التاريخ المنسي للنساء يحفظ بين ثناياه العديد من النماذج المشرفة لنساء انشغلن بدراسة وتدريس علوم الدين وعملن كمفتيات وفقيهات، وقمن بدور فاعل كشيخات للربط والمساجد، إلى جانب العمل بالعلاج كطبيبات، إلا أن التمثيل التاريخي لحجم مساهمة النساء في الحياة العامة خلال عصر صدر الإسلام والعصور الوسطى لم يكن منصفا بأي حال لذلك الدور الفاعل للنساء.
الدكتورة أميمة أبو بكر أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بكلية الآداب جامعة القاهرة والدكتور هدى السعدي الباحثة المتخصصة في مجال الحضارات العربية والإسلامية في دراستهما: «النساء ومهنة الطب في المجتمعات الإسلامية» تطرحان عدة تساؤلات تتعلق بدور النساء في مهنة الطب في هذه العصور، كان من بينها: هل كانت هناك طبيبات احترفن المهنة بالفعل في التاريخ الإسلامي؟ وهل برزت منهن طبيبات تركن آثاراً ذات دالة؟ وماذا يعني للنساء الآن استحضار هذا التاريخ؟
د. أميمة أبو بكر، ود. هدى السعدي، ودراستهما: «النساء ومهنة الطب في المجتمعات الإسلامية»
الدراسة عبارة عن محاولة لإعادة تكوين صورة النساء المشتغلات بمهنة الطب بفروعه المختلفة، وذلك بهدف وضع صورة النساء داخل إطار تحليلي جديد لا يستند على الفرضية الإستشراقية التي تقوم على أن المرأة المسلمة لابد وأن تكون سلبية ومقهورة في كل زمان ومكان، وذلك بحكم المرجعية الدينية التي يرى المستشرقون أنها قاهرة للنساء عامة.
عقبات على الطريق
تستهل الباحثتان دراستهما بالإشارة إلى أن هناك حالة من الندرة الشديدة فيما يتعلق بتوفر المادة التاريخية المتعلقة بدور النساء في العصور الأولى والوسطى للحضارة الإسلامية، الأمر الذي نجم عنه سيادة انطباع داخل الوسط الأكاديمي البحثي موداه: «أن الأحداث أو الأنشطة إن لم تكن موجودة ساطعة ومؤكدة ومتواترة في سجلات التاريخ الرسمي فهى إذاً غير هامة ولا جديرة بالدراسة ولم تستحق التدوين أصلا».
شكلت ندرة المصادر التاريخية وعدم الاعتراف بأهمية الموضوعات المطروحة للبحث تحديا كبيرا أمام الباحثات والباحثين – في مجال النسوية الإسلامية- المهتمين بدراسة مكانة المرأة في المجتمعات الإسلامية وتحليل التصورات الثقافية والخطابات حول دورها في الحياة العامة، مقارنة بالنموذج المرجعي لتعاليم الإسلام.
هدفت الدراسة بالأساس إلى تفعيل الوعي التاريخي بدور النساء في صنع التاريخ الماضي، وهو ما من شأنه أن يلفت النظر نحو معنى تطور التشكيل الاجتماعي والثقافي لأدوار النساء والرجال عبر الحقب التاريخية المختلفة.
مصادر لها مكانة
اعتمدت الدراسة على عدد من المصادر الأساسية كان من أهمها كتاب «الطبقات الكبيرة» لابن سعد، (المتوفي سنة 230 هجريا، الموافق لسنة 815 ميلاديا) الذي عالج فيه الأرستقراطية العربية حيث قسمها إلى مجموعات تبعا لإنتماء كل فرد منهم، سواء كان من الصحابة أو التابعين، وقد خصص ابن سعد جزءا كاملا لمشاهير النساء ممن كن مقربات من الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وكان من بينهن من عملن في مجال الطب.
إلى جانب كتاب ابن سعد اعتمدت الدراسة على العديد من كتب الطبقات الأخرى كان من بينها كتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة» لابن الأثير (المتوفي سنة 630 هجريا الموافق 1232 ميلاديا)، وكتابي «الإصابة في معرفة الصحابة» و«الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» لابن حجر العسقلاني (المتوفي سنة 852هجريا، الموافق لسنة 1448ميلاديا)، ويعتبر الكتاب الثاني من أشهر كتب التراجم التي ظهرت في القرن التاسع الهجري الموافق للرابع عشر الميلادي، إلا أن الكتاب رغم تعرضه لمشاهير النساء في هذا العصر لم يتضمن أي إشارة مباشرة لنساء شاركن في مهنة الطب، لكنه تضمن الإشارة لدور عدد من الطبيبات في معرض الحديث عن شخص آخر كأن تكون أمه أو أخته أو ابنته.
من كتب الطبقات والتراجم العامة انتقلت الدراسة إلى كتب الطبقات المتخصصة التي اهتمت بتدوين تاريخ أعضاء مهنة معينة أو صنعة معينة وكان منها تلك الكتب التي تخصصت في طبقات الأطباء وكان من أشهرها كتاب «عيون الأبناء في طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة (المتوفي سنة 668هجريا، الموافق لسنة 1270ميلاديا)، وكتاب «طبقات الأطباء والحكماء» لابن جلجل (المتوفي أواخر القرن الرابع الهجري الموافق للتاسع الميلادي)، وكتاب «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي (المتوفي سنة 646هجريا، الموافق لسنة 1248 ميلاديا).
المؤسف في الأمر أن هذه الكتب الثلاثة على الرغم من أهميتها للباحثين في مجال الطب والأطباء في العالم الإسلامي، إلا أنها تجاهلت دور المرأة في هذا المجال، فلم يأت بها ذكر لامرأة مارست مهنة الطب سوى واحدة فقط ضمنها أبن أبي أصيبعة ضمن تراجم أطبائه، وتطرح الدراسة تساؤلا حول أسباب العزوف عن التأريخ الوافي للنساء، وهل هو إهمال عن غير قصد أم تجاهل عن عمد ومحاولة لتصغير دور المرأة وشأنها في المجتمع؟
تستشهد الدراسة بذلك التفسير الذي أوردته الكاتبة روث روديد في كتابها «المرأة في كتب الطبقات الإسلامية»، الذي أشارت فيه إلى أن المرأة في العصور الإسلامية الوسطى ظهرت بصورة جلية على مسرح الأحداث السياسية وتدخلت في شئون الحكم، بل إن بعضهن حكمن بالفعل وقد كان دورهن هذا مصدر استفزاز لبعض الحكام والمؤرخين الذين قاموا بحذف النساء من كتاباتهم أو بتقليص دورهن في مختلف المجالات كرد فعل لهذا الوضع الجديد الذي رأوا أنه مخالف لتقاليد الإسلام وتعاليمه من وجهة نظرهم.
الكتاب المدهش والمثير الذي مثل مصدر هام للدراسة تمثل في كتاب الأغاني للأصفهاني، وهو كتاب موسيقى وغناء وطرب تضمن رصدا لأكثر المغنيين والمغنيات المشهورين في صدر الإسلام والدولتين الأموية والعباسية، حيث تضمن إشارة لبعض المغنيات المشهورات اللاتي عملن في مجال الطب وخاصة الطب النسوي (الولادة والقبالة).
خيمة رفيدة
تعد «خيمة رفيدة» نسبة إلى رفيدة الأسلمية أول مستشفى في الإسلام، وقد أقامتها بمسجد الرسول وكانت تداوي الرجال والنساء معا في وقت السلم والحرب، وإلى جانب رفيدة الأسلمية رصدت المصادر عدد من الطبيبات برزن خلال فترة الإسلام الأولى وأقمن بالمدينة، ما جعل الدراسة تشير أن هذا الأمر يعد دليلا على تشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم لعمل المرأة بهذا المجال.
تؤكد الدراسة على أن النساء قد تخصصن بعدة مجالات أساسية: «جراحة الحروب والقبالة وأمراض النساء، والكحالة وأمراض العيون»، أما عن المكانة الإجتماعية للطبيبات فتشير الدراسة إلى أن معظم من تم رصدهن كن ينتمين بطريقة أو بأخرى إلى فئة الحكام والصفوة، وهو ما فسرته الدراسة بأن المؤرخين لم يهتموا في رصدهم سوى بالمشهورات من النساء، الأمر الذي يمكن أن يترك إنطباعا بوجود عدد أكبر من الطبيبات لم ينلن الحظ بإدراج أسمائهن في كتب التاريخ بسبب بعدهن عن «الخاصة» وارتباطهن ب«العامة».
غير أن هذا التغافل لم يمنع بعض المصادر من أن ترصد ثلاث طبيبات نلن شهرة واسعة بسبب براعتهن في المهنة وهن: «زينب الأودية» التي كان لها صيت ذائع بين العرب، و«خرقاء العامرية» الشاعرة العارفة بالأدب والغناء والتي تخصصت في مجال «الكحالة» أي طب العيون، و«أم احمد القابلة» التي اشتهرت لكونها كانت تقوم بالقبالة لوجه الله دون مقابل.
تلفت الدراسة النظر إلى وجود عدد كبير من الجواري اللاتي تخصصن في مجال أمراض النساء وكن يقمن بأعمال القبالة، وهو ما من شأنه أن يغير في الأذهان الصورة النمطية عن الجارية بوصفها رمز للمتعة واللهو فقط.
الطبيبة التي تولت مشيخة الطب
برعت النساء بمجال الطب حتى أن المصادر قد أشارت إلى إبنة شهاب الدين بن الصائغ التي تولت مشيخة الطب بدار الشفاء المنصوري بمصر بعد والدها، وهو ما اعتبرته الدراسة دليلا على براعة النساء في هذا المجال، حيث لم يقتصر دورهن على ممارسة الطب فقط، بل وصل الأمر حد تولي رئاسة أطباء عصرهن، فالمشيخة كانت تعادل نقابات المهن في العصر الحالي، أي أن إبنة شهاب الدين قد تولت الإشراف على ممارسي المهنة وتحمل المسئولية أمام المحستب الذي كان من مهام عمله مراقبة المهنيين، أي أن منصبها هذا كان بمثابة منصب عملي وقيادي يستلزم منها المعرفة بصنعة الطب وقواعد وأخلاقيات ممارسة المهنة والإشراف على الأطباء.
تختتم الدراسة بلفت النظر إلى أن التمثيل التاريخي لدور النساء لم يكن منصفا، وقد زاد من حدة تلك الأزمة أنه بعد الفترة الأولى من المجتمع الإسلامي توقفت النساء عن إنتاج «مادة نصية» مباشرة تكون جزءا من التراث الثقافي، وهو ما انعكس بدوره سلبا على حياة النساء وعلى توافر فرص التعليم والعمل لهن وعلى حقهن في نيل حياة أسرية كريمة وعادلة، والمؤسف حقا أن الأمر لم يقتصر على غياب «مادة نصية» تدونها النساء وإنما امتد الأمر ليصل إلى حد سيادة الكتابات التي تتضمن نوعا من التنميط الذي يصف النساء بكونهن ذوات قدرات متواضعة، والأكثر مدعاة للأسف أن تلك النوعية من الكتابات مازالت مستمرة حتى يومنا هذا على الرغم من كل ما انجزته المرأة بكافة المجالات.
اقرأ أيضا:
النسوية الإسلامية (2): آمنة ودود.. ابنة القسّ التي أمت الرجال وخطبت الجمعة