إنها الأميرة «أسمهان» التي ولدت في الماء وماتت به، صاحبة الصوت الأخاذ الذي يسحر الآذان ويذهب بالعقول.. هي حالة فريدة في عالم الغناء، حيث السحر والرقي وليالي الأنس، جمالها يخطف ناظريك، حين تراها فكأنك تجلس أمام لوحة فنية متكاملة الأركان، أختطفها الموت في ريعان شبابها، في مثل هذا اليوم 11 يونيو 1944، تاركة إرثا من أغانيها البديعة التي تبدو بمثابة الجواهر الخالدة التي تزداد قيمة ولمعانا مع مضي السنين.
البدايات
ولدت الأميرة آمال فهد الأطرش (وهو اسمها الحقيقي) لعائلة آل الاطرش الدرزية الكبيرة، في 25 نوفمبر عام 1917، على متن باخرة كانت تقل العائلة في رحلة من تركيا إلى سوريا، حيث عاشت طفولتها في مدينة السويداء، لتنتقل بعد وفاة فهد الأطرش والدها عام 1924، ثم إندلاع الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي والتي قادها عمها سلطان باشا الأطرش، إلى مصر مع والدتها الأميرة علياء المنذر، وشقيقيها فؤاد وفريد الأطرش. في القاهرة أقامت العائلة سليلة الإمراء، في حي الفجالة حيث عانت شظف العيش والفاقة، الأمر الذي دفع بالأم وهي سليلة الإمراء، إلى العمل في الأديرة والغناء في الحفلات الخاصة لإعالة وتعليم أولادها الثلاثة.
ظهرت مواهب آمال الأطرش الغنائية والفنية باكراً، فقد كانت تغني في البيت والمدرسة مرددة أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وشقيقها فريد، لتبدأ بعد ذلك مشوارها الفني إلى جوار أخيها فريد الأطرش الذي أخذ بيدها إلى عالم الفن وجعلها نجمة لامعة إلى جانب شهيرات الغناء ذلك الوقت، أمثال أم كلثوم، ونجاة علي، وليلى مراد وغيرهن.
صورة نادرة لأسمهان وهي طفلة
في أحد الأيام استقبل فريد في المنزل (وكان وقتها في بداية حياته الفنية) الملحن داود حسني أحد كبار الموسيقيين في مصر في ذلك الزمان، فسمع آمال الأطرش تغني في غرفتها فطلب إحضارها وسألها أن تغني من جديد، فغنت وأعجب بصوتها، ولما انتهت قال لها «كنت أتعهد تدريب فتاة تشبهك جمالاً وصوتاً توفيت قبل أن تشتهر لذلك أحب أن أدعوك باسمها أسمهان» وهكذا أصبح اسم آمال الفني أسمهان، وهو أسم مأخوذ من كلمة تركية من مقطعين، هما «اسم» و«هان» المحرفة من كلمة خان وتعني الحاكم أو السلطان والجاه.
رحلة الفن والشهرة
في عام 1933 انقطعت عن الفن لمدة ست سنوات بعد زواجها من أبن عمها الأمير حسن الأطرش وعودتها إلى سوريا، حيث اشترط زوجها عليها أن تتوقف عن الغناء، لكنها سرعان عادت إلى مصر مرة آخرى عام 1939، بعد دبت الخلافات بينها وبين زوجها بسبب غيرته الشديدة عليها حيث كانت قد أنجبت منه ابنتها الوحيدة كاميليا، لتعود إلى حياة الفن والطرب وتدخل عالم التمثيل السينمائي. فقد فتحت الشهرة التي نالتها «أسمهان» كمطربة جميلة الصوت والصورة، الطريق أمامها لدخول عالم السينما، فقامت عام 1941، ببطولة أول أفلامها وهو فيلم «انتصار الشباب» إلى جانب شقيقها فريد الأطرش، وشاركته أغاني الفيلم.
وفي سنة 1944 مثلت في فيلمها الثاني والأخير والذي رحلت قبل اكتماله وهو فيلم «غرام وانتقام» إلى جانب الفنان الكبير يوسف وهبي وأنور وجدي ومحمود المليجي وبشارة واكيم وسجلت فيه مجموعة من أجمل أغانيها، وشهدت نهاية هذا الفيلم نهاية حياتها.
سبق لها أن شاركت بصوتها في بعض الأفلام كفيلم «وم سعيد»، إذ شاركت محمد عبد الوهاب الغناء في أوبريت «مجنون ليلى»، كما سجلت أغنية «محلاها عيشة الفلاح» في الفيلم نفسه، وهي من ألحان محمد عبد الوهاب الذي سجلها بصوته فيما بعد. سجلت أغنية «ليت للبرّاق عيناً» في فيلم «ليلى بنت الصحراء».
عرف عن أسمهان أنها لم تحصر تعاملها مع ملحن واحد مهما كان شأنه، فتعددت أسماء الملحنين الذين غنّت لهم ألحانا خالدة. أمثال أخيها فريد الأطرش الذي غنت من ألحانه أشهر أغنيتين لها وهما «ليالي الأنس في فيينا» و «أنا أهوى» من فيلم «غرام وانتقام»، كما غنت لرياض السنباطي «يا لعينيك» و«أقرطبة الغراء» و«الدنيا». وأغنيتها من فيلم غرام وانتقام «أيها النائم».
كما غنت العديد من الأغاني من ألحان محمد القصبجي وهي «يا طيور» و«اسقينيها» و «كلمة يا نور العين» و «فرق ما بينا الزمان» و «كنت الأماني» و«هل تيم البان»، بالاضافة لأغنيتين من فيلم غرام وانتقام هما «إامتى هتعرف» و«أنا اللي استاهل».
بعد انفصالها عن أبن عمها وعودتها إلى الفن في مصر، وخلال تصوير فيلم انتصار الشباب عام 1941، تعرفت أسمهان على المخرج أحمد بدرخان الذي تزوجته عرفيا، لكن زواجهما إنهار سريعاً وانتهى بالطلاق دون أن تتمكن من نيل الجنسية المصرية التي فقدتها حين تزوجت الأمير حسن الأطرش. ثم تزوجت من المخرج والممثل «أحمد سالم» حيث عانت من مشاكل في زواجها معه، وعندما توفيت كانت على خلاف معه وحتى أن هناك الكثير من الأقاويل عن أنه ربما المسؤول عن وفاته، خصوصا وأنه كان على خلاف دائم معها خلال زواجهما حاول قتلها في بداية عام 1944 باطلاق الرصاص عليها.
https://youtu.be/tiRhgKapHF0
الرحيل
لم تعش «أسمهان» حياة شخصية سعيدة ولم تنل حظها الكافي في سنواتها، ومرت بأزمات خلال عمرها القصير وقد طاردتها الشائعات خلال حياتها و حتى بعد وفاتها وابتعدت عن الأضواء والإعلام. في الوقت الذي كانت تعمل فيه بفيلم «غرام وانتقام»
وقد كشف عميد المسرح العربي يوسف وهبي فى لقاء نادر له، عن ظروف مقتل الفنانة أسمهان، حيث إنه كان آخر من حاورها قبل وفاتها، لافتًا إلى أنها تلقت خلال تصوير فيلم «غرام وانتقام» دعوة من صديقتيها المقربتين لقضاء عطلة الأسبوع في رأس البر، وعلى الرغم من أن المدينة لم تكن بالرفاهية الموجودة بها حاليًا، إلا أنها قبلت الدعوة مُرحبة وأتمت استعدادها للسفر.
ويقول وهبى إنه رفض تلبيتها للدعوة ونصحها وألح عليها أن تسافر معه هو وزوجته إلى الإسكندرية، ولكن أسمهان ولم تنصت إلى محاولاته الكثيرة لتشويه صورة رأس البر في مخيلتها لكي تلغي تلك الفكرة، وأكدت له معتذرة أنها لا ترغب في إحراج صديقتيها، موضحًا أنه توجه إليها فجر اليوم الذي حددته للسفر لكي يقنعها لآخر مرة.
لكن المدهش في قصة وفاة أسمهان الغامضة والتراجيدية، أنها وقبل أربع سنوات من موتها، مرت في نفس الطريق، فشعرت بالرعب لدى سماعها صوت آلة الضخ البخارية العاملة في الترعة، وأعربت في حديث لها مع الكاتب الصحفي محمد التابعي، رئيس تحرير «مجلة آخر ساعة»، والذي كان يرافقها حينها: عن خوفها قائلة :«كلما سمعت مثل هذه الدقات تخيلت أنها دفوف جنازة».
وتبقى الراحلة أسمهان رغم موتها المبكر ومسيرتها الفنية القصيرة نسبياً، واحدة من أهم الوجوه الكلاسيكية للفن والطرب العربي مطلع القرن العشرين.