في الأول من نوفمبر من عام ١٩٥٤ استيقظ العالم أجمع على حدث جلل، لقد انطلقت في الجزائر ثورة ضد الاستعمار الفرنسي الذي جثم على أرض هذا البلد العربي وعلى صدور أولاده ل ١٢٠ عاماً كامله.
جاء الإعلان من قلب العروبه النابض، من قاهرة المعز، ومن خلال إذاعة صوت العرب التي ظلت على مدار الأعوام الثمانية التالية (١٩٥٤- ١٩٦٢) تدعم ثورة الجزائر التي باتت تعرف باسم ثورة المليون شهيد والتي، على حد تعبير الكاتب الصحفي الراحل محمود السعدني، «أكلت من الرجال حتى شبعت وشربت من الدم حتى ارتوت».
https://youtu.be/nljU-g9nhYI
كان الإعلان في حد ذاته تتويجاً لسلسلة اجتماعات احتضنتها القاهرة في 10 و24 أكتوبر 1954 وجمع بين ثوار مصر الذي وصلوا إلى السلطه قبل ذلك التاريخ بنحو عامين وبين ثوار الجزائر.
لكن اللقاء بين مصر والجزائر وبين مشروع التحرر في كلا البلدين لم يبدأ من ذلك العام بل بدأ قبل ذلك التاريخ بقرن كامل.
فوفقا لرساله تلقاها موقع أصوات من قارئ من الجزائر الشقيقة كتبها في ذكرى استقلال البلاد (الخامس من يوليو) وبمناسبة استعادة ترابه رفات العشرات من قادة وشهداء المقاومة الذين ردتهم فرنسا.
حيث أوضحت الرسالة أن من بين الجثث المستعادة رفات شهيد مصري شارك في المقاومه الباسله ضد المستعمر الفرنسي الذي وطئت قدماه أرض الجزائر عام ١٨٣٠.
والشهيد المصري هو موسى بن الحسن المصري الدرقاوي وهو مؤسس طريقة صوفية تعرف باسم الطريقة (الماساوية) في الجزائر٫ وهو مجاهد احتضنته الجزائر كما احتضنت أرضها لاحقا رفاته.
الشهيد المصري «موسى بن الحسن المصري الدرقاوي»
ولد الشهيد في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي في احدى ضواحي مدينة دمياط المصرية وطغت على حياته روح المغامرة والسفر وهو أمر كان يسيراً بين الأقطار العربية قبل أن يفد إليها المستعمر الأوروبي اذ لم تعرف حينها لا الحدود المصطنعة ولا التأشيرة.
فوفد الشهيد إلى طرابلس الغرب عام 1826) حيث تعلم العلوم الشرعية. ثم توجه إلى المغرب ومكث في جنوب المغرب لمدة سنتين، وبعد ذلك غادر نحو الأغواط في الجزائر، ومكث بها عامين، انتقل بعدها لمدينة مسعد الجزائرية سنة 1831.
وكما استضافت مصر على أرضها شيوخ وفقهاء المغرب العربي واعتبرهم أهلها من أولياء الله الصالحين وأقاموا لهم الزوايا والمقامات والأضرحة، رحب سكان (مسعد) بالفقيه المصري المتصوف وأقبلوا عليه ينهلون من علمه.
وكان قدر المتصوفة (على عكس تشنيعات المتشددين) في أغلب البلدان العربية التي تعرضت لهجمة استعمارية شرسة في القرن التاسع عشر أن يكونوا في مقدمة المجاهدين المدافعين عن هذه الأقطار ولم يكن الشيخ الدرقاوي استثناءا حيث لبى نداء الجهاد حين ناداه وذلك حين تواصل مع الشيخ بوزيان وهو أحد المساعدين الرئيسيين للأمير عبد القادر الجزائري ذلك الزعيم السياسي والعسكري الفذ الذي قاد النضال ضد المستعمرين واضطرهم لتوقيع معاهدتين متتاليتين معه.. اعترفت فرنسا في كليهما به كحاكم شرعي للجزائر. تواصل الشيخ الدرقاوي عن طريق الشيخ بو زيان مع شيوخ الزوايا والطرق الصوفية للتحضير لثورة جديدة ضد الفرنسيين.
الأمير عبد القادر الجزائري
رحب الشيخ الدرقاوي بنداء الجهاد واختار ثمانين مقاتلاً من مدينة (مسعد) وتوجه بهم إلى واحة «الزعاطشة» وتحصن كل من الشيخين بوزيان والدرقاوي بها لكن القوات الفرنسية التي كانت عازمة على كسر مقاومتهم فرضت حصاراً خانقاً على تلك المنطقة.
قاوم الشيخ الدرقاوي ببسالة الحصار المفروض عليهم بالواحات ورافقه في ذلك مجاهدي قبائل أولاد نائل وبوسعادة و المسيلة ممن التحقوا بإخوانهم في (الزعاطشة)٫ فما كان من القادة الفرنسيين إلا أن أصدروا أوامر لقواتهم بإبادة سكان الـواحـة بالكامل بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ وقطع أشجار النخيل، وحرق المنازل وهو أسلوب وحشي سيعرف لاحقاً باسم «الارض المحروقة» وسيضحي أحد الأساليب المفضلة لدى المحتلين الصهاينة في فلسطين.
وفي السادس والعشرين من شهر نوفمبر من عام ١٨٤٩ نال الشيخ شرف الشهادة حين نسفت القوات الفرنسية دار الشيخ بوزيان فسقط شهيداً، إلا أان الفرنسيين لم يكتفوا بذلك، إذ كان لا بد -وفقاً لمنطقهم- من التمثيل بجثث الشهداء حتى يكونوا عبره ومثالاً.
الشيخ «بوزيان القلعي»، بطل الرعاطشة الثائرة
كان أسلوب التمثيل أسلوباً مفضلاً لدى المستعمرين بداية من قطع الفرنسيين لرأس الشهيد سليمان الحلبي لدى غزوهم لمصر ولدى القائد «هيربيون» وهو أحد السفاحين الذين ابتليت بهم الجزائر وهو أيضاً أسلوب سيكرره الاحتلال الإنجليزي في السودان حين نبشوا قبر الزعيم السوداني محمد أحمد الشهير بـ (المهدي) عام ١٨٩٩ وأرسلوا جمجمته إلى لندن.
أصدر (هيربيون) تعليماته إلى قواته بقطع رأس زعيم الثورة الشيخ بوزيان ورأسي ابنيه ورأس الشيخ الحاج موسى الدرقاوي ولم يكتف الغزاه بذلك بل اصطحبوا رؤوس الشهداء إلى فرنسا لكي يعرضوها في متاحفها!
لم تقمع هذه الوحشية جهاد أهل الجزائر في سبيل الحرية والاستقلال في نهاية القرن ١٩ وواصلوا كفاحهم طوال سنوات القرن العشرين حتى العقد السادس منه.. كما لم يتوقف الدعم المصري لهم والذي تكلل في يوليو من عام ١٩٦٢ باستقلال البلاد ووصول ثائر جزائري لجأ إلى القاهرة ذات يوم هو أحمد بن بيلا الذي أصبح اول رئيس للجزائر المستقلة.
ذكر بن بيلا لاحقاً في شهادته أن مصر كانت البلد الوحيد الذي أمد ثورة الجزائر بالسلاح على مدى أول عامين من اندلاعها (١٩٥٤- ١٩٥٦) قبل أن تجد الثوره مصادر أخرى للتسليح.
وفي 4 مايو 1963 وصل الرئيس المصري جمال عبد الناصر إلى الجزائر واستقبلته الجماهير هناك استقبالاً أسطورياً ويروي مسؤول اتصال عبدالناصر ومصر بثورة الجزائر (فتحي الديب) أن العاصمة الجزائرية وصلها مليون وافد إضافة إلى سكانها وغصت الشوارع بهم ليكونوا في استقبال الرجل الذي دعم ثورتهم لثماني سنوات.
ولم تتأخر الجزائر عن نداء مصر حين احتاجتها الأخيرة، ففي أعقاب عدوان ١٩٦٧ وفي إطار إعادة بناء مصر لجيشها أمد الرئيس الجزائري هواري بومدين، القائد السابق لجيش الثورة، مصر بجزء مهم مما تحتاجه من طائرات.
ويروي اللواء وصفي بشارة أحد قادة القوات الجوية المصرية أن «بومدين أمدنا بأسطول من طائرات الميغ 21، بالإضافة إلى الجسر الجوي الذي فتحه لنا الاتحاد السوفيتي وأرسل لنا طائرات مفككة قمنا بتجميعها في مصانعنا».
وحين حانت لحظة النصر في عام ١٩٧٣ بادرت الجزائر بدعم جيش مصر من خلال إرسال فيلقها المدرع الثامن للمشاة الميكانيكية بمشاركة 2115 جندي و812 صف ضباط و 192 ضابط جزائري إلى الجبهه المصريه ناهيك عن مبادرة الجزائر لحظر تصدير البترول للدول التى تساند الدولة الصهيونية.
وفي الثالث من يوليو 2020 تم استرجاع جمجمة الشهيد الحاج موسى بن الحسن الدرقاوي، تلك الجمجمة التي بقيت لسنوات في إحدى متاحف فرنسا تحمل الرقم ٥٩٤٢.
إن عودة الشهيد الدرقاوي إلى أرض الجزائر تؤكد على عمق الصلة وامتزاج دماء الشعبين المصري والجزائري. تلك الصلة التي لم تنقطع رغم كيد المستعمرين على مدى أكثر من ٢٠٠ عام.