«إن علينا أن نبنى بين مصر العتيقة وأرض الميعاد فى فلسطين واحداً من الطريقين الجديدين من أوروبا إلى الهند والصين، سوف نضع قدماً على النيل وآخر على القدس، وسوف تمتد يدنا اليمنى إلى مكة، وتغطى يسرانا روما، لتتكئ فى النهاية على باريس، السويس هى محور حياتنا العملية المستقبلية».
الداعية السان سيمونى الفرنسى بروسبير انفنتان، الأب الروحى لفرديناند ديليسبس.
فرديناند ديليسبس، وبروسبير انفنتان
فى مقال نشرته الأهرام بتاريخ 23 ديسمبر تحت عنوان تماثيل بورسعيد، طالب الدكتور أسامة الغزالى حرب بإعادة تمثال ديليسبس إلى مدخل القناة مبررا ذلك بأن مثل هذه الخطوة سوف تقدرها فرنسا التى تربطها علاقات طيبة بمصروحضارتها. ولم تكن تلك هى المرة الأولى التى تطلق فيها مثل هذه الدعوات، فقد سبقتها دعوات مماثلة فى عصر السادات، ووصل الأمر فى عصر مبارك إلى ذلك الاحتفال المشين، الذى أقامه وزير ثقافته فاروق حسنى فى الذكرى المئوية الثانية لاحتلال مصر على يد جيش نابليون بونابرت، والذى جرى أيضا تحت شعار العلاقات الثقافية الطويلة بين مصر وفرنسا.
لذلك فقد رأيت أنه قد آن الأوان لأن نستعيد هذه الفترة من التاريخ لكى نضع حدا لأسطورة ديليسبس الذى لم تكن له أبدا علاقة لا بالثقافة ولا بالحضارة، والذى لم يكن فى البداية والنهاية إلا مهندس الخراب المالى، وإفلاس الدولة المصرية فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.
قناة السويس 1880
كان ديليسبس مهندس هذا الخراب.. وكان على مصر أن تنتظر حتى 26 يوليو 1956 لتستعيد قناتها
ولنبدأ من البداية
الفرمان الأول: مصر تمنح ديليسبس امتيازات هائلة بلا مقابل:
إن تاريخ قناة السويس فى سنواتها الأولى هو تاريخ الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، وشركة القناة ليست كغيرها من الشركات التى تكونت بالعشرات فى مصر فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر بواسطة هؤلاء المغامرين الذين وفدوا إلى مصر بحثا عن ذهبها كما لو كانت كاليفورنيا جديدة، على حد تعبير سابتييه، القنصل الفرنسى فى مصر، فى رسالة إلى وزير خارجية فرنسا فى باريس، وكان الذهب فى حالة مصر هو خزانة الدولة المصرية، فقد لعبت هذه الشركة دورا لا نظير له فى تاريخ السيطرة الاستعمارية على مصر، أشبه ما يكون بالدور الذى لعبته شركة الهند الشرقية فى الهند والصين ابتداء من النصف الثانى من القرن السابع عشر، حيث اختلط تاريخها بتاريخ الدبلوماسية الغربية فى مصر، وبتاريخ البنوك الأجنبية، وكانت محورا لصراع سياسى هائل بين أطراف أربعة رئيسية: فرنسا وإنجلترا والباب العالى ومصر، وهو الصراع الذى حسمته فى النهاية مدافع الأسطول الإنجليزى فى الإسكندرية عام 1882.
قصف الإسكندرية 1882
لقد بدأ تاريخ هذه الشركة فى 30 نوفمبر 1854 عندما وقع محمد سعيد باشا والى مصر فرمانا منح بمقتضاه «صديقه» فرديناند ديليسبس- (كلمة صديقنا وردت حرفيا فى الفرمان)- امتياز إنشاء وإدارة الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، بهدف حفر قناة بين البحر الأبيض والبحر الأحمر، واستغلالها فى أغراض الملاحة البحرية، وتحددت مدة الامتياز بتسعة وتسعين عاما، تبدأ من تاريخ فتح القناة للملاحة، ونص فى المادة الرابعة من الفرمان على أن الأرض اللازمة لتنفيذ المشروع سوف تعطى للشركة دون مقابل.
ونصت المادة التاسعة على أن «يكون للشركة الحق فى استغلال المناجم والمحاجر الداخلة فى الدومين العام دون مقابل، كما يكون للشركة أن تستورد الآلات والمعدات والمواد اللازمة من الخارج دون أن تدفع عنها أى ضرائب».
على أن أكثر نصوص هذا الفرمان إثارة للجدل فيما بعد كان نص المادة السابعة التى نصت على «إنه فى حالة ما إذا رأت الشركة أنه من الضرورى أن تربط ما بين النيل وبرزخ السويس بترعة ملاحية، فإن الحكومة المصرية سوف تتخلى عن الأراضى غير المزروعة الداخلة فى الدومين العام لتقوم الشركة بريها وزراعتها دون أن تدفع عنها أى ضرائب».
ونصت المادة الثامنة على أنه «فى حالة ما إذا أراد ملاك الأراضى المجاورة للترعة استخدام مياهها لرى أراضيهم فعليهم أن يدفعوا للشركة المقابل الذى سوف يتحدد فيما بعد بالاتفاق ما بين الشركة والحكومة المصرية».
ويثار التساؤل هنا عن السبب الذى حدا بمحمد سعيد أن يمنح الشركة هذه الامتيازات الهائلة التى سوف تجعل منها فيما بعد دولة داخل الدولة بكل معنى الكلمة، ونحن لا نتفق مع البعض الذى أرجع الأمر إلى علاقة الصداقة الوطيدة التى كانت تربط محمد سعيد بديليسبس ولا مع البعض الآخر الذى أرجعه إلى سذاجة محمد سعيد. والحقيقة أن السبب وراء كل هذه الامتيازات هو أن محمد سعيد كان ينظر إلى الشركة باعتبارها مشروعا مصريا/ فرنسيا مشتركا.
يخضع لرقابة لصيقة من الحكومة المصرية، فبالإضافة إلى أن الشركة كانت تعتبر مصرية باعتبار أنها تأسست بمقتضى فرمان حكومى مصرى، فإن هذا الفرمان قد أفصح بوضوح عن نية الحكومة المصرية إخضاع الشركة لرقابتها اللصيقة، فالمادة الثانية تنص على أن يعين مدير الشركة بواسطة الحكومة المصرية، وعلى ضرورة موافقة مصر على قائمة المؤسسين، كذلك فقد تضمنت المادة الخامسة تنظيما دقيقا لتوزيع أرباح الشركة يكون للحكومة المصرية
بمقتضاه 15% من الأرباح، ويكون للمؤسسين 10% من الأرباح بحيث تؤول النسبة الباقية وهى 75% إلى المساهمين بمن فيهم، بالطبع، الحكومة المصرية.
وبتاريخ 19 مايو 1855 تسلم ديليسبس نسخة رسمية من فرمان امتياز قناة السويس متضمنا العبارة التالية «الامتياز الممنوح للشركة العالمية لقناة السويس البحرية يجب إقراره من جانب صاحب الجلالة السلطان ولا يجوز أن تبدأ أعمال الحفر الا بعد الحصول على إذن الباب العالى». ولم تلبث هذه العبارة المقتضبة أن أصبحت المحور الرئيسى لمعركة سياسية دارت رحاها فى القاهرة ولندن وباريس والقسطنطينية فى إطار المنافسة الفرنسية الإنجليزية الشرسة على طريق السويس، تلك المنافسة التى أشعل نيرانها فرمان عام 1854.
فرمان امتياز قناة السويس
اعتراضات إنجليزية على مشروع القناة
منذ البداية لم تتردد إنجلترا لحظة واحدة فى التعبير عن اعتراضها على مشروع ديليسبس، سواء فى القاهرة أو فى القسطنطينية أو فى باريس ذاتها، ذلك أن إنجلترا كانت تعتبر أن تأمين الطريق إلى الهند هو أولى أولوياتها السياسية والعسكرية، من هنا كان اعتراضها الدائم على اى مشروع لحفر قناة فى برزخ السويس، وبشكل عام على أى محاولة لسيطرة أى قوة عظمى على طريق السويس، فانجلترا كانت تسيطر على طريق رأس الرجاء الصالح، وطالما بقى هذا الطريق هو الوحيد إلى الهند، فإنها تكون فى مأمن. إلا أن حفر قناة السويس كان من شأنه إنهاء السيطرة البحرية الإنجليزية، باعتبار أن القناة سوف تعطى الدول المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى رأسها فرنسا، ميزة كبرى، إذ سوف تجعل سفنها الحربية أقرب إلى الهند من السفن الإنجليزية، الامر الذى يمكن أن يهدد أمن الهند، مفتاح الامبراطورية ودرة التاج البريطانى.ومن هنا كانت الحملة الدبلوماسية الإنجليزية الشعواء ضد مشروع القناة والتى انتهت بحصول إنجلترا على وعد من السلطان
بألا يصدق على فرمان محمد سعيد قبل التشاور معها. وكانت تلك هزيمة قاسية لديليسبس.
محمد سعيد باشا
ديليسبس وسياسة الأمر الواقع
لم تفت هذه الهزيمة فى عضد ديليسبس، بل على العكس جعلته يدرك أن السبيل الوحيد للحصول على تصديق السلطان هو أن يخلق فى مصر أمرا واقعا لا تملك انجلترا أو الباب العالى حياله إلا الرضوخ، من هنا كانت سياسة فرض الامر الواقع التى لا تتراجع أمام أى عائق قانونى أو سياسى أو أخلاقى، وهى السياسة التى شكلت المعلم الرئيسى لتاريخ القناة وبشكل خاص تاريخ الشركة العالمية لقناة السويس البحرية فى المرحلة اللاحقة.
وإعمالا لهذه السياسة أصدر ديليسبس أوامره بالبدء فى الاكتتاب فى أسهم الشركة كى تصبح واقعا فعليا وليس مجرد مشروع مطروح على محكمة السياسة الأوروبية، وبالفعل ومن مقره المؤقت الذى اختاره فى ميدان فاندوم فى باريس أصدر ديليسبس فى 5 نوفمبر 1858 نشرة الاكتتاب فى رأس مال الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، معلنا طرح أربعمائة ألف سهم قيمة كل سهم منها خمسمائة فرنك فرنسى، ومؤكدا أنه لا توجد أى قضايا قانونية معلقة فى شأن الشركة، وهكذا تم تجاهل شرط تصديق الباب العالى على فرمان امتياز القناة.
ولم تكن هذه إلا مجرد بداية لسلسلة طويلة من المخالفات القانونية المتوارية خلف مجموعة من الأكاذيب المشينة، والتى سوف تصاحب تأسيس الشركة فى مراحلها التالية، وهى المخالفات التى سوف تدفع الخزانة المصرية ثمنا باهظا لها.
ديليسبس ينقض على الخزانة المصرية
فى نشرة الاكتتاب فى أسهم الشركة قدم ديليسبس نفسه باعتباره صاحب امتياز القناة ووكيل الباشا محمد سعيد، وفى ذات الوقت ادعى ديليسبس علنا أن سعيد باشا قد تعهد بالاكتتاب فى كافة الأسهم المخصصة للبنوك الأجنبية (غير الفرنسية) فى حالة عدم اكتتاب هذه البنوك فيها وهى ادعاءات مجافية للحقيقة تماما، فلم يكن ديليسبس وكيلا عن محمد سعيد عندما طرح أسهم الشركة للاكتتاب العام، كما أن ديليسبس لم يتلق فى أى وقت تعهدا من محمد سعيد بالاكتتاب فيما قد يتبقى من أسهم الشركة عند انتهاء مدة الاكتتاب.
والغريب أن مؤرخى قناة السويس وكتاب سيرة ديليسبس فى فرنسا قد تجاهلوا تماما هذه الواقعة، إلا أن إحدى وثائق الارشيف الملكى المصرى والتى يوجد صورة منها فى دار الكتب المصرية تحت رقم 633/أشغال عامة كشفت فيما بعد الغموض الذى أحاط بهذه المسألة وفضحت كذب ادعاءات ديليسبس بما لا يدع مجالا لأى شك.وحقيقة الامر أن محمد سعيد غضب غضبا شديدا لان ديليسبس قدم نفسه للمكتتبين فى أسهم الشركة بصفته وكيلا عنه، ومن ادعاء ديليسبس أنه (أى محمد سعيد) قد تعهد بالاكتتاب فيما قد يتبقى من أسهم الشركة دون اكتتاب وخشى أن يؤدى ذلك إلى أن تتحمل الخزانة المصرية أعباء مالية لا قبل لها بها، كما خشى أن يؤدى ذلك إلى انعقاد مسؤوليته تجاه المكتتبين إذا ما فشل مشروع الشركة. لذلك بادر محمد سعيد باستشارة ثلاثة من كبار المحامين الفرنسيين، وهم أوديلون بارو وارماند ديفور وجول فافر، فيما ينبغى عمله ليحمى نفسه والحكومة المصرية من أى مسؤولية مستقبلية.
وبالفعل وبناء على نصيحة هؤلاء المستشارين قام محمد سعيد بتسليم مذكرة أعدها المحامون الثلاثة إلى عدد من قناصل الدول الكبرى فى مصر، والتى جاء بها «أتشرف بإبلاغكم أن حكومة سمو محمد سعيد باشا ترفض قبول أى مسؤولية عن دفع أى مبالغ مالية تتعلق بالاكتتاب الذى طرحه السيد فرديناند ديليسبس من أجل حفر قناة فى برزخ السويس».
ولم يعبأ ديليسبس كثيرا باعتراضات محمد سعيد ولا بمذكرة المحامين الفرنسيين، وبتاريخ 30 نوفيمبر 1858 أعلن عن قفل باب الاكتتاب فى أسهم الشركة وأن رأس المال قد تمت تغطيته بالكامل، وكانت تلك أكذوبة جديدة فى سلسلة الأكاذيب التى لا تنتهى بنتائجها المدمرة للخزانة المصرية.والحقيقة أنه عندما أقفل باب الاكتتاب فى 30 نوفيمبر 1858 لم تكن أسهم الشركة قد تم الاكتتاب فيها بالكامل، ففى ذلك التاريخ أعلن ديليسبس أن كل ما تم الاكتتاب فيه هو 314494 سهما وهو ما يعنى أنه قد بقى 85506 سهما لم يتم الاكتتاب فيها. ولم يتردد ديليسبس فى إضافة هذه الأسهم إلى حساب محمد سعيد على أساس ادعائه الكاذب بأن والى مصر قد وكله فى ذلك. وكل هذا رغم اعتراضات محمد سعيد ومذكرة المحامين الثلاثة، هذا الادعاء الكاذب الذى اعترف به ديليسبس ضمنا فيما بعد حين أكد فى مذكراته المنشورة أن كل ما تعهد به محمد سعيد قبل فتح باب الاكتتاب هو شراء 64000 سهم.
المهم هنا هو أن عدم اكتمال الاكتتاب فى رأس مال الشركة كان يعنى بطلان الشركة وفقا لأحكام القانون الفرنسى الذى تشكلت الشركة فى ظله، وهو الأمر الذى أكده سابتييه قنصل فرنسا فى مصر فى خطاب أرسله إلى فالفسكى وزير خارجية فرنسا بتاريخ 13 يونيو 1859 حيث كتب صراحة أن الشركة باطلة لمخالفتها أحكام القانون الفرنسى.
ولم تتوقف عربدة ديليسبس عند هذا الحد، ففى 15 ديسمبر 1858 تبين أن ديليسبس وضع فى حساب الحكومة المصرية بالإضافة إلى الأسهم المشار إليها فيما سبق وعددها 85506 أسهم، (28136 سهما) من الأسهم التى كانت مخصصة للإمبراطورية العثمانية ولم يتم الاكتتاب فيها، وهو ما يعنى أن عدد
الأسهم التى لم يكتتب فيها لم يكن 85506 حسبما أعلن ديليسبس فى 15 نوفمبر 1858 وإنما كان 113642 سهما، وضعها ديليسبس كلها فى حساب محمد سعيد دون موافقة منه، فإذا أضفنا إلى ذلك العدد الأسهم التى كان محمد سعيد قد وافق على شرائها عند تأسيس الشركة وعددها 64000 سهم، فإن مصر وجدت نفسها فجأة
ورغم أنفها مالكة لـ 177642 سهما قيمتها الكلية 88.821.000 فرنك فرنسى.
ولم يكن أمام محمد سعيد فى نهاية الأمر إلا الرضوخ لابتزاز ديليسبس، فقد كان ذلك هو الوقت الذى واجه فيه والى مصر تهديدا صريحا من الباب العالى بعزله، تحت تأثير الضغوط الإنجليزية المستمرة بسبب مشروع القناة. ورأى سعيد أنه من الضرورى الاعتماد على قوة أوروبية قادرة على مواجهة إنجلترا وإنقاذ عرشه، ولعب ديليسبس بدهاء على هذا الوتر الحساس ليقنع محمد سعيد بأن نابليون الثالث هو وحده القادر على مواجهة إنجلترا، بل تركيا أيضا إذا اقتضى الأمر، وساعد ديليسبس فى ذلك ما حدث من تغيرات سياسية على الساحة الأوروبية، فقد جاءت انتصارات فرنسا العسكرية على النمسا لتجعل من نابليون الثالث الرجل القوى فى أوروبا، وأصبح فى استطاعته أن يواجه إنجلترا وسياساتها بثقة أكبر، ومن هنا كان تحول الدبلوماسية الفرنسية التى كانت تؤيد ديليسبس فى الخفاء فأصبحت تقدم له العون علنا وبقوة.
ومن ناحيته، لم يتردد ديليسبس فى استغلال هذا التغيير فى الأوضاع السياسية الأوروبية ليطلب صراحة الحماية الفرنسية لمشروعه، وبناء على طلب ديليسبس أصدر الإمبراطور نابليون الثالث أوامره إلى وزير خارجيته بأن يعمل على حماية حقوق ومصالح الشركة فى مصر.
الإمبراطور نابليون الثالث
وإزاء كل هذا لم يكن أمام محمد سعيد إلا الرضوخ والقبول بتلك المساهمة الكبيرة فى رأس مال الشركة، والتى بدأت معها مرحلة سقوط مصر فى شرك الديون.. الأمر الذى أدى فى النهاية إلى الخراب المالى الكامل لمصر.
ديليسبس مهندس الخراب المالى المصرى
ويعطينا تاريخ الصراع الذى دار بين الخديو إسماعيل وشركة القناة بمناسبة إلغاء إسماعيل باشا للسخرة فى مصر نموذجا آخر لعربدة ديليسبس المالية على حساب الخزانة المصرية.
نحن نعرف اليوم جيدا أن محمد سعيد قد التزم بمقتضى الفرمان الثانى الصادر عام 1856 بتوريد العمال الذين تحتاجهم شركة القناة لأعمال الحفر وتشييد القناة، كما نعرف جيدا أن هؤلاء العمال كانوا يجمعون عن طريق السخرة. وما إن وصل إسماعيل باشا إلى الحكم فى يناير 1863، حتى أعلن صراحة عن عزمه إلغاء السخرة فى مصر، وعلى استعادة الأراضى القابلة للزراعة التى كان محمد سعيد قد منحها لشركة القناة. وكان هدف إسماعيل من ذلك مزدوجا، فمن ناحية أراد إسماعيل إرضاء الباب العالى الذى كان قد حدد صراحة شروطه للتصديق على فرمان امتياز القناة ومن بينها إعادة الأراضى القابلة للزراعة فى برزخ السويس ومساحتها ستون ألف فدان إلى الدومين العام. ومن ناحية أخرى، فقد كان يريد استعادة العمال المسخرين فى حفر القناة، ليستخدمهم فى زراعة القطن الذى ازداد الطلب عليه وارتفعت أسعاره فى ذلك الوقت بسبب الحرب الأهلية الأمريكية وانقطاع القطن الأمريكى عن أوروبا.
الخديوي اسماعيل
وعلى الفور واتباعا لسياسة الأمر الواقع سارع ديليسبس إلى تقديم التماس إلى الإمبراطور نابليون الثالث بتاريخ 6 يناير 1864 طلب فيه تدخله كمحكم فى هذا النزاع. ووافق الإمبراطور على طلب ديليسبس، وبتاريخ 6 يوليو 1864 أصدر حكمه الشهير بإلزام الحكومة المصرية بدفع مبلغ 84 مليون فرنك إلى الشركة كتعويض مقابل إلغاء السخرة واسترداد الأراضى التى كانت الحكومة المصرية قد أعطت للشركة حق استغلالها مجانا. وتعليقا على هذا الحكم الشائن، كتب البرت فارمان- القنصل الأمريكى فى مصر، يقول: «إن حكم نابليون الثالث بمنح الشركة هذا المبلغ الهائل قد أصاب رجال القانون فى أوروبا بالذهول». وتزداد غرابة هذا الحكم ويزداد ذهولنا عندما نعرف أن إسماعيل استند فى قراره بإلغاء السخرة إلى مبادئ الثورة الفرنسية.
البرت فارمان، القنصل الأمريكى
والحقيقة أن حكم نابليون الثالث لم يكن له أى سند قانونى أو أخلاقى، ولم يحكمه إلا اعتبار واحد هو إخراج شركة القناة من الأزمة المالية الخانقة التى كانت تمسك بها فى ذلك الوقت.
وتكرر الأمر ذاته مرة أخرى فى عام 1869 وبشكل أكثر فجاجة حين واجهت شركة القناة واحدة من أخطر أزماتها المالية، حيث عاودت الشركة هجومها على الخزانة المصرية. وبالطبع لم يعجز ديليسبس عن إيجاد مطلب للشركة قبل الخزانة المصرية، وكان المطلب هذه المرة هو تعويض الشركة عن المبانى الخشبية المستهلكة التى كانت قد أقامتها لمستخدميها فى منطقة الحفر بالإضافة إلى بعض المعدات والخيم التى لم تعد تصلح لشىء، ولم تعد الشركة بحاجة إليها. حتى المحاجر والمناجم التى كانت الحكومة المصرية قد منحت
الشركة حق استخدامها دون مقابل فى إنشاء القناة، اعتبرتها الشركة من ممتلكاتها الخاصة التى ينبغى على الحكومة المصرية أن تدفع ثمنا لاستردادها، وقدرت الشركة الثمن الواجب دفعه بثلاثين مليون فرنك فرنسى.
إلا أن الخزانة المصرية كانت خاوية فى ذلك الوقت ولم يكن فى استطاعة الخديو إسماعيل دفع هذا المبلغ، وكان ديليسبس جاهزا بالحل وهو تنازل إسماعيل عن أرباح أسهم الحكومة المصرية لمدة 25 عاما. ثم كان قرار الجمعية العامة للشركة، بناء على اقتراح ديليسبس، بحرمان حائزى الأسهم المنزوع عنها كوبونات الأرباح من حضور اجتماعات الجمعية العامة للشركة،
ومن ثم من حقهم فى التصويت، وبديهى أن حكومة مصر كانت هى وحدها المقصودة بهذا القرار. وكان الهدف من هذا القرار هو قطع الطريق أمام المشترين المحتملين لهذه الأسهم، وكان ديليسبس يرى أن هذا القرار سوف يؤدى إلى هبوط أسعار هذه الأسهم بحيث يمكن للبنوك الفرنسية أن تشتريها بثمن بخس، لتصبح الشركة فرنسية خالصة. إلا أن الأحداث جاءت على غير ما كان يشتهى ديليسبس، حيث استطاعت إنجلترا أن تضرب ضربتها، وتقتنص أسهم مصر فى شركة القناة فى 25 نوفمير 1875 مقابل أربعة ملايين جنيه إسترلينى استخدمت كلها فى سداد ديون مصر. وأخيرا وليس آخرا تم فى عام 1880 بيع ما تبقى لمصر من حقوق فى شركة القناة وهو الحق فى الحصول على 15% من أرباح الشركة إلى البنك العقارى المصرى الذى تهيمن عليه المصالح الفرنسية مقابل مبلغ 22 مليون فرنك تم على الفور تخصيصه لسداد ديون مصر.
وهكذا فقدت مصر قناتها التى تم حفرها بدماء فلاحيها، ومولتها مصر بالكامل بأموالها، وخرجت خالية الوفاض، مثقلة بديون هائلة، لينتهى الأمر بعد ذلك بسقوط مصر كلها فى قبضة إنجلترا فى عام 1882.
وكان ديليسبس هو مهندس هذا الخراب الشامل. وكان على مصر أن تنتظر حتى يوم 26 يوليو 1956 لتستعيد قناتها على يد ضابط مصرى من أبناء جيشها العظيم ابن موظف بسيط من قرية بنى مر فى صعيد مصر واسمه جمال عبدالناصر.
الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر»
ورحل عبدالناصر العظيم وبقى جيلنا ينتظر اليوم الذى يقف فيه تمثال عبدالناصر شامخا على مدخل القناة، ومازال ينتظر.
هدم تمثال ديليسيبس في بورسعيد
نقلا عن: المصري اليوم