اشتعلت تظاهرات الغضب في أمريكا وكثير من دول العالم احتجاجا على مقتل الشاب الأمريكي ذوي الأصول الأفريقية جورج فلويد على يد أحد رجال الشرطة الأمريكيين، وطرحت الحادثة تساؤلات حول مستقبل هذه الاحتجاجات وماهو النموذج الذي تقدمه في التغيير خاصة في ظل وجود اخفاقات لتجارب احتجاجات كثيرة شهدها العالم وخاصة بعض البلدان العربية.
والمؤكد أن الاقتراب من خبرة الاحتجاجات الأمريكية يجب أن يكون بعيداً تماماً عن نظرية استنساخها، ولايجب أيضا استسهال مقارنة مقتل الأمريكي جورج فلويد بالتونسي محمد البوعزيزي لاختلاف السياق السياسي بين دولة قانون بها مؤسسات قوية ومستقلة عن السلطة التنفيذية حتى لو رأسها ترامب، وبين نظم استبدادية أجهزة الدولة فيها هي مجرد ذراع للنظام السياسي مثلما كان الحال في تونس بن علي.
محمد البوعزيزي، وجورج فلويد
ثورات واحتجاجات وتجارب تغيير
يقينا أسباب الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية الأمريكية المعاصرة كثيرة ومتعددة، وجميعها لم يؤدي إلي إسقاط النظام، إنما عملت على تحسينه وإصلاح بعض جوانبه. حدث ذلك مع حركة الحقوق المدنية في منتصف القرن الماضي والتي أفضت إلي إنهاء نظام التمييز العنصري في البلاد قانونيا حتى لو بقي حاضرا مجتمعيا في بعض الأوساط.
والمؤكد أن صورة أمريكا حاليا ليست كما كانت علية في خمسينات القرن الماضي، فالمؤكد أن والد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لم يكن يسمح له بركوب حافلة مع البيض أو الذهاب لمطعم يجلس فيه على طاولة بجوار رجل أبيض، وأتي اليوم الذي ينتخب ابنه رئيسا فهذا معناه تحول كبير في المجتمع الأمريكي.
يقينا احتجاجات الطبقة العاملة الأمريكية وقادة الحركة المدنية والتيارات اليسارية كلها لعبت دورا كبيرا في إصلاح النظام الأمريكي ولو بشكل غير كامل، فكما يأخذ على هذا النظام في بدايته إقصاء كل من هم خارج «العرق الأبيض» بأدوات مختلفة، فإنه يحسب له أيضا إنه نظام مرن وغير مغلق وقابل للإصلاح والتطور.
ورغم التباين العميق بين السياق الأمريكي وبين سياق الاحتجاجات والانتفاضات العربية من زاوية استقرار النظام الأمريكي وديمقراطيته، في حين أن الاحتجاجات العربية تسعي لبناء ديمقراطية مفقودة، إلا أن تعثر تجارب التغيير الجذري أو إسقاط النظام والدولة أو تبني العمل المسلح، كل ذلك أعاد الاعتبار لفكرة معارك النقاط في إدارة الصراع السياسي بين القوى الشعبية والنظم القائمة والإصلاح من الداخل، وربما كان هذا هو ما يمكن الاستفادة به من الخبرة الأمريكية والأوربية أيضا.
والحقيقة أن الموجة الثانية من الاحتجاجات العربية أكدت على عدم صواب خطاب نهاية عصر الاحتجاجات الشعبية واعتبار ماجري في الموجة الأولي مجرد سطر في كتاب خالي من الثورات والانتفاضات الشعبية، فقد شهدت عدد من البلاد العربية انتفاضات جديدة بعضها ترجم في مسار سياسي لازال محفوف بالمخاطر مثل السودان، وبعضها في طريقة للاستقرار وتبني خيار الإصلاح من داخل النظام مثل الجزائر، والآخر لازال يضغط من خلال الشارع من أجل تغيير معادلات السلطة أو إسقاط رموز النظام والمحاصصة الطائفية مثلما يجري في لبنان والعراق.
والحقيقة أن بعض التجارب العربية/ وتحديدا تجارب الموجة الأولي، شهدت انهيارا كاملا للدولة الوطنية ومؤسساتها مثل ليبيا، أو انقسام وحروب أهلية مثل سوريا، في حين أن تماسك مؤسسات الدولة وحيادها وفي القلب منها المؤسسة العسكرية (وهو أمر من ثوابت النظام الأمريكي) ظل شرطا أساسيا لنجاح أي انتفاضة شعبية في بناء دولة القانون، فالتجارب التي لم تتعرض لانهيار الدولة أو للحروب الأهلية الطاحنة هي التي ظل فيها الجيش متماسكا ومعبرا عن الدولة لا النظام، مثل حالتي مصر وتونس اللتان حافظتا على تماسك دولتهما الوطنية رغم التحديات الكثيرة.
والمؤكد أن تماسك الجيوش في تجارب الموجه الثانية من الانتفاضات العربية رغم اختلاف السياق في كل تجربة يعزز من فرص الانتقال الديمقراطي ويبقي حدود تدخله في العملية السياسية متوقف على قدرة النخب المدنية والسياسية على صناعة توافقات فيما بينها.
خطورة اختزال أي حراك شعبي، في مجرد صوت احتجاجي لا يبني بديل سياسي وحزبي، إنه يذهب بالبلاد عادة نحو الفراغ والفوضى والانقسام المجتمعي الذي سيملؤه إما الجيش أو قوي التطرف الإسلامي، هذا الخطر غير موجود في أمريكا ليس بسبب غياب قوي التطرف، إنما لأن النظام يسمح بتغيير الرئيس عبر آلية ديمقراطية أولا (انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر القادم)، ولأن القوي الاحتجاجية لم تكتف معظمها بالاحتجاج والتظاهر فقط، إنما قدمت برامج لإصلاح الشرطة تفاوتت بين مطالب اعتبرها كثيرون غير واقعية وبين أخري عملية تراعي أيضا مصالح رجال الشرطة الملتزمين بالقانون.
السياق الأمريكي: ماذا بعد الاحتجاجات؟
مثل معظم الاحتجاجات الشعبية في تاريخ الانسانية، هناك دائما مايطرح تصورات يصفها البعض بالمتطرفة أو الغير واقعية أو المثالية، ويصفها البعض الآخر بالثورية والجذرية. هذا ماجري أيضا في الولايات المتحدة مع فارق رئيسي أن «المتطرفين» لم يرفعوا شعار إسقاط ترامب أو «الشعب يريد إسقاط النظام»، إنما طالب بعضهم بإسقاط الشرطة أو وقف تمويلها وحلها، في حين طرح غالبية المحتجون ورموز النخب السياسية وأصوات الضمير والمرشح الديمقراطي جو بايدن درجات مختلفة من رؤى تدور حول إصلاح الشرطة.
والمؤكد أن الاحتجاجات الأمريكية نجحت في إجبار الرئيس الأمريكي على أن يطالب الشرطة باستخدام أسلوب آخر غير الخنق أثناء القبض على شخص واحد، ولكنه رفض بالطبع وقف تمويل الشرطة، ووصم المتظاهرين بالمخربين، ولم يبد أي نوع من التعاطف – الإنساني لا السياسي حتى – مع جورج فلويد وعائلته، وبدا إنه حريص على التمسك بخطاب قوي اليمين المتشدد في أمريكا التي اعتادت دعم الشرطة على طول الخط بالحق وبالباطل.
https://youtu.be/hcy0xBxtcbw
والمؤكد أن هذه الاحتجاجات ستؤثر على الانتخابات الأمريكية، وأن الانقسام الطبيعي الموجود في داخل أي مجتمع، سيظل موجودا داخل المجتمع الأمريكي، بين قوي محافظة تميل للاستقرار ولدعم مؤسسات الدولة والتقليل من حجم تجاوزاتها وتقديم أعذار لأخطائها، وبين قوى مدنية وحقوقية وليبرالية تري في دولة القانون الهدف الأسمي وإنه لاموائمة مع أخطاء أي مؤسسة ولو كانت محصنة بالقانون، مثل الشرطة والجيش والقضاء وغيرها، وإن المحاسبة على أي خطأ يجب أن تشمل الجميع دون أي تمييز.
ومع فجاجة حادثة مقتل جورج فلويد، تصبح الغلبة للصوت المدني والإصلاحي، وتكون القوي المحافظة في موقف الدفاع وتقبل بجانب من الإصلاحات المطلوبة. في حين مثلا لو جرت حادثة إرهابية أو جريمة منظمة سقط فيها عدد من رجال الشرطة، فإن التعاطف يكون مع التيار المحافظ الذي يطالب بتقديم غطاء قانوني أكبر لاستخدام السلاح في الدفاع عن النفس وفي عمليات القبض، عادة ما يكون أقل.
يقينا ماجري في أمريكا والطريقة التي تعامل بها ترامب مع الجريمة وتداعياتها، ستصب في صالح خصوم ترامب من الحزب الديمقراطي ومن التيارات المدنية لأنها جريمة فجة، خاصة مع إصرار ترامب على أبعادها الانسانية والأخلاقية ومضمونها العنصري.
ولأن التيار المحافظ – مثل التيار الليبرالي – فيه المتشدد والمعتدل، فمن الواضح أن ترامب قد خسر جزءا كبيرا من التيار المحافظ المعتدل الذي لايرتاح لوجود كثير من المهاجرين الأجانب، ولكنه لا يدعوا لإغلاق أمريكا بالكامل، وربما لايحب السود والمسلمين والأمريكيين من أصول مكسيكية لكنه لا يقبل قتلهم، هؤلاء خسر ترامب جانبا كبيرا منهم.
وبما أن ترامب في مواجهة طرف آخر يتمثل في الحزب الديمقراطي ومؤسساته وجماهيره التي دعمت التظاهرات ورفضت العنف، بما يعني أنها لم تترك الساحة لتيار ترامب ليلعب على وتر كراهية الناس للتخريب والعنف ويستحوذ على أصواتهم، إنما نالت ثقة جزء كبير منه، فإن هذا يعني أن جبهته التي أيدته في انتخابات 2016 لن تكون بالكامل خلفه وهو ما يعني أن خسارته الراجحة لانتخابات الرئاسة القادمة بات أكثر احتمالا.