من الأمور الي تستوجب الاعتذار، أن تكون أول الكتابة عن الفنان القدير سناء شافع في مقام الرثاء، ربما تكفيرا عن تقصيرنا في ذكره عند مواضع الثناء..
يرتحل مبدعونا الحقيقيون وفي الحلق غُصَّة، وفي القلب حسرات من الإهمال والنبذ وقلة التقدير، يرحلون وقد أمضَّهم ألم النكران، بعد أن طوتهم سحائب النسيان، إذ أسلمناهم وهم أجمل ما فينا لأحضان الكآبة بجحود فاجر استجابة لشروط السوق، وتجبره الفادح، ولا ندري أن ذلك المصير إنما هو حكمنا على أنفسنا لا عليهم.. أما هم فقد نجوا من كل ذلك على نحو ما.
في بلادنا يصارع الفنان الحقيقي أقداره منذ اختياره لطريقه، يدخله الله في تجربة مجابهة الأهل الذين يرون في عمل ابنهم بالفن انتقاصا من قدرهم، لكن الشاب الصعيدي “محمد سناء الدين” الذي نشأ بحي الجمالية بالقاهرة ومنه إلى حدائق القبة- لم يكن ليعبأ بالتهديد والوعيد الذي واجهه به والده العالم الازهري الجليل.
كانت “نداهة” الفن قد سحرته بالفعل، فلم ينفع معه حتى الضرب المبرِّح، ولا التجويع، فتح الفن عيون “سناء” على عوالم رائعة لا يمكن الإفلات من أسرها.
في شارع عماد الدين متنقلا بين فرق الهواة وهو ما دون العشرين، يعاين الفتى وجوه الفن المتنوعة التي لا تخلو من المعاناة، بل ربما تجسد المأساة؛ فتأتيه رسائل التحذير محرِّضة على العودة إلى حضن الاسرة، لينعم بالأمن بعيدا عن تلك المغامرة غير المحسوبة، لكنه لا يأبه لذلك، وفور حصوله على شهادة التوجيهية يتقدم بأوراقه إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، ولا يجد “شافع” صعوبة تذكر في اجتياز امتحان القبول الذي تكونت لجنته من عمالقة المسرح المصري، وعلى رأسهم الفنان الرائد “زكي طليمات” الذي أثنى على مقدرته وامتلاكه الكامل لزمام اللغة الذي يرجع لنشأته في بيئة أزهرية مولعة بالعربية وآدابها وعلومها.
في ظروف بالغة القسوة انتظم “سناء الدين” في الدراسة، وكان يعتمد على ما ترسله إليه والدته من مبالغ مالية محدودة، كانت تنقطع لشهور بعد اكتشاف الأمر من قبل الوالد الذي كان يشدد على عدم التواصل مع الفتى “المارق”!
بالرغم من ذلك انصب اهتمام الطالب على استشراف رؤى جديدة تتسم بالأصالة، وتبتعد بالمسرح المصري عن التقليد، وهو ما سيظهر جليا بعد ذلك في أسلوبه في الإخراج المسرحي الذي كان يعتمد على البساطة والعمق، والمزج بين الواقعي والتعبيري معتمدا على فهمه للنص وأبعاده الدرامية وجوانبه الإنسانية، متجنبا الإبهار ومحاولات الاستغلاق.
بعد إتمامه الدراسة بالمعهد؛ لم يحصل “شافع” على منحة لاستكمال دراسته في أوروبا، لكنه قرر أن يسافر على نفقته الخاصة، رغم صعوبة أحواله المادية، كانت الوجهة ألمانيا الشرقية، وهناك التحق بمعهد “هانز بول” واستمرت فترة الدراسة لتسع سنوات حصل خلالها على درجة الماجستير عن بحثه حول رؤية مسرحية مختلفة لـ”كوريولانوس” لشكسبير، ثم حصل بعد ذلك على منحة من وزارة الثقافة الألمانية لدراسة الإخراج المسرحي و”الدراماتورج” لينال درجة الدكتوراه عن أطروحة موضوعها: تأثير “برتهولد بريخت” في المسرح المصري.
بعد عودته إلى مصر أوائل السبعينيات أخرج “سناء شافع” مسرحية “اللي رقصوا ع السلم” وفي نفس العام عين بالمسرح القومي، ثم مديرا لمسرح الطليعة، والذي سيقدم من خلاله مسرحية “دون كيشوت” برؤية جديدة وبمجموعة من شباب الفنانين، ومن بطولة أستاذه “جلال الشرقاوي” الذي دعم بروح الأب التجربة الوليدة وساهم في نجاحها.
لقد كان تعلق د. سناء بأستاذه “جلال الشرقاوي” تعلقا كبيرا قلما نراه في واقعنا، فكان يرى فيه الأب والقدوة والفنان صاحب الرسالة النبيلة والمعلم الواعي والمثقف القدير، يعتبره صاحب أياد بيضاء على الفن المصري، وصاحب تجربة فريدة في المسرح المصري، وفي تحليل هذا التعلق الذي دام لقرابة الستة عقود يقول “شافع”: “إن ارتباطي بأستاذي جلال الشرقاوي ارتباط ذو بعدين.. بعد إنساني، فهو يمثل لي الأب الذي يشعرني دائما بالطمأنينة والأمان فأعيش بقلب طفل كما أحب دوما، وبُعد فني، لأن حضوره الفني يمثل لي طوال الوقت تحديا صعبا أود الوصول إليه، لذلك أسأل الله أن يكون رحيلي عن هذا العالم قبله؛ لأنه لا معنى لوجودي بدونه”.
هذه العلاقة الفريدة بأستاذه تكشف لنا جانبا بالغ الجمال في شخصية الفنان “سناء شافع” فهو تأكيد على أن الفنان قد خلص بروحه من أدران الواقع بنضج حقيقي، واكتمال فني لا يتأثر أبدا بالمناوأة المحتدمة طوال الوقت في الوسط الفني.
إن تحقق “شافع” الفني لا يجب أن يقاس بقدر مساحة الأدوار التي قام بها، ولا بما أنجزه من مشروعه الإبداعي والأكاديمي، بل يجب أن يقاس بهذا المقياس الفني الرائع الذي وضعه الفنان لنفسه، وهو توقه الدائم نحو تلمس طرق جديدة للإبداع والحفاظ على المسيرة الفنية من خلال التدريس والاهتمام البالغ بالأجيال الجديدة.
من اللافت أن عمل “شافع” بالتدريس بالمعهد العالي للفنون المسرحية قد تأخر حتى عام 1977، وهو العام الذي عُين فيه مدرسا بالمعهد لمادة التمثيل والإخراج، وكان قد صار في منتصف الثلاثينات من عمره، وبعد أقل من عامين يغادر “سناء” إلى الكويت للتدريس بمعهد المسرح، وتستمر التجربة لنحو أربع سنوات، قدم خلالها “شافع” عددا من الأبحاث وأشرف على مشروع تخرج بعنوان “مسرح الضغوط العالمية وأثرها على المجتمع والإنسان المعاصر”، وكان ذلك من خلال اختيار مقاطع من مسرحيات: “أنتيجون”، “ميديا”، “ميراث الريح”، “ماراصاد”. مع إشراك قسم النقد بالمعهد في المشروع.
رغم اشتراكه في أكثر من مئة عمل تليفزيوني، والعديد من الأفلام السينمائية، إلا أن “شافع” لم يحصل على البطولة المطلقة في أيٍ من الأعمال التي قام بها، رغم قدراته الإبداعية الكبيرة؛ لكن ذلك لم يكن ليسبب له أي شعور بالحزن، لأن عشقه الأساسي كان المسرح الذي لم يستطع الابتعاد عنه، كما كان لعمله بالتدريس بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تولى عمادته في الفترة من 1987-1990، أهمية كبيرة عنده لأنه كان سبيله الأهم لتخريج أجيال من الفنانين الذين يعرفون قيمة الفن ويقدرون رسالته.
لقد شهد الجميع للعميد “سناء” بأن فترة عمادته كانت فترة من أفضل الفترات التي مرت بالمعهد من حيث انتظام الدراسة وتحديث المناهج الدراسية، والاهتمام الكبير بالجوانب العملية، ودعم التجارب المسرحية الواعدة التي تعتمد رؤى جادة وتطرح أفكارا وثيقة الصلة بالناس وهمومهم.
اتسمت شخصية الدكتور “محمد سناء الدين شافع” بالوضوح والصراحة والقدرة على المواجهة، حتى أنه لم يغير قناعاته الاشتراكية منذ أن كان طالبا بالمرحلة الثانوية أواخر الخمسينات، فكان قريبا من الناس لم ينفصل عنهم مؤمنا بقضاياهم وبحقهم في الحياة الحرة الكريمة، فلم يكتف بأداء رسالته من خلال عمله بالتدريس والفن، بل انتمى للتنظيمات اليسارية منذ نشأته، وكان آخر محطاته السياسية عضويته للهيئة الاستشارية العليا بحزب التجمع.
وقد كان للفنان موقف شديد الخصوصية من الدين.. فهو يرى في تلك العلاقة بين العبد وربه ملاذا آمنا وركنا شديدا لا يمكن الاستغناء عنه مهما كانت المغريات.. يتحدث بوجد صوفي عن تعلق قلبه بشعيرة الحج وعن ذلك الحلم الذي راوده منذ أيام الشباب أن يحج لبيت الله عشر مرات متواليات! لكن هذا الرجاء لم يتحقق إلا بعد أن ناهز فناننا السبعين، فكانت أول حجة له في العام2013، وكان دائم الحديث بعدها عن تلك التجربة الروحية التي رقى بها المراقى وسمت روحه قربا وشوقا للذات العلية.
قبيل انتهاء رحلة الفارس نراه في حال من الرضا والقبول عما حققه من نجاحات وما أنجزه من عمل وما قدمه من علم وفن، فلقد عاش بالمحبة والتجرد برغم كل التناقضات التي اجتمعت في شخصيته فهو الفنان الصعيدي ذو الثقافة الألمانية الاشتراكي المهموم بقضايا البسطاء، التقدمي شديد التعلق بالدين وشعائره، العاشق الذي يسأل المحبوب أن يتجاوز عن زلاته، المتمرد الذي لم يطمع في شيء.. رحم الله سناء الدين وأنزله منازل الأبرار.