تدهشني حقاً هذه القدرة المذهلة لدى بعض بني جلدتنا من العرب على جلد الذات وممارسة ابشع انواع المازوخية٫ فرغم أن الدم لم يجف في شوارع بيروت بعد٫ سارع هذا الفريق الى التسليم بفرضية الإهمال التي لم يؤكدها دليل ولم يثبتها بعد تحقيق٫ لكنها نظرية مريحه وتتوافق مع نظرة هذا الفريق الى ذاته وأمته٫ نظرة مفادها : اننا معشر العرب الاسوا بامتياز٫ وان اهمالنا مجبول فينا بالفطرة والسليقة وهي لعمري نظره تفوق نظرة المستعمر الغربي- الدونية – لنا.
آثار انفجار مرفأ بيروت
في المقابل٫ فإن الآخر (الغربي -الصهيوني) معفى تماماً لدى هؤلاء من اي مسؤوليه حتى وإن اعترف هذا الأخير بها٫ حيث تجاهل الفريق المشار إليه تماماً زله لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين قال صراحة : إن تفجير مرفأ بيروت كان نتيجة هجوم .
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
وهو التصريح الذي سارعت جهات أمريكية عدة لمحاولة “لملمته” إن صح التعبير عبر إنكاره رسمياً.
وتناسى هذا الفريق تاريخاً عريقاً للولايات المتحدة والدول الغربية في استهداف الموانئ كمحاولة لاكمال الخناق على الدول التي تحاصرها بغرض تغيير الحكومات فيها كما فعلت إدارة ريغان في الثمانينات مع حكومة الساندنيستا في نيكاراغوا فقامت بدعم ميليشيات الكونترا التي فجرت موانئ البلاد لمنع وصول الواردات من الاغذيه والادويه وهو سيناريو تكرر مع العراق في مطلع التسعينات.
ميناء نيكاراغوا
ولم يطرح هؤلاء أيضا أي اسئلة حول توقيت التفجير المتزامن مع تصاعد تضييق الخناق على كل من سوريا ولبنان اعمالاً لما يعرف بقانون قيصر.
كما تجاهل هولا ايضا المبادرة (المدهشة) !!من قبل الكيان الصهيوني لنفي أية علاقة له بالتفجير على طريقة المثل العربي “يكاد المريب ان يقول خذوني” بل ابرزوا تصريحات قادة هذا الكيان حول “مد يد العون” للبنان المنكوب راسمين صوره لهذا الكيان وكانه محسن او فاعل خير !!
ولم يتسائل هؤلاء أين كانت روح المبادرة هذه عند الصهاينة حين احتلوا جنوب لبنان عام ١٩٧٨ أو اجتاحوا لبنان من اقصاه الى اقصاه عام ١٩٨٢ او ارتكبوا المجازر في قانا في ١٩٩٦ و٢٠٠٦؟
وبطبيعة الحال سارعت قنوات بعينها لتحميل المقاومة اللبنانية مسؤولية التفجير و رمرددة سيناريو بعينه بدا وكأنه “مقرر” على كافة هذه القنوات وهو ببساطة أن المقاومة خزنت هذه المتفجرات في المرفأ معرضة حياة الآمنين للخطر وهو سيناريو يتجاهل أبسط قواعد المنطق فلما تخزن المقاومة التي اتخذت من (السرية ) منهاجاً لعملها منذ الثمانينات تخزين متفجرات في مكان معروف وسهل الاستهداف.
والأهم من هذا أن نترات الأمونيوم المشار إليها لا تنفجر من تلقاء ذاتها وإنما تحتاج إلى أداة خارجية كصاعق مثلاً٫ مما يطرح سوالاً عن طبيعة الفاعل.
ولا يفوق جلد هؤلاء لذاتهم شيئا سوى قدرتهم المدهشه على التزلف (للآخر ) القادم عبر المتوسط وتملقه٫ فالبساط الاحمر فرش للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بل وناشده نفر من هذا الفريق أن يدعم مطالبهم للتغيير٫ ولا تسل هنا عن ماهية هذا التغيير العجيب او الجيد الذي يمكن أن يأتي به المستعمر السابق لسوريا ولبنان وكان هؤلاء لم يبصروا بعيونهم طبيعة “التغيير” الذي اتى به سلفا ماكرون٫ نيكولا ساركوزري وفرانسوا هولاند على التوالي لكل من ليبيا وجارتهم سوريا.
نيكولا ساركوزري
تناسى هؤلاء تاريخ فرنسا الاستعماري الطويل في المنطقة بل تناسوا ان فرنسا لا زالت تحتفظ في سجونها بمناضل لبناني هو جورج عبد الله رغم انتهاء مدة حكمه القضائي لاسترضاء الكيان الصهيوني.
جورج عبدالله وسط الشرطة الفرنسية
ولعل من الطريف او من السخرية أنه في الوقت الذي يستقبل فيه السيد ماكرون بالترحاب٫ تتجاهل القنوات المشار إليها انفاً كافة مشاهد التضامن في كل من دمشق وبقية العواصم العربية بالاضافة إلى طهران وكأنها لم تكن.
هذا المشهد هو النتيجة الطبيعية لنهج جلد الذات٫ فإن كانت منطقتنا العربية -وفقاً لهذا المنطق- هي الأسوأ على وجه البسيطه واذا كان كل ما تعانيه الأمة اليوم نتيجة لثقافتها السلبية المزعومة وإذا كانت الطائفية امراً طبيعياً و”داعش” كما يردد البعض نتاجاً منطقياً للفقه الاسلامي ( وليس لتحريف جماعات وحكومات متشددة له) فان انتصار الامه يصبح من المستحيلات وكذلك لا يتحمل ( الاخر ) اي مسؤوليه حتى وإن كان قد استعمرنا قروناً بل ويصبح ملجأ وملاذاً نهرع إليه طالبين العون والسند لاننا اضعف من ان نتضامن كامة ونعين انفسنا بانفسنا او نداوي جراحنا بيدنا.
الرئيس الفرنسي يتفقد موقع انفجار مرفأ العاصمة اللبنانية بيروت
لكن نظرة متعمقة الى الواقع تثبت تهافت هذا المنطق٫ فما تعانيه الأمة ليس نتيجة اموراً مترسبة في ثقافتها٫ فالعراق لم يعرف القتل على أساس الطائفة قبل أن تجتاحه الدبابات الأمريكية عام ٢٠٠٣ وداعش لا وجود لها في بلد مثل إندونيسيا مثلاً رغم كونها البلد الاسلامي الاكبر من حيث عدد السكان (أكثر من ٢٠٠ مليون نسمة) بل إن نشاطها منحصر في دول اما تعرضت لغزو امريكي مباشر (العراق وأفغانستان) او تدخلت فيها بالوكاله (سوريا وليبيا) .
داعش
والامه انتصرت بالفعل رغم كل ما بها من (وهن ) في كل من جنوب لبنان في ٢٠٠٠ و٢٠٠٦ وفي غزة في ٢٠٠٥ وأحبطت المخطط الأمريكي لهدم الوطن السوري رغم حرب دامية دامت عشر سنوات .
وحتي العراق رغم كل ما أصابه لازال شعبه قادراً على المقاومة والتصدي لتنظيم لداعش وإنهاء دولته المزعومة للخلافة .
إن أولي خطوات بناء ما تهدم في بيروت هو الإيمان بالأمة وقدرتها على النهوض من تحت الركام٫ ذلك الإيمان الذي مكن كل من مصر وسوريا من تحويل نكسه ١٩٦٧ إلى انتصار في ١٩٧٣ وهو الإيمان الذي سيمكن لبنان وزهرته بيروت ان “تقوم من تحت الردم” كما وصفها ذات يوم عاشقها الشاعر العربي الراحل نزار قباني.
تحويل نكسة ١٩٦٧ إلى انتصار في ١٩٧٣
قومى يا بيروت – ماجدة الرومي