«…..قيل إن صفته، حليق الذقن، وافر الأنف، واسع العينين، قصير القامة، في ظهره حنية، وعلى رأسه عمامة صغيرة، ويلبس قفطانا مخملا، وعنده خفة ورهج، كثير التلفت إذا ركب الفرس، وقيل إن له من العمر نحو أربعين سنة أو دون ذلك، وليس له نظام يعرف مثل نظام الملوك السالفة، غير أنه سيء الخلق سفاك للدماء، شديد الغضب، لا يراجعه أحد في القول»…….. «ومما أشيع عنه أنه قال في بعض مجالسه بين أخصائه وهو بالشام: إذا دخلت إلى مصر أحرق بيوتها قاطبة وألعب في أهلها بالسيف».
ابن إياس، في وصف سليم شاه بن عثمان…
سليم شاه بن عثمان، وابن إياس
سليم شاه خليفة لا عهد له ولا أمان
عندما اخذ الدفتردار (أكبر منصب للشؤون المالية في الدولة العثمانية، يقابله في يومنا وزير المالية.) بحبس نساء أمراء المماليك الذين قُتلوا أو هربوا واختفوا بعد هزيمة طومان باي، وكان حبسهم بغرض أن يعترفوا بأماكن الثروات المخبأة، والتي كانت مملوكة للأمراء… «أشيع» أن السلطان سليم شاه لما بلغه ما يفعله الدفتردار، أمره بإطلاق سراح نساء الأمراء من الحبس والكف عن ملاحقتهن بحثا عن ثروات أزواجهن، «فارتفعت له الأصوات بالدعاء، فلم يظهر لهذا الكلام نتيجة فيما بعد، واستمرت المصادرات عمالة كما كانت، وازدادت أضعافا فوق ما كانت».. وغني عن القول إن أيٍ من موظفي سليم خان لا يمتلك الجرأة لمخالفة أوامره، فاستمرار ملاحقة زوجات الأمراء كان بأوامر منه، فهذا كان دأبه عادة… يعطي الأمان ثم يفعل عكس ما تعهد به، والأمثلة على ذلك كثيرة…
فكان ينادي كل يوم في القاهرة بالأمان والاطمئنان، والنهب والقتل عمال من جماعته لا يتوقف، «وحصل منه للناس الضرر الشامل».
وعندما نادى بالأمان للمماليك الذين هربوا واختفوا بعد هزيمتهم، صدقه بعض منهم وظهروا وسلموا أسلحتهم، ولما عُرضوا أمامه، أمر بالقبض عليهم وإيداعهم القلعة… ثم ما لبث أن أمر بقطع رؤوسهم جميعا وتعليقها على حبال بالأسواق.
لقد كانت مدة إقامة ابن عثمان بمصر ثمانية أشهر إلا أياما، وعندما خرج من مصر متوجها إلى اسطنبول مارا بالشام نادى بالأمان لأهل الشام ونائبها وحاميتها إذا سلموا القلعة دون قتال، فنزل إليه نائب قلعة الشام رافعا منديل الأمان، فقتله ابن عثمان وقتل معه نحو أربعين أميرا من أمراء الشام.
دولة احتلال.. وليست خلافة إسلامية
في مدة إقامة ابن عثمان بمصر لم يجلس بقلعة الجبل ليباشر أمور الحكم وينصف مظلوما من ظالم، كما كان يفعل كافة السلاطين والملوك السابقين، بل ترك أمور الحكم والبلد لوزرائه، ذلك انه كان مشغولا بلذاته، فأقام بالمقياس على النيل طوال فترة وجوده بمصر تقريبا، يشرب الخمر ويسكر يحيط به الولدان المردة… فبحسب ابن اياس: «كان ابن عثمان لا يظهر إلا عند سفك دماء المماليك الجراكسة»….. «وأما عسكره فكانوا يتجاهرون بشرب الخمور في الأسواق بين الناس، ولما جاء عليهم شهر رمضان فكان غالبهم لا يصوم ولا يصلي في الجوامع ولا صلاة الجمعة إلا قليل منهم، ولم يكن عندهم أدب ولا حشمة، وليس لهم نظام يعرف، لا هم ولا أمراؤهم ولا وزراؤهم، وهم همج كالبهائم».
وأصبح خطف العثمانيين للسيدات والصبية الصغار واغتصابهم أمرا منتشرا… وبحسب ابن إياس: «….حتى قيل إنهم خطفوا امرأة عند سلم المدرسة المؤيدية وقت الظهر، وفسقوا بها جهاراً عند سبيل المؤيدية تحت دكان الذي يبيع الكعك، والناس ينظرون إليهم وهم يفسقون بها ولم يجسر أحد من الناس أن يخلصها منهم».
حرمان مصر من ثرواتها
عندما غادر ابن عثمان مصر لم يترك بها أي مصادر للثروة، فجردها من أية أصول يمكن أن تحفظ على شعبها حياته… فبعد إن نهب سليم شاه كل ما وجده في طريقه من نفائس، قام جنده وعسكره بالاستيلاء على ما تبقى في جيوب العامة والزعر والتجار وأرباب الحرف، وبيوت مساتير الناس… فكانوا يقفون بالشوارع يقطعون الطريق على المارة، يوقفونهم «ويقولون لهم: اشتروا أنفسكم منا من القتل، فيأخذون منهم بحسبما يختارونه من المبلغ»…. وكانوا يهجمون على بيوت مساتير الناس فينهبون ما فيها من القماش الفاخر، وغيره من كل ثمين وغال، «فانفتحت للعثمانية كنوز الأرض بمصر من نهب قماش وسلاح وخيول وبغال وجوار وعبيد، وغير ذلك من كل شيء فاخر، واحتووا على أموال وقماش ما صادفوها قط في بلادهم، ولا أستاذهم الكبير (يقصد سليم شاه)».
وعندما خرج سليم شاه ابن عثمان من مصر كان يصطحب ألف جمل تحمل ذهبا وفضة، هذا علاوة على ما غنمه من التحف والسلاح والصيني والنحاس والخيول والبغال والجمال وغير ذلك، «وأخذ منها من كل شيء أحسنه، مالا فرح به آباؤه ولا أجداده من قبله أبدا»، كما أن وزراءه وكذلك عسكره نهبوا من الأموال ما لا يحصى، «وصار أقل ما فيهم أعظم من أمير مائة مقدم ألف، مما غنمه من مال وسلاح وخيول وغير ذلك».
لم يكتف ابن عثمان بكل ما نهبه هو وعسكره من مصر، بل إنه بمجرد وصوله إلى الشام أرسل إلى خاير بك (الذي نصبه واليا على مصر) يطلب منه أربعين ألف إردب قمح وشعير، يرسلها له في مراكب عن طريق البحر إلى الشام. فأمر خاير بك رجاله بان يجمعوا القمح والشعير من الفلاحين والمخازن والدكاكين وأي من كان يملك قمحا أو شعيرا حتى يرسلوا لابن عثمان طلبه.
تجريف مصر ثقافيا
اختار ابن عثمان المهرة من أرباب الصناعة وأرسلهم إلى اسطنبول، فتدهورت الصناعات القائمة بمصر، واختفت مظاهر كثيرة من الصناعات الحرفية التي كانت تمثل وجه مصر الخاص… فلم تَعُدْ مصر بعد دولة ذات أملاك عظيمة كما كانت من قبل، بل صارت ولاية لا ثروة لديها، وهذه الثروة ذاتها أخذت في الاضمحلال بسبب الإهمال في مرافق الزراعة والصناعة تحت حكم الباب العالي العثماني، كل ذلك أضعفَ كثيرًا من ثروة البلاد فصارت لا تقوى على إنشاء الآثار العظيمة التي كانت تقام من قبل، فلم تعد الجوامع تُبنى بتلك العظمة التي نشاهدها في أبنية القرون السالفة، كذلك قلَّت الدقة في البناء، لقلة الثروة من جهة، ولتقهقر الصناعات من جهة أخرى، وليس من آثار هذا العصر ما يلاحَظ عليه آثار الدقة إلا القليل.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من حرمان مصر من مقومات التقدم، بل إن العثمانيين استولوا على ما فيها من كتب نفيسة، فدخلوا الجامع الأزهر واستولوا على ما فيه من كتب لا تقدر بثمن ولا يمكن تعويضها، وفتحوا خزائن المجاورين واستولوا على ما بداخلها… يقول الجبرتي: «ثم إن الوزراء استدرجوا لأخذ الكتب النفيسة التي في المدرسة المحمودية والمؤيدية والصرغتمشية، وغير ذلك من المدارس التي فيها الكتب النفيسة، فنقلوها عندهم ووضعوا أيديهم عليها، ولم يعرفوا الحرام من الحلال في ذلك».
https://youtu.be/aQvQUIVt6vY
كما نقل سليم شاه بن عثمان إلى استانبول جملة من المشايخ والفقهاء واعيان التجار، «وخرج الى اسطنبول، ابن شقيرة التاجر الذي من مرجوش، ومن تجار الحرامزة وغير ذلك من التجار والأعيان من مشاهير الناس، وخرج جماعة من الفقهاء وأعيان التجار ممن تعين خروجهم. ثم تبعها طائفة أخرى، وكانت هذه الواقعة من أبشع الوقائع المنكرة التي لم يقع لأهل مصر قط مثلها فيما تقدم من الزمان». وهكذا جرد مصر حتى من فقهائها وتجارها. أعيان التجار ذوي العلاقة بالتجارة مع الهند والحبشة وغيرها من البلدان ذات العلاقات التجارية بمصر، فقلت موارد مصر من التجارة الخارجية إلى حدها الأدنى، كما أن وقف التجارة الخارجية حرم مصر مما يمكن أن نسميه اليوم بالتبادل الثقافي، فالتجارة في هذه الأزمنة كانت بمثابة تبادل ثقافي بين الشعوب، وليس تبادل ثروة فقط.
وقبيل رحيله وضع ابن عثمان خاير بك واليا على مصر، التي بعد أن كانت دولة مستقلة أصبحت ولاية تابعة للباب العالي.. {«خاير بك» ذلك الخائن الذي تآمر مع ابن عثمان، وكان له الدور الكبير في هزيمة الغوري وطومان باي نتيجة خيانته لهما}… اصدر خاير بك ــ أو «خاين بك» كما كان يسميه المصريون ــ قرارا بمنع خيال الظل، وهو أحد الفنون القديمة بمصر، والغناء في الشوارع، ومنع زفة العرسان بعد العشاء، ومنع فتح الأسواق بعد المغرب، وأوقف تفريق اللحم في عيد الأضحى على الأمراء والعساكر والفقهاء والموظفين مثلما كان الحال أيام الدولة المملوكية…. وهكذا بدأت تهتز هوية المصريين، بالحجر على فنونهم، وتغيير طباعهم قسرا، ومنع ما كانوا يمارسونه من مباهج واحتفالات تميزهم عن باقي شعوب المنطقة.
على هذا النحو جرد «الخليفة العثماني» مصر من كل مقومات التقدم، اقتصاديا وثقافيا، في سلوك لا يمكن أن يكون إلا لمحتل غاشم. سلوك دولة توسعية تسعى لنهب ثروات الشعوب التي تحتلها..
المصادر:
ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، ج5، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984.
عمر الإسكندري وسليم حسن، تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قُبيل الوقت الحاضر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014.
سليمان فياض، الوجه الآخر للخلافة الإسلامية، دار ميريت، الطبعة الأولى، 1999.