الحدث

وداعا د. جابر عصفور

إنَّ نظرة واحدة على الإنتاج الفكري الغزير للدكتور جابر عصفور كفيلة –من الوهلة الأولى– لأن ترينا كيف كان مشروع الاستنارة، مشروع الانتصار للعقل، مشروع الانتصار للحداثة، مشروع الانتصار للمواطنة، مشروع الانتصار للمساواة بين النساء والرجال، مشروع الدولة المدنية القائمة على ثقافة حقوق الإنسان وعلى ثقافة التشارك العالمي في القيم. هي عناوين رئيسية لكتبه.. ويمكن مراجعة أسماء كتب مثل “أزمة التنوير”… إلى آخره؛ سنجد أنَّ الرصيد كان هائلا، وأنَّ الموقف الفكري كان حاسما، وأنَّ الشجاعة في إعلان هذا كانت عالية الصوت وقوية التأثير.

أمَّا الدكتور جابر عصفور الناقد فهو –وبحق– الامتداد الطبيعي لمدرسة  النقد الحديث المصرية المتوهجة، والتي كان لها الفضل في ظهور ولمعان وتطور معظم المدارس الأدبية والمسرحية والسينمائية الشعرية والنثرية العربية في الثمانين سنة الأخيرة.. مدرسة “محمد مندور” و”علي الراعي” و”عبد القادر القط” و”عبد المحسن طه بدر” و”لطيفة الزيات” و”عبد المنعم تليمة” و”رجاء النقاش”.

هذه المدرسة المتوهجة التي فتحت الباب ليس فقط للمبدعين المصريين، ولكن –أيضا– للعديد من المبدعين العرب، فما كان احتضان هؤلاء الكبار  لموهبة روائية عظيمة سودانية مثل “الطيب الصالح” إلا بمثابة قاعدة الإطلاق الناجحة  لشهرة هذا الكاتب الكبير –رحمه الله– وما كان احتضانهم الشاعرين الكبيرين “محمود درويش” و”سميح القاسم” –خاصة درويش– إلا البداية الحقيقية في تدفق مدرسة الشعر الفلسطيني المقاوم والإنساني الذي أصبح علامة من علامات الشعر العربي.

أما ما قدمه د. عصفور من دراسات نقدية لشاعر كبير وأحد أهم أعمدة الشعر العربي الحديث هو “أمل دنقل” فقد كان مدرسة حقيقية ساهمت في وصوله إلى أبناء الوطن العربي، وبناء الذوق الأدبي المصري والعربي وتنمية الذائقة الشعرية والجمالية لدى كثير من العرب والمسلمين.

وتعد الدراسات النقدية لـ “عصفور” نموذجا في الموضوعية والعقلانية والسيطرة الكاملة على مناهج النقد الحديث والإبداع النقدي الذي يساوي في جماله وفي أحكامه جمال النص الأدبي أو المسرحي أو السينمائي الذي يدور النقد حوله، وقد خرج الكثيرون من النقاد المتميزين في النقد الأدبي مثل الناقد الدكتور “صلاح السروي”  والباحث في الشأن الثقافي “سيد محمود” وغيرهما من معطف “جوجول” أو من معطف “جابر عصفور” الناقد اللامع.

أمَّا “جابر عصفور” صاحب المدرسة الأكاديمية الرفيعة في الجامعة المصرية، وبالتحديد في جامعة القاهرة، الجامعة الأم لكل المدارس الجامعية والأكاديمية المصرية –فحدِّث عنه ولا حرج، أما تلاميذه فيكاد يكون من الصعب بل من المستحيل ذكر أعدادهم أو حصر تأثيرهم.. تلاميذ نجباء أصبحوا أساتذة مثل د. “سيد البحراوي” وغيره من أساتذة النقد الأدبي الحديث.

كما ترك د. “جابر” مدرسة بالغة الرصانة والحداثة في آنٍ واحد  في دراسة علوم وآداب اللغة العربية.. انطلاقا من قسم اللغة العربية العتيد في كلية الآداب جامعة القاهرة الذي درس فيه طالبا ثم معيدا ثم أستاذا ثم رئيسا له، ليحافظ علي  واحد من أهم أقسام اللغة العربية وعلومها على امتداد العالم العربي.

أمَّا “جابر عصفور” صاحب المشاريع الثقافية، وبنَّاء المؤسسات الثقافية فحدث  ولا حرج، فقد تختفي أعمال ثقافية ولكنَّ أجيالا بعد أجيال ولسنوات بعد سنوات وربما لعقود طويلة سيتذكرون المشروع القومي للترجمة، ثم من بعده المركز القومي للترجمة الذي أحيا المبادرات العظيمة السابقة لترجمة أحدث ما أبدعه الفكر الانساني، والتي كانت قد طمستها فترة السبعينات التي أنتجت أكثر ما كرهه عصفور ألا وهو هيمنة التيار الرجعي –الإخوان المسلمون والسلفية الوهابية– علي العقل المصري.

كان مشروعه للترجمة وسيظل أحد أهم محركات النهضة المصرية والعربية الحديثة باختياراته الرائعة في موضوعات كتبه .. وبأسعارها التي أصبحت في متناول النُّخب الثقافية، وفي متناول الدارسين والباحثين الجامعيين والطلاب ودارسي الدراسات العليا.

إنَّ المشروع القومي للترجمة والمركز القومي للترجمة –الذي تحول لمؤسسة راسخة من قِبَلِ تلاميذه وزملائه– وما صدر عنهما من إنتاج استمر بعد ذلك على أيدي خلفائه، إنَّما هو تعبير عميق عن إيمان عصفور المطلق بقضية النهضة والتقدم ، فقد أثبتت النهضة الأوروبية الحديثة ومحاولة النهضة الجبارة التي حدثت في مصر في ثلاث محاولات كبرى: محاولة محمد علي، ومحاولة ثورة 1919، ومحاولة ثورة يوليو 1952، كل هذه المحاولات الثلاثة للحداثة والاستنارة والاستئناف الحضاري قد قامت على عمودين رئيسيين، كما قامت عليهما النهضة الأوروبية أو الغربية الحديثة، وهما عمودا الترجمة والتعليم، الترجمة التي مكَّنت أوروبا من ترجمة كل إنجاز الأندلس المشعة حضاريا وقتها، والتي طوَّرت وأضافت إلى التراث اليوناني والتراث الروماني وأضافت إليه.

وأبدعت الترجمة التي بدأت بها النهضة المصرية الحديثة في عهدي محمد علي وإسماعيل باشا على يد “رفاعة الطهطاوي” ومدرسة الترجمة ومدرسة الألسن بعد ذلك. كل ذلك إنَّما كان البداية، ثم مدرسة التعليم التي أدت إلى انتشار التعليم، ثم جعله تدريجيا مجانيا حتى وصل إلى المجانية الكاملة في عهد ثورة يوليو. هذا الانتشار الواسع للتعليم وهذا الحضور الواضح في ترجمة أحدث إبداعات العقل البشري، كانت قد مكَّنت مصر من أن تكون تدريجيا هي القوة الناعمة في محيطها العربي والإقليمي والإفريقي، وقد عاد تنامي هذه القوة الناعمة مرة أخرى مع المشروع القومي للترجمة، ومشروع المركز القومي للترجمة الذي ما زال عطاؤه مستمرا حتى الآن.. ليفتح الباب واسعا  أمام كُتَّاب العربية لمعرفة أحدث إبداعات وإصدارات الفكر في كل المجالات.. في العلوم الإنسانية وفي العلوم الطبيعية.

أن  الخلاف حول شخصية د. عصفور كمسئول ثقافي أمر مشروع  إذ شغل العديد من للوظائف والمناصب الكبيرة في مؤسسات الثقافة المصرية والعربيةً ومن المؤكد أنَّ هناك من أحب بعض القرارات فيها وهناك من لم يحبها.. لكنَّ الاحترام والتقدير لعقله اللامع ولشجاعته الفكرية وانحيازه المطلق لفكرة التقدم الإنساني وفكرة النهضة المصرية والعربية، هو الأهم وهو أمر  تظهره ردود الأفعال الحزينة علي خبر وفاته الصاعق.. إنَّه أمر يكاد يكون متفقا عليه بين جميع الفرقاء وبين جميع التيارات الفكرية..

رحم الله الدكتور “جابر عصفور”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock