رؤى

1946.. قصة اللجنة التي قادت انتفاضة

كان يوم السابع عشر من شهر فبراير عام ١٩٤٦، يوما مشهودا في تاريخ الحركة الوطنية المصرية؛ حيث شهد تلاقيا بين كلٍّ من الحركة الطلابية، ونظيرتها العمالية بشكل غير مسبوقٍ منذ ثورة عام ١٩١٩.

حيث التقى في ذلك اليوم في مدرجات ملاعب كلية طب القصر العيني –كلٌّ من: اللجنـة التنفيذيـة لمؤتمر نقابات عمال مصـر واللجنة التنفيذية لطلبة جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) إضافة إلى اللجنـة التنفيذيـة لطلبة المدارس الثانوية، وكذلك اللجنـة التنفيذيـة لطلبـة الأزهـر.

ويشير الباحث “مازن الشمري” في دراسة عن موقف حكومة إسماعيل صدقي –رئيس الوزراء آنذاك– من الحركة الطلابية في ذلك العام، إلى أنَّ هذا الاجتماع أسفر عن مولد ما عُرف لاحقا باسم “اللجنة الوطنية للعمال والطلبة” والتي أكَّد قادتها الذين غلب عليهم الانتماء إلى التنظيمات اليسارية المختلفة على ضرورة النضال المشترك بين هاتين الفئتين لتحقيق “الجلاء ووحدة وادي النيل والعدالة الاجتماعية”.

كان أول ظهور علني لتلك اللجنة بعد الاجتماع المذكور بيومين أي في التاسع عشر من فبراير، ودعا أولُ بيانٍ لها إلى اعتبار يوم ٢١ فبراير يوماً للجلاء، ودعا البيان إلـى “الإضراب العـام فـي ذلـك اليـوم، وتعطيـل العمـل فـي المرافق العامـة، ووسائل النقـل ومعاهد التعلـيم فـي جميـع المـدن المصرية”.

وبالفعل استجابت الجماهير لهذه الدعوة؛ حيث شهد ٢١ فبراير تظاهرات حاشدة من عشرات الآلاف من المصريين، جابت شوارع القاهرة مطالبةً بالاستقلال إلا أنَّها اصطدمت لدى وصولها الى ميدان التحرير، بشاحنات إنجليزية سعت إلى دهس المتظاهرين؛ فثار المتظاهرون وأشعلوا النار في معسكر بريطاني، وسرعان ما امتدت التظاهرات الى خارج القاهرة وشملت مدنا عدة، وأسفر اليوم عن سقوط (٢٣) شهيدا وأكثر من مائة جريح.

ومن اللافت أنَّ كافَّة محاولات الحكومة للتفريق بين جناحي الحركة –العمال والطلبة– لم تُجْدِ نفعا، ففي اجتماع شهدته الجامعة في ٢٣ فبراير بعد يوم التظاهرات الدامي؛ طالب وزيـر المعـارف “محمـد حسـن حشـماوي” الطلابَ بإخراج من أسماهم الدهماء من صفوفهم، في إشارة إلى العمال، وهو ما قابله الطلبة بالرفض وتعالت هتافاتهم مرددين: “يحيا الطلبة مع العمال”.

وقررت اللجنة في اجتماعٍ تمَّ يوم ٢٦ فبراير، تصعيد النضال ردا على العنف الذي قوبلت به تظاهرات ٢١ فبراير، وأصدرت بيانا نبَّهت فيه إلى خطورة وجود القوات البريطانية في المدن الكبرى، وطالبت بسحبها فـورا، كمـا وافقت على اقتراح اللجنة التنفيذية بتحديد يوم الرابع من مارس لإعلان الحداد العـام، وأهابت بكل المواطنين المشـاركة في هذا الإضراب.

تجاوزت استجابة الجماهير لدعوة الإضراب توقعات اللجنة؛ حيث شاركت فيه كافَّة فئات الشعب، كما احتجبت الصحف عن الصدور في ذلـك اليـوم، وأُغلقت المصانع والمحال التجارية، وتعطلت المدارس والدراسة في الجامعـة.

بل امتدت الاستجابة إلى بلدان عربية أخرى؛ حيث شهد كل من: السودان وسوريا ولبنان وشرق الأردن والعراق إضرابا مماثلا، واعتبر الطلبة يوم الحادي والعشرين من فبراير، يوما للطالب العالمي اعترافا بتضحيات طلبة مصر.

ضاق رئيس الوزراء “صدقي باشا” بنشاط اللجنة؛ خاصَّة وأنَّه كان يُعِد العُدَّة في ذلك الوقت؛ لكي يبدأ جولة جديدة من المفاوضات مع الجانب البريطاني، وسعى جاهدا لإضعاف اللجنـة الوطنيـة للطلبة والعمال، ورأى أن خير وسيلة لهذا الإضعاف هو عبر اختراق الحركة من الداخل أي التفرقة بين الطلبة.

ووجد “صدقي” حليفا في أحزاب اليمين مثل الإخوان ومصر الفتاة وغيرهم، ففي يوم ٢٨ فبراير، تمَّ عقد اجتماع بـدار الإخوان المسـلمين، وحضره مندوبون يمثلون الأحزاب والهيئات السياسية، وضمَّ الاجتماع ممثلين عن الإخوان والأحرار الدستوريين وغيرها من الأحزاب، وقرروا تشكيل ما عُرف باسم “اللجنة القومية” التي أراد لها “صدقي” أن تكون بديلا  عن اللجنة الوطنية.

إلا أنَّ هذه اللجنة لم تستمر سوى بضعة أيامٍ لا أكثر؛ إذ أدرك “صدقي” أنَّها لم تحقق الهدف المنشود، وسرعان ما دب الخلاف بين أفرادها، فحين ضـغط طـلاب مصـر الفتـاة، والحـزب الـوطني علـى الإخـوان لمعارضة أسلوب “صدقي باشا” في مفاوضة البريطانيين؛ انسحب الإخوان من اللجنة القوميـة، وسرعان ما انتهى نشاطها بعد ذلك.

أما اللجنة الوطنية ورغم قدرتها على مقارعة كلٍّ من الاحتلال الانجليزي، وحكومة صدقي وحشد الطلبة والعمال في جبهة موحدة، وطرح قضية العدالة الاجتماعية لأول مرة إلى جانب قضيتي الاستقلال والدستور؛ إلا أنَّها عانت من عدةِ عيوبٍ داخلية؛ كان أولها أنَّها –وعلى عكس اللجان الوفدية التي انتشرت في الريف المصري خلال ثورة ١٩١٩– أهملت الريف لصالح المدن الكبرى، كما كان الانقسام بين اتجاهـات قياداتها أهـم أسباب ضعفها، وهو ما أدى في نهاية الأمر –رغم صمودها أمام ضربات حكومة صدقي الأمنية– إلى أن تَحِلَّ نفسها صيفَ عام ١٩٤٦.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock