فن

وداعا علي عبد الخالق.. مرور فارق عبر أغنية النصر المؤجل!

في عام 1972، قدم المخرج علي عبد الخالق فيلمه الروائي الطويل الأول “أغنية على الممر” الذي حمل رؤية جماعة السينما الجديدة السينمائية والسياسية الداعية إلى تطوير الإنتاج السينمائي وتبني رؤى جديدة مع الالتزام بالثوابت النضالية التي تجعل من القضية الفلسطينية محورا أساسيا في الصراع مع العدو الصهيوني.. أكدت فكرة الفيلم على ضرورة الصمود ورفض الهزيمة ودعاوى الاستسلام والعجز.. ومن خلال أحداث الفيلم يصل المشاهد إلى أن الهزيمة لا تحدث إلا إذا انكسرت إرادة الإنسان، وأن الانتصار يتحقق بالثبات على المبدأ والتضحية في سبيله.. وهي وجهة نظر لم تكن لتختلف عن ما يتبناه النظام المصري آنذاك.. ومع ذلك فقد تأخر عرض الفيلم في مصر إلى ما بعد انتصار أكتوبر1973، إذ كان النظام ينظر بعين الريبة لجماعة السينما الجديدة، التي ستوجه إليها أبشع سهام النقد المدفوع، بعد معركة العبور بعام واحد فقط بسبب فيلم “الظلال في الجانب الآخر” للمخرج الفلسطيني غالب شعث.

عدو الكيان الصهيوني الأول

لم يغب الصراع العربي الصهيوني عن فكر المخرج الراحل علي عبد الخالق الذي كتب وأخرج بعد ذلك عام 1982، فيلما بعنوان “وضاع حبي هناك” عن مأساة زوجة يُفْقَد زوجها في الحرب، ولكنها لا تيأس من العثور عليه؛ إلى أن تجده بعد عناء؛ فاقدا للذاكرة وقد تزوج وكون أسرة وصار له أطفال.. فتقبل بالأمر الواقع وتتركه وتمضي.. ورغم أن الفيلم هوجم من البعض باعتبار أن رؤيته تحمل إدانة للحرب بشكل مطلق، بزعم أنها تتسبب في تدمير الأسر وضياع الحب؛ دون التفريق بين الحرب العادلة التي تشن من أجل تحرير الأرض، والحرب العدوانية.. تلك الجريمة التي يُقْدم عليها أعداء الحياة؛ إلا أن البعض رأى أن الفيلم كان كاشفا عن واقع ما بعد كامب ديفيد الذي سيفتح باب التنازل والانكفاء العربي على مصراعيه، مغريا الجميع بأوهام السلام المزعوم، وأنهار اللبن والعسل التي بشّر بها الرئيس السادات.. وكان السير وراء هذا الركام الهائل من المزاعم التي لا تقف على قدمين هو الضياع الحقيقي الذي أشار إليه عبد الخالق في عنوان الفيلم.

بعد ذلك قدّم عبد الخالق في 1985، فيلم “إعدام ميت” و”بئر الخيانة” بعد ذلك بعامين، وهما من ملفات المخابرات المصرية، ويتناولان قضية الصراع العربي الصهيوني، من زاوية عمليات الجاسوسية، وفي 1999، أخرج عبد الخالق فيلم “الكافير” من ملفات المخابرات أيضا.. وكان فيلمه قبل الأخير في 2004، هو “يوم الكرامة” عن إغراق المدمرة إيلات.. هذا العدد الكبير من الأعمال التي تناولت الصراع العربي الصهيوني، بالإضافة إلى فيلميه التسجيليين “أنشودة الوداع” و”السويس مدينتي” دفع بصحافة العدو لوصفه بـ “العدو الأول لإسرائيل”.

انحيازات اجتماعية واضحة

اهتم مخرجنا الراحل منذ بداياته بالانحياز للطبقات الدنيا في المجتمع التي تعاني أشد المعاناة من آثار السياسات الرأسمالية المتوحشة التي تبنتها أنظمة الحكم في مصر بعد رحيل عبد الناصر خريف 1970، فقدّم عام 1980، فيلمه “الحب وحده لا يكفي” عن أزمة البطالة، واضطرار الشباب الجامعي إلى العمل في مهن وحرف بسيطة، مع الإشارة إلى الطبقة الفاسدة المُفسدة التي دأبت على سرقة أحلام الشباب، بطرق الغواية المتعددة. وفي العام التالي كان عبد الخالق على موعد مع “السادة المرتشون” عن قضية الأغذية الفاسدة، وفساد رجال أعمال هذا العصر الذي يدعمه فساد موظفي الجهاز الإداري بالدولة الذين استحلوا الرشوة فدفعوا الثمن غاليا من أرواح أهلهم. وفي عام 1968، عالج مخرجنا الراحل مشكلة الإسكان في مصر من خلال فيلم “مدافن مفروشة للإيجار” حيث يضطر مهندس للعيش مع أسرته في المقابر بعد ارتفاع تكلفة السكن في فندق بعد ترك الأسرة لمنزلها الذي صدر له قرار إزالة.. لكن الأسرة التي رضيت بالسُّكْنَى في المقابر تتعرض للعديد من المشكلات والمواقف الصعبة. ويستمر “علي” في نقده للبيروقراطية لكن في إطار كوميدي هذه المرة من خلال فيلمه “أربعة في مهمة رسمية” الذي يفضح البطء القاتل في الإجراءات العقيمة التي تصدر عن بعض الجهات الحكومية، والهدف منها حفظ الحقوق؛ لكنها على أرض الواقع تهدر حياة المصريين وتضيع أحلامهم، وتضطرهم إلى التحايل من أجل إنجاز مصالحهم دون جدوى.

ويوجه علي عبد الخالق في عام 1989، صرخته المبكرة للتنبيه إلى جريمة سرقة الأعضاء من خلال فيلمه “الحقونا” الذي يعرض قصة سائق شهم يتطوع لإنقاذ حياة رجل ثري من الموت، لكن الثري الفاسد المتخلف من عصر انفتاح “السداح مداح” يتآمر عليه ويسرق كليته، ويحاول السائق استرجاع حقه؛ ليصطدم في النهاية بالقانون الذي يكيف تلك الجريمة النكراء على أنها إحداث عاهة مستديمة.

مع الكاتب محمود أبوزيد

شكّل عبد الخالق وأبو زيد ثنائيا رائعا، وقدّما العديد من الأعمال السينمائية الرائعة التي ما زال المصريون يرددون عباراتها إلى يومنا هذا. بدأ التعاون بينهما عام 1982، في فيلم “العار” الذي ناقش ازدواجية المعايير لدى البعض، والمغالطات التي يعيش عليها البعض الآخر من أجل تبرير ما يقعون فيه من أخطاء.. من خلال نماذج الأب وأبنائه الثلاثة.. فالتاجر الكبير رجل البر والإحسان هو في الحقيقة تاجر مخدرات؛ لكنه يحرِّم على نفسه وتجارته فوائد البنوك، بينما يرى حِل تجارة “الحشيش” بوصفه في الأصل عُشبة طيبة يتيح تناولها للإنسان قدرا من السعادة الوقتية التي تنسيه منغصات الحياة.. يساعد الأب في هذه التجارة السرية الابن الأكبر فقط، بينما يجهل الأوسط والأصغر هذه الحقيقة التي سرعان ما تنكشف لهما بموت الأب و”صبيانه” ليضطر الأخ الأكبر لمصارحتهما كضرورة لإتمام العملية.. لنكتشف حقيقة الابن الأوسط رجل النيابة الذي يبرر لنفسه الجريمة بدعوى أن الفقر بالنسبة له هو الجريمة الأكبر التي لا يجب أن يقع فيها.. أما الأصغر فهو طبيب نفسي لكنه مهتز ويعيش على المهدئات.

بعد ثلاث سنوات من “العار” يلتقي الثنائي مجددا في “الكيف” الذي يعزف على نفس الأوتار بالإضافة إلى الإشارة إلى عملية الإفساد المتعمد الذي تعرض لها المجتمع، وشملت الذائقة التي لم تعد لتستطيع أن تفرِّق بين الشاي ونشارة الخشب، ولا بين الحناء والحشيش.. لنصل في النهاية إلى أن “الشر ليس في إرادة السوء فقط، بل هو أيضا في سوء الإرادة” التي جعلت العالِم لا يصمد طويلا أمام غواية الثروة التي فتح له بابها أخوه الأصغر الفاشل في التعليم. الغريب أن الثنائي في فيلميهما التاليين يتبنيان وجهة نظر تبدو إلى حد ما مناهضة للعلم والفلسفة في مقابل التسليم بالأمر الواقع كما في “جري الوحوش” الذي بلور رؤية قدرية وصمت العلم بالغرور، بينما نموذج المتدين الذي يرفض العلم بوصفه تحايلا على القدر.. هو النموذج الذي ينتصر في النهاية.. وفي العمل الثاني “البيضة والحجر” ينتصر الثنائي للدجل والخرافة على حساب الفلسفة.. وما تزال العبارة الفارقة الواردة في هذا الفيلم تتردد في آذاننا جميعا، وهي عبارة “وقد اعترف المتهم بأنه صاحب مبدأ”.

قدم المخرج الراحل علي عبد الخالق نحوا من تسعة وثلاثين عملا سينمائيا بالإضافة إلى الفيلمين التسجيليين التي سبقت الإشارة إليهما، وستة أعمال درامية لم تحقق النجاح المنتظر.. لكن أعماله التي أشرنا إليها في هذا المقال ستظل خالدة في ذاكرة السينما العربية، وفي ذاكرة الناس الذين كانوا دائما في عقل وقلب علي عبد الخالق الذي فارق دنيانا أمس عن عمر ناهز الثامنة والسبعين، بعد مشوار فني حافل بالعطاء.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock