منوعات

رجل أربك الصهيونية العالمية: روجيه جارودي.. مفكر انحاز للإنسانية دوما

تبدو قصة التحولات الفكرية مألوفة لدى الكثيرين، فقد تحول سيد قطب من ساحة النقد والأدب الرومانسي إلى باحات الإسلام السياسي، كما تحول كثير من مفكري الحقبة شبه الليبرالية في مصر إلى الكتابات الإسلامية ربما تحت تأثير عوامل شتى.

لكن هناك تحولات تبدو الأكثر صخبا وقلقا ورسوخا، وربما تكون رحلة التحول الفكري لدى المفكر الفرنسي روجيه جارودي من الماركسية، التي آمن بها نظريا ومارسها سياسيا لعقود، هي الأخطر والأعمق.. أما كيف بدأ وإلى أين انتهي؟ فتلك هي الحكاية.

https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/712260135869964/?t=3

انحياز للإنسانية

وُلد روجيه جارودي في السابع عشر من يوليو عام 1913 بمدينة مارسيليا الفرنسية لأم كاثوليكية وأب ملحد، اعتنق البروتستانتية وهو في الرابعة عشرة من العمر. وأكمل دراسته الجامعية في مرسيليا، وجامعة «إيكس أون بروفانس»، وأثناء دراسته الجامعية استحوذت عليه النظرية الماركسية بأفكارها المنحازة للطبقات الاجتماعية الكادحة، ومواجهة الاحتكار الرأسمالي، وانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي- الذي سيصبح فيما بعد أحد أهم منظريه- عام 1933.

بعد اجتياح قوات هتلر النازية لفرنسا شارك جارودي في حركة المقاومة ضد النازيين بداية أربعينيات القرن العشرين, فاعتقلته حكومة فيشي الموالية للنازيين ونقل إلى مدينة الجلفة جنوب الجزائر خلال 1940-1942. وبعد انتهاء الحرب، وفي عام 1945 انتخب جارودي نائبا في البرلمان الفرنسي، وتماشيا مع قناعاته الماركسية حصل جارودي على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون عام 1953عن موضوع النظرية المادية في المعرفة «Théorie matérialiste de conscience»، ثم ألحقها بدكتوراه ثانية في العلوم السياسية من جامعة موسكو عام 1954.

منذ عام 1956 أصبح جارودي عضوا بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي، كما قام بتأسيس المركز المتميز للدراسات والبحوث الماركسية d’ études et de Recherches Marxistes.، وعلى الرغم من الطبيعة المادية للنظرية الماركسية، إلا أن جانبا انسانيا راقيا ظل يتجاذب المفكر الماركسي الشاب ويتحول بقناعاته. ولذلك كان السياسي المتألق والكاتب المذهبي للحزب الشيوعي الفرنسي على مدى عشرين سنةٍ تقريبًا، يميل إلى أنسنة الماركسية ومزجها بالديمقراطية، ومحاولة اكتشاف نقاط التلاقي وفتح الحوار بينها وبين الديانة المسيحية، بعدما شعر بأن الكثير من قيمها كانت منسجمةً بشكل مثالي مع الماركسية الحالمة بانتصار المهمشين المستضعفين، والذين كان المسيح واحدا منهم في تصوره بلاشك، وهو مزج عجيب بين ديانة روحانية ونظرية موغلة في التفسير المادي لحركة الإنسان والتاريخ.

ثمة تفسير وحيد لتلك المعادلة الصعبة، هو أن انحياز جارودي الحقيقي والأهم كان للانسانية دوما، فقد كان يحلم بنشر روح التضامن والإخاء والتشارك الإنساني، وهو ما لم يتحقق في الممارسات العملية لمعقل النظرية في الاتحاد السوفيتي، فوجه العديد من الانتقادات للسلطة السياسية للاتحاد السوفيتي وبسبب ذلك تم طرده من الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1970م، لاسيما بعد انتقاده اللاذع لغزو الاتحاد السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا.

Image result for ‫غزو الاتحاد السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا‬‎

 ولأن جارودي كان عضواً في الحوار المسيحي الشيوعي منذ حقبة الستينيات، فقد وجد نفسه منجذباً للدين، فحاول أن يجمع الكاثوليكية مع الشيوعية خلال عقد السبعينيات، ثم ما لبث أن اعتنق الإسلام عام 1982.

وعن اعتناقه للإسلام يقول جارودي إنه وجد أن الحضارة الغربية قد بنيت على فهم خاطئ للإنسان، وأنه عبر حياته كان يبحث عن معنى معين لم يجده إلا في الإسلام.

ظلّ جارودى – بعد إسلامه – ملتزما بقيم العدالة الاجتماعية التي آمن بها في الحزب الشيوعي، لاسيما أنه وجد أن الإسلام ينسجم مع ذلك ويطبقه بشكل فائق. كما ظلّ على عدائه للإمبريالية والرأسمالية، وبالذات لأمريكا، فالإسلام من وجهة نظر جارودي كان يمثل دين المستقبل، وهو عنوان كتاب له قال فيه «أظهر الإسلام شمولية كبرى في استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، فقد كان أكثر الأديان شمولية في استقباله للناس الذين يؤمنون بالتوحيد، وكان في قبوله لأتباع هذه الديانات في داره منفتحا على ثقافاتهم وحضاراتهم».

 

عدو الصهيونية

ناصر جارودي العديد من القضايا عربية وإسلامية في مواجهة الإمبريالية العالمية والغطرسة الأمريكية كقضية فلسطين، وواجه الصهيونية بشراسة، خاصة بعد مجزرة صابرا وشاتيلا في لبنان عام 1982، حيث أصدر بيان إدانة لها وقعه معه الأب ميشيل لولون، والقس إيتان ماتيو، ونشر في جريدة لوموند الفرنسية يوم 17 يونيو من العام نفسه بعنوان «معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان».

Image result for ‫معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان‬‎

كانت جرأة جارودي في إدانة الهجوم الإسرائيلي في الأوساط الأوربية مٌربكة للصهيونية العالمية، فشن عليه الإعلام الموالي لإسرائيل والصهيونية حملة شعواء، وصوره باعتباره عنصريا معاديا للسامية وقاطعته صحف بلاده، إلا أنه لم يتراجع عن مواقفه. وفي مرحلة هامة من تاريخ الرجل أصدر كتاب «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» عام 1995، ليشكك في الرواية الصهيونية للهولوكوست، وكذلك في الأرقام الشائعة حول إبادة يهود أوروبا في غرف الغاز على أيدي النازيين، فحكمت عليه محكمة فرنسية عام 1998 بالسجن سنة مع وقف التنفيذ، وغرّمته 120 ألف فرنك فرنسي (50 ألف دولار)، متهمة إياه بالعنصرية، وبإنكار جرائم ضد الإنسانية.

 وقد قال غارودي معلقا على هذا الحدث إن «اليهودية ديانة أحترمها، أما الصهيونية فهي سياسية أحاربها»، وعلى الرغم من الآثار السلبية لمواقف جارودي من الصهيونية والامبريالية الأمريكية على حياته، إلا أنها كانت بمثابة الجسر الذي عبر جارودي من خلاله إلى الثقافة العربية والإسلامية التي أصبح واحدا من أهم مفكريها ومنظريها في القرن العشرين.

تميّزتْ مسيرة جارودي المهنية بالنزاعات، لاسيما خلافه مع الفيلسوفِ والباحثِ الاجتماعي ميشيل فوكو، وقد ألف نحو 70 كتابًا، من بينها «الأساطير المؤسسة لإسرائيل»، و«وعود الإسلام»، والإسلام دين المستقبل، والمسجد مرآة الإسلام، الإسلام وأزمة الغرب، وحوار الحضارات، كيف أصبح الإنسان إنسانيا، و«فلسطين مهد الرسالات السماوية، مستقبل المرأة، وغيرها من المؤلفات المهمة، قبل أن توافيه المنية في الثالث عشر من يونيو عام 2012.

ميشيل فوكو

الفيديو جرافيكس

نص: بلال مؤمن

تحريك ومونتاج: عبد الله محمد

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker