غالبًا ما يبيض قسم وازن من الباحثين المتعاطفين مع الإسلاموية ، بوعي أو دون وعي ، العنف الذي تمارسه الإسلاموية، سواء بنفي تلك التهمة عنها بالمطلق دون تحليل معمق، أو بتجاهل تشريعها وتنظيرها للعنف باسم الدين. يستبعد هؤلاء الباحثين هذا الجانب من قائمة أدواتهم التحليلية، مكتفين بالسعي لفهم أسبابه الاجتماعية السياسية الاقتصادية ، أو بتقديم العنف التي تمارسه الحركات الإسلامية كمجرد انحراف عن نهجها السلمي، وأنه رد فعل طبيعي ضد العولمة أو الإمبريالية الغربية. يتجاهل توصيف هؤلاء الباحثين المعاطفين مع الإسلامويين كل الأدلة التي أظهرتها الوثائق الغربية السرية ( بعد مرور خمسين عاما ) كيف ان الاخوان المسلمين كانوا باستمرار حلفاء للامبريالية الغربية في ضرب مشروعات التحرر الوطني والنظم التي حاولت بناء التنمية المستقلة ، ولم يكونوا أبدا أعداء للرأسمالية.
هناك من الباحثين مثل كيركباتريك David D. KIRKPATRICK – – ومن يأخذون عنه – من ينكر أصلا أن الإسلاميين يرتكبون أي عنف، مدعيين أن الإسلاميين بالأحرى هم الضحايا الحقيقيين للعنف. بالنسبة لهذا الفريق من الباحثين فإن الإسلاميين هم مجرد معارضين لأنظمة الحكم الديكتاتورية القمعية في الشرق الأوسط، متجاهلين حقيقة أن مراكز ثقل وتحالف جماعة الاخوان الإقليمية هي في قطر التي لا تطبق الديمقراطية. ويذهب هذا افريق من الباحثين إلى أن النظم القمعية في المنطقة هي التي تدبر في الحقيقة كل هذا العنف والإرهاب بغرض تشويه صورة الإسلام السياسي ، وطلبا لدعم الغرب لمساعدتها في التخلص منه ، وعادة ما يكتفي هذا التيار لتبرير ذلك الموقف بالقول بأن الإسلاميين “معتدلون” لأنهم أول من يدين أعمال العنف التي تُرتكب باسم الإسلام.
الباحث «David D. KIRKPATRICK»
و هناك من الباحثين من يعترف بالمقابل بأن هناك عنفا يمارسه الإسلاميون بالفعل باسم الإسلام، ولكنه يستدرك قائلا أن هذا العنف يمثل انحرافا عن نهجهم السلمي نتيجة للسياق الذي يعيشون فيه، حيث يتم قمعهم من الأطراف السياسية الأخري في مجتمعاتهم. وفي إطار هذا الاتجاه تُستخدم كل الحجج الأخرى الممكنة لتبرير هذا العنف أو التهوين منه أو حتي تطبيعه، لا سيما القول بأن الإسلاميين ليسوا الوحيدين الذين يستخدمون العنف في المشهد العالمي الحالي.
يستشهد الباحثون الذين يستخدمون هذه الحجة باليمين المتطرف في الغرب وبالدول التي يطلقون عليها الدول “الإرهابية”، ثم يطالبون بفهم ظاهرة التطرف و العنف باسم الإسلام فقط في هذا السياق، أي علي أنها عنف مضاد تلقائي لا يتم التنظير له ولا تبريره شرعيا . وأخيرًا ، يري بعض الباحثين الغربيين المنتمين لتيار ما بعد الاستعمار أن عنف الإسلاموية هى مسألة عنف شرعي، أو عنف مضاد، أو نوع من المقاومة أو الانتقام لمرحلة الاستعمار، أو حتى رد فعل ضد العولمة أو نتاج للإمبريالية الغربية ، أو ردة فعل عليها أو نوعا من غضب ضحايا العولمة الرأسمالية كما يؤكد سلافوي جيجك على سبيل المثال.
سلافوي جيجك
و أخيرا هناك من الباحثين من يستثني من قائمة أدواته التحليلية فكرة “التنظير للعنف باسم الدين”، مكتفيا بالسعي لفهم الأسباب الاجتماعية السياسية الاقتصادية فقط ، تلك التي يعتقد أنها الوحيدة التي تحفز عملية التطرف المؤدي للعنف. هذا التيار يستثني جماعة الإخوان المسلمين أيضا من دراساته بدعوي أنهم جماعة سلمية. و يميل هؤلاء الباحثين أيضا إلى قصر تناولهم على دراسة العنف الجسدي أكثر العنف الفكري أو النظري أو الرمزي الذي يشكل المرحلة الأولية الضرورية لأي عنف جسدي لاحق باسم الإسلام.
ثمة حقائق وملاحظات لنقد ذلك التيار المتعاطف مع الإسلاموية (عرضت بعضها في مقالي النقدي لدراسات التطرف المؤدي إلى العنف باسم الاسلام المنشور في مجلة “دفاتر أبحاث السياسات التطبيقية ” التي تنشرهاجامعة شيربروك بكندا ):
أولاً: يبدو أن هناك لوبيات أكاديميًة تسعي لنشر حالة من “الفوضى المعرفية”، التي تسعي لتأسيس هيمنة معرفية، تهدف إلى فرض تفسير يتوافق فقط مع مصالح الجماعات الإسلامية وحلفائها الاستراتيجيين. من وجهة نظري الخاصة، يجب فهم هذا الاتجاه الذي ينكر أصلا أن الإسلاميين يرتكبون أي عنف في هذا الإطار ، سواء كان هذا التوجه واع أو غير واع من قبل بعض باحثي هذا التيار.
ثانياً: التحريض على العنف، أو توفير غطاء أيديولوجي أو ديني أو تنظيري يضفي عليه الشرعية أو يبرره أو يحرض عليه، ، كلها أمورلا يمكن اسثناءها من أى تحليل موضوعي منصف ، وبالتالي لا يمكن فهم التطرف المؤدي إلى العنف باسم الإسلام دون اخذها في الإعتبار، فوفقا لنظرية أوستين عن “أفعال الكلام” «acts speechs of Theorie» ، والتي أسس لها في كتابه الشهير How to do Things with Words»» والتي ينظر فيها بأن الأفعال السلوكية إنما تنجز بالأقوال التعبيرية التي عادة ما تسبقها وتمهد لها. وبالتالي ، سيكون كافياً لواعظ إسلامي مؤثر أن يقول “هذا معاد للإسلام أو يشن حربا ضد الإسلام” ليعرض حياة هذا الأخير للخطر. لا يمكن فهم لماذا وكيف يكون الشخص راديكاليًا إرهابيا بإسم فهمه للدين، دون فهم الأفكار التي تحتوي على بذور العنف، والتي بدونها لا يمكن له أن يرتكب أفعاله تحت الراية الدينية.
أوستين
ثالثاً: المناهج والنظريات والنماذج المعرفية التي يلجأ إليها ذلك التيار من الباحثين في الغرب لفهم ظاهرة التطرف المؤدي إلى العنف باسم الإسلام، نادراً ما تتم مناقشتها بعمق أو التحاور بشأنها بين مناصريها أو إعادة النظر فيها وتحديثها بعد اختبارها وإثبات فشلها، فهذا التيار يرفع من تخصصاته العلمية ونوع المعرفة التي ينتمون إليها إلى مستوى المسلمات المقدسة، بينما يقللون من أهمية ما هو غريب عنها أو آت من خارج نطاقها المعرفي.
يقول “فرنسوا بورغا” أن “الإسلاميين هم مجرد فاعلين سياسيين فقط”، و لذا فهو يقول أنه “يجب علينا التوقف عن استخدام نهج الدراسات الدينية لفهمهم”، فهو يرفض دراسة النصوص التأسيسية للإسلاموية والتعويل عليها في فهم جماعات الإسلام السياسي، لذلك يبدو أنه لا يستخدم مقاربة تتماشي مع ظاهرة التطرف التي تؤدي إلى العنف باسم الإسلام ، ولكنه يركز بدلاً من ذلك على ما يعرفه و يعرف كيف يتعامل معه ، أى السلوك السياسي الظاهر لهذه الجماعات، و يقلل في المقابل من أهمية ما استثناه من قائمة أدواته البحثية وهي الجوانب الخاصة بنمط التدين المتطرف ونصوصه المؤسسة التي يضعها القادة الفكريين والسياسيين لهذه الجماعات. إنه يلغي من قائمة أدواته التحليلية الاختيار المتعمد والواعي وبالتالي الإيديولوجي للإسلاميين الذين يقررون الانخراط في التطرف و العنف المسلح و الإرهاب كما يوضح لنا أستاذ العلوم السياسية الفرنسي من أصول جزائرية Seniguer Haoues.
فرنسوا بورغا Seniguer Haoues
يبدو الأمر وكأن بورغا يعمل على “تبييض” أو “غسل” العنف الذي يرتكبه الإسلاميون، عن طريق تجاهل الأسس الأيديولوجية لهذا العنف. خلاصة الأمر أنه مما لاشك فيه أن الاختلاف في اهتمامات وتخصصات و نمط معرفة الباحثين الدارسين للتطرف المؤدي إلى العنف باسم الإسلام يؤدي لعدم اهتمامهم بنفس الجوانب أو نفس الأبعاد أو نفس مناهج ملاحظة الظاهرة مما يؤثر بالطبع علي نتائج البحث.
رابعاً: إن دراسة و فهم الأعمال الإرهابية التي يرتكبها الشباب وفقًا للعوامل الاجتماعية السياسية الاقتصادية فقط – علي أهميتها وتأثيرها – هو قصور معرفي ومنهجي إذ تتواجد العوامل الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعات أخري وكنها لاتنتج بالضرورة أعمالا إرهابية. بعبارة أخري إن الإصرار على هذا القصور المنهجي يمكن اعتباره بمثابة “تبييض” للعنف نتيجة للاكتفاء بالتفسيرات الاقتصادية (مثل الفقر والبطالة) أو السياسية (مثل الديكتاتورية ) فقط، لأنه يتجاهل عوامل أخرى لاتقل أهمية – إن لم تزد – مثل الحاجة الي دراسة عقلية التطرف التي تكشفها النصوص المؤسسة لجماعات العنف بإسم الدين، وهو قصور عادة ما يؤدي إلى فهم مبتسر للظاهرة في أفضل الأحوال وينتهي إلى نتائج جزئية ومتحيزة.
في كل الأحوال لا يجب استبعاد الدور الذي تلعبه الأيديولوجية الإسلاموية والعوامل الأخرى التي تلعب دورًا في التطرف الذي يؤدي إلى العنف باسم الإسلام، فإذا كان الإرهاب نتيجة للفقر وعدم المساواة الاجتماعية فقط ، فسيكون العالم مليئًا بالإرهابيين من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا بشكل خاص، وإذا كانت الديمقراطية ترياقًا فعالًا ، فسيتعين على الهند ، أكبر ديمقراطية في العالم ، أن تواجه هجمات أقل من الدكتاتوريات مثل ليبيا في أيام القذافي على سبيل المثال. علاوة على ذلك ، إذا كان السبب الرئيسي للإرهاب هو الصراع العربي الصهيوني، فلماذا لم يوجه الارهابيون طلقة واحدة نحو اسرائيل [ بل توجد ادلة اسرائلية علنية علي ان الارهابيين الاسلامويين في سوريا تم علاجهم في مستشفيات إسرائيلية وحصلوا علي بعض الدعم اللوجستي الإسرائيلي ]، ولماذا يفجر الإنتحاريون مدارس الفتيات في أفغانستان بدلا من دعم مقاومة الشعب الفلسطيني ؟ ولماذا يفجر إرهابيو مصر الإسلامويين عام 2017 قنبلة قبل فتح النار على الضحايا، وهم يصلون الجمعة في مسجد (صوفي) آمن في سيناء ، مما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص في لحظات؟
مسجد الروضة
خلاصة الأمر، إن اتباع مقاربة نقدية ومتعددة التخصصات ويربط بين عوامل التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والنصوص المؤسسة و المسوغة للعنف مثل كتب سيد قطب والمودودي وفرج عبد السلام الخ .ان اعطاء كل العوامل وزنها النسبي هو أمر ضروري لفهم أفضل لظاهرة التطرف التي تؤدي إلى العنف -كذبا – باسم الإسلام ، دون الوقوع في فخ تبييض العنف. وحدها تلك المقاربة الإبستمولوجية الشاملة القادرة علي إيجاد حلول سياقية وعلي:
١- تجاوز التفسيرات الإستشراقية أو الأصولية التي تؤكد على الإسلام باعتباره تعسفا انه كدين في حدذاته يمثل العامل التفسيري الرئيسي للتطرف المؤدي إلى العنف ،
٢- وتتجاوز في نفس الوقت التفسيرات التي تبدي تعاطفا او انحيازا اكاديميا مع الاسلاموية بتبرئة نمط التدين المنغلق والمتشدد الذي يتربون عليه في خاصية انتقالهم السريع لممارسة العنف وهي تفسيرات تنكر تمامًا دور النص الايدلوجي المؤسس للعنف وحاصرة أسباب هذا التطرف و العنف و الإرهاب فقط في التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي باعتبارها وحدها العوامل الوحيدة لهذا العنف.