في عام النكبة كانت مصر تموج بالغضب، وكانت المظاهرات الطلابية تحتل شوارع القاهرة الرئيسية، ولم تستطع السلطات مواجهة تلك الحشود الغاضبة، فطلبت من وزارة المعارف التشديد على مدراء المدارس الثانوية خاصة بعدم السماح للطلاب بالخروج والانضمام للمظاهرات، مع التهديد بأن من يخالف الأوامر سيكون جزاؤه الفصل.. لكن القيادات الطلابية لم تكترث بتلك التهديدات، بل إنهم تباروا في التبكير بالخروج للتظاهر وإغلاق المدارس الخاوية على مقاعدها.. لوحظ أن المدرسة الإبراهيمية الثانوية بحي «جاردن سيتي» تحتل دائما المركز الأول في سرعة خروج الطلاب للتظاهر والإغلاق، وبالبحث والتحري تبين أن وراء ذلك أحد القيادات الطلابية ويدعى «محمد صلاح الدين» الذي يقود عمليات تفريغ المدارس من الطلاب وإغلاقها في حي «جاردن سيتي» والأحياء المجاورة. ويتنفس مسئولو وزارة المعارف الصعداء بانقضاء العام الدراسي، مع وضع إجراءات مشددة لانتظام الطلاب في الدراسة في العام الدراسي الجديد، وكانت الإجراءات تتضمن تصنيف الطلاب إلى ثلاث فئات حسب درجة الالتزام بحيث ينتظم طلاب التصنيف (أ) منذ اليوم الأول للدراسة، يلحق بهم طلاب التصنيف (ب) بعد أسبوع أما طلاب التصنيف (جـ) فينتظمون بعد نحو أسبوعين.. أما الطالب «محمد صلاح الدين قابيل» فقد جاء خارج التصنيف.. لم يكن للوالد علم بنشاط ابنه السياسي إلى أن صارحه «صلاح» بالأمر ما جعله يصحبه إلى المدرسة.. في حجرة الناظر احتدم النقاش لكن حجة الوالد كانت أقوى، وانتهى الأمر بعودة «صلاح» إلى الانتظام في الدراسة مع قيد اسمه بفريق التمثيل بالمدرسة كوسيلة للتعبير عن عاطفته الوطنية المتقدة، وكمتنفس لطاقاته الهائلة.. ويحصل فريق المدرسة على كأس وزارة المعارف بفضل الأداء الاستثنائي لبطل المظاهرات الموهوب.
نزولا على رغبة الوالد يلتحق الفتى «صلاح» بكلية الحقوق حتى يصير في يوم من الايام وزيرا يباهي به الأب.. أمام العاطفة القوية التي يكنها لوالده لم يستطع «صلاح» الاعتراض، كان حلمه أن يدرس التمثيل في معهد الفنون المسرحية؛ كما أن شهرته كانت قد سبقته إلى كلية الحقوق فانضم إلى فريق التمثيل بها، وخلال ثلاث سنوات قدم مع فريق التمثيل بالكلية عددا من العروض الرائعة؛ لكن دراسة القانون كانت بالنسبة له عذاب لا يحتمل. كانت الوفاة المفاجئة للوالد بمثابة نقطة تحول في حياته؛ فكان التحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية أمرا مفروغا منه، وقد اجتاز الاختبارات من المرة الأولى ليكون ضمن خمسة وعشرين طالبا تم قبولهم من بين أكثر من ثمانمائة متقدم.
خلال دراسته بالمعهد يضطر «قابيل» للعمل بالشهادة «التوجيهية» للإنفاق على نفسه وإخوته، فيعمل بإدارة ضريبة الملاهي التابعة لبلدية القاهرة، ثم ينقل للعمل بقلم المرور المجاور لمبنى التليفزيون قبل أن تعتمد شهادة معهد التمثيل التي عين بموجبها في التليفزيون براتب قدره ثلاثون جنيها عام 1960.
قدم الفنان من خلال مسرح التليفزيون عددا من الأعمال الهامة منها «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي و«اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، و «الحب الكبير» من إخراج محمود مرسي، ومع حسين كمال «مجرم تحت الاختبار».
لقاء نادر مع صلاح قابيل يتحدث فيه عن بداياته الفنية
يحمل العام 1963، لـ «صلاح» بشارة الانطلاق في عالم الشهرة والنجومية عندما يقع عليه الاختيار لبطولة فيلم «زقاق المدق» أمام النجمة «شادية».. أدى الفنان دور «عباس الحلو» بإتقان شديد.. أداء هادئ موزون بميزان الذهب.
زقاق المدق
ورغم أن الفيلم حفل بالنجوم إلا أن أداء «قابيل» كان لافتا بشكل مبهر، ما جعل المخرج «حسن الإمام» يرشحه لبطولة أخرى في فيلم «بين القصرين».. لم تبتعد شخصية «فهمي عبد الجواد» كثيرا عن شخصية «عباس» فكلاهما عاشق، وكلاهما ثائر ضد المحتل الغاشم.. لكن «فهمي» ينال الشهادة في أحداث ثورة 1919، ليصير أيقونة سينمائية خالدة.
مشهد استشهاد فهمي من فيلم «بين القصرين»
ومع المخرج «حسام الدين مصطفى» يقدم «قابيل» دورا متميزا في فيلم «هارب من الأيام» في وجود كوكبة من كبار الفنانين «فريد شوقي» و«صلاح منصور» و«محمود المليجي» وكانت شخصية «فخري» العاشق خريج الحقوق الذي يتصدى لانحرافات العمدة، ويحاول إنقاذ القرية من الوقوع في قبضة اللصوص- بمثابة جرس إنذار لـ «قابيل» الذي فطن إلى أنه على مقربة من سجن سيضعه فيه المخرجون والمنتجون، وهو دور الشاب الوسيم العاشق الثائر على الظلم بكافة أشكاله، وهو قالب مهما حاول أن يبدع فيه لن يضيف جديدا لأنه نمطي وبسيط، فأصبح نجمنا بين خيارين كلاهما مر.. إما أن يرضى بالأدوار الاولى التي ستجعله أسيرا لهذا النمط، وإما أن يتنازل عن البطولة المطلقة، ويخرج إلى فضاء الإبداع من خلال شخصيات أكثر تعقيدا تتيح له توظيف ما لديه من قدرات إبداعية هائلة.. وكان الانحياز للفن هو خيار الفنان، إيمانا منه بأن البطولة المطلقة وهم كبير، وأن العمل الفني لا يكتب له النجاح إلا بتكامل عناصره، ومن أهمها ألا تحدث الهيمنة الكاملة من شخصية بعينها على بقية شخصيات العمل.
هارب من الأيام (1965)
ورغم ذلك فإن قابيل لم يستطع الهروب من هذا النمط بالكلية، فنراه يعود إليه في أفلام مثل «دلال المصرية» في شخصية محمد الكاتب، و«الشيطان والخريف» في شخصية «عزت» لكنه يتمرد على هذا الأسر مجددا، ويقدم أداء بالغ التميز والروعة أمام الفنانة «شادية» في رائعة «السباعي» «نحن لا نزرع الشوك» من إخراج «حسين كمال» ونلاحظ هنا أن شخصية «عباس» الشرير الذي يدمر حياة «سيدة» ويهوي بها في طريق الرذيلة، ويتسبب في وفاة ابنها- هي شخصية ثرية عامرة بالتناقضات، تتقلب في نار الرغبات والضياع، لكنها ترتبط ارتباطا مصيريا بـ «سيدة» بينما جاءت شخصية البطل الأول «حمدي» التي أداها «محمود ياسين» شخصية نمطية للغاية كان من الممكن أن يؤديها «قابيل» بأقل مجهود، لذلك لا يجب أن ننساق كثيرا خلف من يقولون أن جيل «ياسين» و«نور الشريف» قد سحب البساط من تحت أقدام جيل «قابيل» و«يوسف شعبان» بعد أن حوَّله إلى ما يشبه الدور المسحور الذي لا يقف مصعد البطولة عنده.. لكن الإنصاف يقتضي أن نقارن بين الأدوار لنرى أن اختيارات «قابيل» وجيله إذا جاز التعبير كانت أكثر انحيازا للإبداع الفني؛ لأنه حتى من ناحية مقومات البطولة الأولى، فإن قابيل كان الأفضل دون تحيز.
فيلم الجبل
كان من المهم ذكر ذلك ربما ردا على من يحاولون الترويج إلى أن «صلاح» وجيله كانوا ضحايا لنكسة يونيو التي اغتالت أحلامهم في التألق والنجومية، لانصراف مصر في تلك السنوات إلى إزالة آثار العدوان والاستعداد لمعركة استرداد الكرامة، والحقيقة أن هذا التبرير وإن ورد على لسان مقربين للفنان إلا أنه لا يعبر عن الواقع بشكل دقيق.. لأن «قابيل» كان ملء السمع والبصر حتى قبيل الهزيمة بشهور، ولم يطل الغياب وعاد للتألق بعد شهور من العدوان، فأي فرصة تلك التي ذهبت للجيل التالي. الحقيقة أنها مسالة قناعات فنية أكثر منها أي شيء آخر.
إن هذا الإيمان العميق برسالة الفنان كان محركا رئيسا في اختيارات «قابيل» وانحيازاته، وليس أدل على ذلك من تواجده في أدوار متميزة في أفلام جماعة السينما الجديدة، رغم النقد الموجه للجماعة وأفلامها، وعلى رأسها رائعة «علي عبد الخالق» «أغنية على الممر» الذي جسد فيه شخصية «منير» الجندي الانهزامي الذي تدفعه ظروفه الاجتماعية الصعبة إلى ارتكاب الكثير من الأخطاء والحماقات، ليجد نفسه في النهاية مع هذه المجموعة من الأبطال الذي يحمون أحد الممرات بسيناء ويمنعون عبور دبابات العدو من خلاله.. إن «منير» بعيد عن تلك الروح الصامدة تماما، هو يريد أن يواصل الحياة وينهل من المتعة ولا تشغله القضايا الكبيرة، لتنتهي حياته نهاية مخزية بعد أن قرر إلقاء السلاح والتسليم للعدو.. شخصية منير شديدة التعقيد والعمق، ولا يجرؤ على أدائها إلا فنان كبير بحجم «صلاح قابيل».
أغنية على الممر
بعد ذلك بعامين يشارك الفنان في بطولة جماعية من خلال «العصفور» مع المخرج «يوسف شاهين» بشخصية الصحفي «يوسف فتح الله» الذي يجري تحقيقا حول سرقة القطاع العام وآلاته وأدواته من خلال مصنع لم يكتمل بناؤه بسبب سرقات ضخمة تحدث تحت سمع وبصر المسئولين وبتواطؤ من بعضهم.. ونلاحظ هنا أن أداء «قابيل» لشخصية الثائر الذي يحارب الفساد قد صار أكثر نضجا ووعيا، وهذا ما يعني أن العودة لنموذج البطل النمطي كان في هذه المرة وفق رؤية جديدة للفنان.
فيلم العصفور 1972
وتتوالى الأعمال السينمائية المتميزة للفنان «صلاح قابيل» لتتجاوز السبعين عملا، نذكر منها «دائرة الانتقام» وعصفور له أنياب، و«يا عزيزي كلنا لصوص» و«الهلفوت» و«لبريء» و«ضربة معلم» و«نهر الخوف» و«العقرب» و«دنيا عبد الجبار» وغيرها.
عصفور له أنياب
وفي الدراما التليفزيونية كانت لنجمنا صولات وجولات، لكن العمل الأشهر له كان «دموع في عيون وقحة» مع المخرج «يحيى العلمي» أمام النجم «عادل إمام» وقد كان المسلسل بمثابة مباراة في الأداء بين النجمين، إلى جانب النجم «مصطفى فهمي» في دور ضابط الموساد.
دموع في عيون وقحة
على مدى ثلاثة عقود قدم الفنان «صلاح قابيل» أكثر من مئتين وعشرين عملا فنيا تنوعت بين السينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون، وهو رصيد هائل لا شك، وقد تجلت في تلك الأعمال موهبته الفريدة وقدراته الإبداعية غير المحدودة التي حفظت له مكانة بارزة بين نجوم الفن المصري في مدرسة الأداء السهل البسيط الذي يعتمد على الانفعال الداخلي العميق، ولا يجنح إلى الأشكال الفنية التي تعتمد على التشنج والتهويل.. رحم الله الفنان القدير وغفر له.