فقط بالقوة المميتة في حالات «الضرورة القصوى» لتحقيق غرض قانوني. إن عمليات القتل التي تسمح بها معايير «الاعتقاد المعقول» الأمريكية تتنافى غالبًا مع معايير «الضرورة القصوى» التي تفرضها أوروبا.
على سبيل المثال، فإن الخوف الذي لا أساس له من دارين ويلسون – شرطي فيرغسون السابق الذي أطلق النار على مايكل براون بشكل قاتل – من أن براون كان مسلحًا لن يبرئه على الأرجح في أوروبا وكذلك مخاوف الضباط من مفك البراغي الذي رفض رجل دالاس المريض عقليًا جايسون هاريسون تركه من يده.
دارين ويلسون
في أوروبا، يعتبر القتل غير ضروري في حالة وجود بدائل. على سبيل المثال، كانت المبادئ التوجيهية الوطنية في إسبانيا تنص على أن يطلق ويلسون بشكل متزايد التحذيرات اللفظية، والطلقات التحذيرية، و أخيراً الطلقات على الأجزاء غير الحيوية من الجسم قبل اللجوء إلى القوة المميتة. ومن المستبعد أن تعتبر ست طلقات غير متناسبة مع التهديد الذي يشكله براون، غير المسلح والجريح. في المقابل فإنه في الولايات المتحدة، تتطلب ثماني ولايات فقط تحذيرات لفظية (عند الإمكان)، بينما يُحظر عادةً التحذير و الطلقات الموجهة للسيقان.
تناقض صارخ
وفي تناقض صارخ، تطلب فنلندا والنرويج أن تحصل الشرطة على إذن من ضابط أعلى، كلما أمكن ذلك، قبل إطلاق النار على أي شخص. ولا يقتصر الأمر فقط على أن المعايير المركزية في أوروبا تجعل من السهل تقييد سلوك الشرطة، ولكن مراكز التدريب المركزية تعلم ضباط الشرطة بكفاءة كيفية تجنب استخدام الأسلحة الفتاكة. على سبيل المثال، تطلب هولندا والنرويج وفنلندا لكي يلتحق مواطن بالعمل في الشرطة الالتحاق بأكاديمية وطنية – كلية للشرطة – لمدة ثلاث سنوات، وهى فترة كافية توفر للشرطة متسعًا من الوقت لتعلم كيفية فهم الأفراد المضطربين والتواصل معهم وتهدئتهم بشكل أفضل. وعلى النقيض من ذلك، قدمت أكاديميات الشرطة الأمريكية في عام 2006 ما متوسطه 19 أسبوعًا من التدريس في الفصول الدراسية. وفي مقابل هذه القيود في أوربا، يتم إنفاق ما يقرب من 20 ضعف ساعات التدريب على استخدام القوة أكثر مما ينفق على التدريب لتخفيف حدة اشتباك الشرطة مع الأفراد في الولايات المتحدة، كما تتطلب معظم الولايات أقل من ثماني ساعات من التدريب على التدخل في الأزمات، وبالتالي فإن الأشخاص اليائسين والمحتمل أن يكونوا خطرين في أوروبا، هم أكثر عرضة من نظرائهم الأمريكيين لمقابلة ضباط الشرطة المتعلمين بشكل جيد، والمدربين على تقييد استخدام القوة.
ولكن على الرغم مما سبق، ينبغي أن تركز تفسيرات ارتفاع معدلات فتك الشرطة في الولايات المتحدة على أشياء تتجاوز سياسة الشرطة وسلوكها، فتلك المواجهات المشحونة التي تؤدي إلى استخدام القوة المميتة من قبل الشرطة تنتج أيضًا عن ضعف الضوابط على استخدام الأسلحة من قبل المواطنين في المجتمع، إضافة لعوامل الحرمان الاجتماعي والظلم الاقتصادي، وعدم كفاية رعاية الصحة العقلية والرغبة الشديدة لدى المواطنين لتجنب السجن القاسي.
يجب أن تبحث الدراسات مستقبلا ليس فقط ما إذا كانت الشرطة الأمريكية تتصرف بشكل مختلف، ولكن تبحث أيضًا كيف أن سياسات الدعم الأكثر سخاءًا والسياسات العلاجية في أوروبا تضمن أن عددًا أقل من الناس يصبحون يائسين بما يكفي لاستدعاء أو إثارة أو مقاومة رجال الشرطة.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا