فجَّر فيروس كورونا المستجد موضوعات شتى في جميع أنحاء العالم، كلها على قدر كبير من الأهمية، ومن الموضوعات التي فجَّرها عندنا، بصفة خاصة، موضوع «وعي المصريين».. والمقصود بوضوح: تناول طائفة من المثقفين المصريين لموضوع كورونا ومدى توخيهم للصواب في تعاملهم مع انتشاره في مجتمعاتنا. هؤلاء المثقفون يخطئون خطأ فادحا في الحقيقة حين يقصرون الأمر على عوام الناس، غاضين الطرف عن سلوكهم الشخصي مهما يكن ومسؤولية المؤسسات أيضا، ويخطئون خطأ أكبر حين يكون حديثهم عن السواد الأعظم من بني وطنهم جارحا مسيئا، مرة بالسخرية الشديدة من هؤلاء الذين يمثلون الأغلبية، ومرة بتقريعهم بالألفاظ الحادة التي لا تليق بجموع شعبية بسيطة طيبة، تتصرف بعفوية.
معنى الوعي ومكوناته
الوعي هو الحفظ والتقدير، والفهم وسلامة الإدراك، وفي علم النفس هو شعور الكائن الحي بما في نفسه وما يحيط به، وهو الانتباه بالإجمال لو أردنا لفظا واحدا حاسما يعبر عن معنى الكلمة التي يرددها كثيرون، بدراية وبغير دراية، ذلك أن نفي الوعي يعني بالضبط عدم الانتباه.
للوعي مكوناته التي أساسها التربية، ثم يلعب التعليم دوره في تشكيل الوعي وترسيخه، وتشكل الثقافة والإعلام المناخ الذي يتشكل فيه الوعي، وعموما ينطلق الإنسان في حركته التفاعلية مع الحياة من أحد منطلقين: الأول وعيه الإنساني الخالص الحر ، والثاني مفاهيمه المتوارثة اجتماعيا؛ فإذا نسبنا جماعة المثقفين إلى المنطلق الأول فإن العوام ينطلقون من الثاني بطبيعة الحال، الفرق واضح بين المصدرين، لكن من العوار المبين أن تستعلي طائفة على طائفة، متجاهلة أن مكونات العنصرين مختلفة، وغايات الفريقين ووسائلهم ليست واحدة!
أسباب الاتهام بقلة الوعي
مما دفع النحبة المثقفة دفعا إلى اتهام العوام بقلة الوعي ما جرى من ارتفاع هائل لعداد الإصابات بالفيروس المستجد؛ بسبب السلوك الخاطئ للناس، ومغادرتهم البيوت بلا ضرورات قصوى، وتزاحمهم في الأسواق والأماكن العامة، وتكدسهم في المواصلات، وإقبالهم الحميم على التشارك والتفاعل في الواقع الذي صار موبوءا ولم يعد يصح فيه إلا الانفصال والحذر..
صحيح أن الزيادة متوقعة، بمعنى ما، لكن كان يمكن، بضبط الحركة والالتزام بأساليب الحماية والوقاية، ألا تكون زيادة مخيفة مقلقة، لكن هذا ما جرى في النهاية، وجريانه استفز الطائفة الملتزمة، وجعلها تلقي باللائمة على الآخرين، إلا أن هذه الفئة الحذرة الواعية قد تزيدت تزيدا كبيرا فيرد فعلها؛ فجرَّدت الآخرين من كل قيمة طيبة، ووصفتهم بالجهل والتسيب، ولم تكلف نفسها، وهي الطائفة المثقفة -كما هو ظنها في نفسها- أن تتفهم الأمور بأناة وروية، وأن تقدر المسائل تقديرا سليما لا يُحسب عليها بعد ذلك.
دور التعليم والثقافة والإعلام
يلعب التعليم دورا هائلا معروفا في تنوير منطقة الوعي أو إظلامها، لكن تعليمنا ليس علميا ولا تكنولوجيا ولا تقدميا بالجملة، هو تعليم التلقين والحفظ والترديد، فكيف غاب عمن أنقذتهم الثقافة من براثن التعليم المتخلف أن يعيبوا سلوك المتعلمين بلا ثقافة؟ فضلا عن نسيانهم المؤسف للكثرة التي لم تنل تعليما يُذكَر أو لم تنله بالمرة. من جهة الثقافة نفسها فإنها في مآزق شتى، من بينها الإذعان للخطط الحكومية، ومحاصرة الأفكار المغايرة، وقلة الماديات، وعدم التمتع بالحرية المطلوبة لإنفاذ الثقافة في المجتمع، ومن ثقَّف نفسه ثقافة حقيقية رفيعة في بلادنا، إنما اجتهد اجتهادا شخصيا، وتكلَّف في سبيل ذلك ما لا يستطيع غيره تحمَّل تكلفته، ماديا ومعنويا، فهل فات كل ذلك مثقفينا؛ ووجدوا نصرهم الوهمي في نقد البسطاء والعاديين؟
بقي الإعلام، وإعلامنا موجَّه في أغلبه ومشكلاته لا حصر لها، مشكلاته في التقنية والمواد والموظفين البيروقراطيين، ومحصلته ليست قادرة على صنع العقل المراد والوجدان المأمول؛ فلماذا لم يضع الهدامون مثل ذلك في الاعتبار، بينما معاولهم تضرب المباني العمومية بلا رحمة؟!
https://youtu.be/B6vWLK1Pwk8
شعوب العالم والشعب المصري
من اللافت أن من انتقدوا الشعب المصري انتقادا صارخا لم ينتبهوا إلى أن شعوب العالم، وضمنها العالم المتقدم، سقطت في الامتحان الفيروسي سقوطا مريعا جدا؛ فبدت المشاهد المؤلمة المخجلة، ومنها نهب الأسواق، والتعارك مع رجال الأمن الذين ينظمون الحظر ويحمونه من الاختراق، ووقوع جرائم شنيعة كالقتل المتسلسل والجماعي، وتعمد إحداث الفوضى وما إلى ذلك، مستغلا الحالة العامة المرتبكة في ظلِّ الوباء الخطير المتفشي… وهي الفواحش التي لم يسقط فيها شعبنا الصابر حتى الساعة، ومع ذلك يراه من يراه على الهيئة البائسة التي يحبذ رؤيته عليها فيما يبدو!
إهانة المصريين مرفوضة
لا أحب أن يصل قارئ إلى كوني أنفي التقصير عن عوام الناس نفيا مطلقا، إنما أرفض الإسراف في معايرة الخلق به رفضا قطعيا، ذلك الذي بلغ حدا رهيبا، يمكن معه أن ينوب عن الناس نائب في المحكمة لمقاضاة الذين غفلوا عن أنفسهم وركزوا في أحوال سواهم، ورصدوها بحقد كامل، وتزيدوا في قذفها وسبها وبالغوا في كشفها وفضحها، ولم ينتبهوا للحظة أنهم هكذا ينتقصون من قدر وطن متحضر عريق بالانتقاص الجسيم من سواده الأعظم، وكان الأجدى أن يرشدوا وينصحوا، صابرين محتسبين، وأن يعلنوا غضبهم العارم أيضا، لكن ليس بالطريقة التي أعلنوه بها أبدا.