رؤى

الفارق بين جيلين: منهاج تجريف السياسة منذ عهد السادات

منذ بضع سنوات كنت اتابع مع بعض الزملاء على شاشة التلفاز فيلم «أيام السادات» الذي يتناول كما يبدو من الاسم حياة الرئيس الراحل٫ كان ثمة مشهد في الفيلم -مقتبس عن واقعة حقيقية- يصور مواجهة بين السادات (قام بدوره العبقري الراحل أحمد زكي) وطالب جامعي جريء يُحمل سياسات الانفتاح الاقتصادي التي دشنها الرئيس مسؤولية ما يعتبره فساداً في الدولة وهو ما أثار بطبيعة حنق الرئيس السادات الذي اعتبر ان هذا الشاب سليط اللسان.

لاحظت أن أغلب الزملاء الذين كانوا يتابعون الفيلم معي والذين يماثلونني في السن [مواليد النصف الاول من الثمانينيات] يتفقون مع الرئيس السادات معتبرين أن مخاطبة الحاكم أو ولي الأمر ينبغي ان تكون باسلوب مغاير تماماً.

لم املك الا ان اعقد مقارنه في ذهني بين جيلين، جيل السبعينات الذي ينتمي إليه ذلك الشاب الذي لم يرى في مخاطبة الحاكم خطيئة أو ذنباً وبين جيل رفاقي الذين رأوا فيما فعله ذنباً يستوجب العقاب.

https://youtu.be/wpLXqFQEo-Q?t=7994

مشهد مناقشة الطالب الجامعي مع الرئيس السادات من فيلم «أيام السادات»

سعيت إلى معرفة سبب وجود هذه الفجوه الهائلة بين الجيلين رغم أن ما بينهما من سنوات ليس كبيراً ولا يزيد عن نحو عقدين من الزمن، إلا أن هذين العقدين كانا كافيين فيما يبدو لتغيير العقلية وطريقة التفكير والنظر الى الامور.

في رأيي أن البداية في تشكل هذه الهوة تكمن في تلك الفترة الزمنية التي يتناولها فيلم «أيام السادات» نفسه وتحديدا فترة  نهاية السبعينات فحتى العام ١٩٧٩ يمكن القول أن مصر كانت مجتمعاً مسيساً إلى حد بعيد وكان الشارع المصري وحراكه حاضراً في كل ما يتعلق بالشأن العام.

إذ شكلت الجامعة المصرية منذ نشأتها عام ١٩٠٨ وعلى مدار السبعين عاماً التاليه تربة خصبة لتشكيل وعي طلاب مصر السياسي واهتمامهم بالقضايا العامة وفي مقدمتها بطبيعة الحال قضية الاستقلال الوطني.

ومع انتفاضة العام ١٩٤٦ التقت الحركه الطلابيه مع نظيرتها العمالية على أرضية توسيع نطاق المطالب، إذ لم تعد مقتصرة على الاستقلال والدستور وهما شعاري الحركه الوطنيه المصريه الأساسيين وإنما أضيف إليهما بعد اجتماعي تمثل في مطالب الطبقة العاملة بالعدالة الاجتماعية.

الحركه الطلابيه وانتفاضة ١٩٤٦

ورغم طبيعة النظام [الشمولي] الذي تميزت به دولة ما بعد عام ١٩٥٢ إلا أن توسعها في سياسات توفير التعليم المجاني بما في ذلك التعليم الجامعي ساهم الى حد كبير في تشكيل جيل مسيس تمت أدلجته -إذا صح التعبير- لاحقاً من خلال تنظيمات شبابية أسسها النظام مثل منظمة الشباب الاشتراكي والتنظيم الطليعي.

ربما يفسر هذا كيف أن هذا الجيل الذي كان يدين للنظام الناصري بفرصته في الحصول على تعليم مجاني لم يمنعه ذلك من أن ينتفض ضد ذلك النظام في عام ١٩٦٨ رفضاً لما اعتبره احكاما هزيلة للغاية بحق من تسببوا في العام السابق في وقوع النكسه.

تاريخ الحركة الطلابية

شكل هذا الجيل المٌسيس معضلة حقيقية للرئيس السادات منذ وصوله الى السلطة اواخر عام ١٩٧٠ عقب وفاة سلفه جمال عبد الناصر، حيث واجهه بانتفاضات طلابية حاشدة ومتواصلة في عام ١٩٧١ وفي عام ١٩٧٢ تطالب السادات بالدخول في الحرب مع اسرائيل وتنفيذ وعده فيما عرف بـ «عام الحسم» ورفع الاعتصام الذي بدأه طلاب جامعه القاهره سقف المطالب الى بدءحرب شعبية ضد الوجود الصهيوني على أرض سيناء.

تكررت الانتفاضة مره أخرى وإن كانت على يد الحركة العمالية هذه المرة في عام ١٩٧٥ حيث شهد أول أيام تلك السنة تظاهرات عمالية حاشدة احتجاجاً على سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأ تطبيقها في عام ١٩٧٤ حيث تجمع عمال حلوان في منطقة باب اللوق ثم توجهوا إلى ميدان التحرير وهم يهتفون ضد رئيس الوزراء آنذاك عبد العزيز حجازي وهي الانتفاضة التي دفعت هذا الأخير إلى الاستقالة.

انتفاضة العمال والطلبة 1975

لكن التهديد الأكبر الذي خلقه -هذا الجيل المسيس – لنظام السادات جاء في يناير ١٩٧٧ حين توحدت كلا الحركتين الطلابية والعمالية فيما عرفت بانتفاضة الخبز حيث عمت التظاهرات يومي ١٨ و١٩ من ذلك الشهر مصر من أقصاها إلى أقصاها رفضاً للقرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة وتضمنت رفع الدعم عن عدد من السلع الأساسية.

انتفاضة الخبز، تقرير برنامج 60 دقيقة الأمريكي

أدرك الرئيس السادات آنه بحاجة إلى سبيل لتمرير سياساته الاقتصادية والخارجية على حد سواء وفي مقدمتها الصلح مع الدولة الصهيونية، وكان لا بد من تفكيك جناحي المعارضة لتلك السياسات: الطلاب والعمال.

لم يجد النظام صعوبة في استيعاب الحركة العمالية حيث كانت الدوله تسيطر على اتحاد عمال مصر وتعيين رئيسه كما كانت هناك حزمة من القوانين المقيدة لحق العمال في تكوين نقابات مستقلة.

أما الحركه الطلابيه فانتهج السادات معها أسلوب التفكيك الممنهج حيث تم حل اتحاد طلاب مصر الذي لم يغفر له السادات إعلانه الإضراب احتجاجاً على الصلح مع الدولة الصهيونية ثم تم احتواء الجامعات المصرية من خلال ما عرف بلائحة ١٩٧٩ الطلابية ووفقاً لهذه اللائحة تم إلغاء اللجنة السياسية في اتحادات الطلاب، وتم تجريم جميع أشكال العمل السياسي داخل الجامعة.

ولم يكن تجريم السياسة – إذا صح التعبير- هو السبيل الوحيد وانما تم في الوقت ذاته تشجيع تيار بعينه هو تيار «الإسلام السياسي» لتكريس ثقافة في المجتمع المصري لم يعهدها منذ قرن من الزمان على الأقل.

كرست هذه الثقافة فكرة [الخلاص الفردي] من خلال العلاقة الشخصية مع الخالق وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى الابتعاد عن الشأن العام، واستبدلت النقاشات حول [السياسات الاقتصادية والخارجية] إلى جدل عقيم حول [الحلال والحرام] ومدى شرعية الاختلاط بين الجنسين في أماكن الدراسة والعمل وما ينبغي أن ترتديه النساء أو لا ترتديه.

ولعل الأخطر من ذلك هو أن تلك الثقافة التي كرسها ذلك التيار و«دعاته» الذين أفسحت لهم كافة وسائل الإعلام المرئي والمقروء والمسموع في ذات الوقت الذي أغلقت فيه كل المنابر المسيسة ومجلات ثقافية وفكرية كمجلة الطليعة، ومؤسسات فنية مثل المؤسسة العامة للسينما، بدأت خطة ممنهجة لاغتيال الذاكرة الوطنية تمثلت في التشكيك فيما بدا  تاريخيا ووطنيا انها امور محسومة في الثقافة المصرية مثل {المواطنة} على أرضية النضال المشترك واستبدلتها {بالطائفية}

ولعل مما زاد من سيطرة هذا التيار {الاسلام السياسي} على الشارع المصري وقدرته على إعادة تشكيل ثقافته القمع الذي تعرض له تيار اليسار بشقيه القومي واليساري وهو تراجع تاكد في عقد التسعينات مع انهيار المعسكر الاشتراكي الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق.

عبد العزيز حجازى رئيس وزراء مصر الأسبق يتحدث عن استعانة السادات بالإخوان ضد الشيوعية

ورغم عودة الحيوية السياسية تدريجيا الى الشارع المصري ابتداء من ٢٠٠٤ و ٢٠٠٥ مع ظهور حركات ذات طابع وطني جبهوي خارج إطار الحزبيه الضيقه مثل حركة كفاية والنضالات العمالية المختلفة في المحلة الكبرى واعتصام موظفي الضرائب العقارية وغيرها وهي الحيوية التي بلغت أوجها في انتفاضة ٢٥ يناير الثورية عام ٢٠١١ إالا أن كافه الفاعلين في تلك الانتفاضة لم يتمكنوا من تنظيم صفوفهم في شكل مؤسسات مما أتاح لتيار الإسلام السياسي الأكثر تنظيماً الوصول إلى سدة السلطة إلى أن تمت الإطاحة به على يد التحركات الشعبية والمؤسسة العسكرية المصرية عقب انتفاضة يونيو عام ٢٠١٣.

انتفاضة يونيو 2013

إن الهوة السحيقة التي تفصل بين الجيل الذي ولد في ثمانينات القرن الماضي وحتي بين جيل انتفاضة ٢٥ يناير الثورية ٢٠١١ وبين جيل السبعينات المؤسس سياسيا لم تكن محض صدفة وإنما هي هوه صنعتها سياسة منهجية تم اتباعها منذ عهد الرئيس السادات واستمرت في عهد مبارك [منهج تجريف السياسة] وعلي مدى أربعين عاماً كاملة ومؤلمة من عمر الوطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock