رؤى

أبو سعد الهروي.. ثقافة رفض الهزيمة

في صيف عام ١٠٩٩ للميلاد٬ فوجي القاضي والفقيه محمد بن نصر بن منصور الشهير بـ أبي سعد الهروي بمجموعه من أهالي مدينة القدس يدخلون عليه مجلسه في مسجد دمشق، وهو جالس يلقي درسا على تلاميذه.

بدت ملامح الإعياء والاجهاد واضحة على أهل القدس الذين فروا بأرواحهم من مجزرة بشعة ارتكبها الغزاة الأوروبيون الذين سيعرفهم التاريخ باسم “الصليبيين” بعد اقتحامهم المدينة في شهر يوليو من ذلك العام بعد أن فرضوا عليها حصاراً لمدة اربعين عاما.

كان الناجون يرتجفون أمام الهروي وهم يروون له تفاصيل المذبحة التي ارتكبها هؤلاء الأوروبيون في طرقات المدينة وشوارعها والذين لم يفرقوا بين طفل وراشد ولا بين عربي مسيحي ومسلم بل لم ينج منها حتى يهود المدينة الذين جمعهم الغزاة كما يؤكد المؤرخ ابن القلانسي في الكَنِيسِ ثم أحرقوه عليهم.

ويذكر المؤرخ ابن العبري تفاصيل المجزرة بقوله: “ولبث الفرنج في البلد أسبوعا يقتلون فيه المسلمين، وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا”.

ويعترف المؤرخ الصليبي “وليم الصوري” أن القدس أصبحت “مَخَاضَة واسعة من دماء المسلمين، أثارت الرعب والاشمئزاز”.

وصل الناجون إلى دمشق بعد أيام من تلك المذبحة المروعة، وسجدوا لله شكرا في رحاب المسجد الأموي أن نجّاهم من تلك الأهوال التي لاقوها.. وكان معهم المصحف العثماني الذي استطاعوا إنقاذه من المسجد الأقصى الذي بات -كما يذكر المؤرخون- يحوي من الدم ما يكفي بحرا متموجا.

استمع الهروي إلى شكوى الناجين، وهو يغالب دموعه وكان يدرك تماما أن هذه المأساة هي النتيجة الطبيعية للحالة التي وصلت إليها الأمة في زمانه.

حيث صار الخليفة العباسي في بغداد مجرد اسم ولقب لا أكثر في حين صارت السلطة الحقيقية في يد حكام المدن والأقاليم الذين استقل كل منهم بمدينته وباتوا يقاتلون بعضهم البعض بدلا من الدفاع عن الثغور وصد العدو عنها.

قرر الهروي إن مأساة بهذا الحجم بحاجةٍ إلى عمل يُفِيقُ الغافلين من أبناء الأمة من غفلتهم؛ ليدركوا ما حاق بها نتيجة انقسامهم وقتال الأخ لأخيه؛ فاصطحب وفدا من الناجين إلى عاصمة الخلافة بغداد حيث قرر أن يواجه الخليفة الدمية وقائد جنده السلجوقي ويطلعهم على نتائج أفعالهم.

دخل القاضي الهروي إلى بغداد في شهر رمضان، وكان أول ما قام في مسجد الخليفة هناك هو أن صدم الجميع وافطر على الملأ في نهار رمضان، وحين احتج الصائمون على فعله هذا أجابهم قائلا؛ إن اسقاطه لصيامه أهون من إسقاط الامة بأسرها لفريضة الجهاد في سبيل الله.

ثم توجه مع الناجين المقدسيين إلى قصر الخليفة العباسي الشاب المستظهر بالله الذي كان فتى غرا لا حول له ولا قوه وكانت السلطة بيد السلطان السلجوقي “بركياروق بن ملكشاه” وواجه كلا من الخليفة والسلطان بالتقريع واللوم والتوبيخ على مسمع ومرأى من الوجهاء والمقدتسيين على حد سواء.

 أخذ الهروي يلوم على الحكام ما هم فيه من رغد العيش والرخاء في حين أن أهل الشام باتوا بين شهيد ومشرد ويذكر المؤرخ ابن الاثير ان الهروي “أورد كلاما أبكى العيون، وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمع، فاستغاثوا، وبكوا وأبكوا”.

إلا ان الهروي اعتبر دموع الخليفة تخاذلا ولم يرض منه بذلك خاصة أنه لم يقدم أمرا يُذكر لأهل القدس الذين أتوا يستغيثون به وبسلطانه.

ويذكر الباحث حازم رؤوف عباس في دراسة مقدمة إلى جامعة القاهرة عن دور فقهاء المسلمين في تلك المرحلة أن الهروي حين يئس من الخليفة والسلطان، لجأ إلى مساجد بغداد وخطب محرضا أهل البلاد على الجهاد في سبيل تحرير القدس واسترداد الكرامة والشرف.

أثارت خطب الهروي حرجا بالغا للخليفة الشاب ولم يجد أمامه حلا لحفظ ماء وجهه أمام رعيته سوى أن يوفد فقهاء بغداد الى ملوك وحكام الاقاليم طالبا منهم مناصرة أهل الشام، والجهاد ضد الصليبيين.

كان الهروي نموذجا للعالم الذي يرى أن لا قيمة لعلمه إن لم يكن في خدمة الأمة ولا خير في قول لا يصاحبه ويصدقه الفعل؛ فقرن هذا بذاك وكانت دعوته لمقاومة الغزاة ورفض الهزيمة شارة البداية لظهور حركات مقاومة متتالية ضد الصليبيين بداية بتجربة شرف الدين مودود ومرورا بعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصولا إلى صلاح الدين الأيوبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock