اكتشف المثقف أن الجماهير لم تعد في حاجة إليه لاكتساب المعرفة، فهم يكتسبونها على أكمل وجه خالية من الأوهام، بل أنهم يعرفون أكثر منهم وقادرون على التعبير عن أنفسهم، لكن هناك نظام قوة يعوق ويحرم ويهتك هذا الخطاب، وهذه المعرفة بمثابة قوة لا توجد فقط في سلطة الرقابة الظاهرة، بل وتخترق بعمق وثبات الشبكة الإجتماعية برمتها، والمثقفون أنفسهم وكلاء هذا النظام، ويتضح هذا في فكرة مسئوليتهم عن الوعي وفكرة اعتبار أشكال الخطاب جزءا من النظام» .. هكذا عبر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن رؤيته لأحداث احتجاجات الطلاب التي اجتاحت فرنسا سنة 1968 وانتقلت توابعها إلى بعض بلدان العالم ومن بينهم مصر.
اندلعت أحداث الاحتجاجات الطلابية سنة 1968 بفرنسا فكانت بمثابة مفأجاة كبرى لجموع المثقفين والسياسيين على حد سواء، ذلك أن أحدا منهم لم يكن يتوقع حدوث تلك الأحداث، ما جعل ميشيل فوكو وهو من أبرز المهتمين بدراسة ثقافة الغرب يقف وقفة جادة ليراجع مجمل أفكاره التي طالما انشغل بها عبر دراساته المتعددة حول إنتاج الثقافة وكتابة التاريخ، ومن ثم تعرضت مراجعاته وأفكاره تلك للتكاثر على يد عدد من المريدين، وتبنت بعض وسائل الإعلام الغربية بعض أفكاره واهتم المحللون النفسيون والعاملون بالخدمة العامة ومسئولو الصحة والأطباء ومديري المصحات وبعض علماء الجريمة ومديري السجون على اختلاف منطلقاتهم بكتابته، وعكف دارسو العلوم الإنسانية على مراجعة دراسته، وترجمت أعماله إلى العديد من لغات العالم.
التغير الثقافي والاجتماعي
تناول ميشيل فوكو خلال دراساته المتعددة جملة القضايا المتعلقة بإنتاج الثقافة وتغيرها، مع التركيز على التحول من الثقافة الكلاسكية إلى الحديثة، وكيفية إنتاج الثقافة وعلاقتها بالمعرفة، وانتشار الثقافات الفرعية وعلاقتها بالإدراك، وطريقة انعكاس التغيرات الاجتماعي في رؤى الأفراد وارتباط مجمل تلك التغيرات بالمعرفة السائدة.
يعد كتاب فوكو «الكلمات والأشياء» أكثر كتبه عناية بالتغير الثقافي حيث فحص فيه أصول اللغة والخطاب، مؤكدا على أن مؤرخي العلم كانوا أقدر على تسجيل الحقيقة الموضوعية من علماء الاجتماع الذين عانوا من الذاتية وتباين الاتجاهات.
استهل فوكو كتابه «الكلمات والأشياء» بالإشارة إلى نص للروائي والشاعر الأرجنتيني «لويس بورخيس» يحمل عنوان: «حول الضحك الذي كسر»، يشير فيه إلى نقاط التحول الأليفة للفكر الذي يحمل طابع العصر الذي يعيش فيه وجغرافيته ومجمل الخطط التي اعتاد البشر بها ترويض الإنتشار الوحشي للأشياء القائمة، ونص بورخيس هذا مقتبس عن الموسوعة الصينية الخاصة بتقسيم الحيوانات: «حيوانات ملك لإمبراطور .. معطرة .. أليفة .. خنازير رضيعة .. كائنات أسطورية .. خرافية .. كلاب ضالة .. موجودة في التصنيف الحالي .. مسعورة .. لا حصر لها .. ترسم بفرشاة في وبر جيدة .. كسرت للتو إبريق الماء»، عقب فوكو على ذلك التقسيم مشيرا إلى أن «ما نفهمه من هذا التقسيم الرائع بوحي من الخرافة يفسر على أنه فتنه غريبة، نظام فكري آخر، شىء يمثل الاستحالة المطلقة لفكرنا، لكن أي نوع من المستحيل للتفكير فيه، وما نوع الاستحالة التي تواجهنا هنا».
يلفت فوكو النظر إلى أن العوامل الثقافية تحدد تفكير الفرد، حتى أن خيال الفرد ذاته يعد استجابة لعمره والخبرات التي عايشها، وأن لكل عمر شفراته المعرفية الخاصة به، وبذلك يحدد المكان والزمان مدى فكر المرء وفعله داخل تحليلات فوكو.
الوسيلة الرئيسية لفهم التغير لدى فوكو تعتمد على تحليل اللغة، وهو يتقصاها عبر تحليلات حفرية لتغير مقام الصوت وتطور المعجم والقواعد النحوية العامة، فالمؤلفون وأعمالهم ولغتهم باتوا موضوعا للبحث لديه، وبهذا صار الإنسان موضوع خطابه، فهو موضوع المعرفة والذات العارفة آن واحد.
حلل فوكو أعمال الفنان التشكيلي «فيلاسكويز» التي كانت توضح كيف أن الملك سيد وعبد في آن واحد، فبرؤيته عبر المرآة بات وجوده الحقيقي وجودا مهمشا ونهايته أصبحت أكثر بؤسا، حيث عرف من خلال الرسم أن اللوحة إنما تخلده وتتنبأ بموته بذات اللحظة.
ربط فوكو الحداثة بتلك اللحظة التي «يبدأ فيها الإنسان في الوجود داخل جسده، داخل قشرة دماغه، داخل ما يغلف أعضاءه، وفي بنيته الفسيولوجية ككل وعندما يكون محور العمل، وعندما يرى أن اللغة عمرها أكبر بكثير منه».
هنا يخلص فوكو إلى وجود خمسة وجوه للمعرفة: «الرياضيات والفيزياء، علوم اللغة، إنتاج الثروة وتوزيعها، ثم التفكير الفلسفي» وتقع العلوم الإنسانية في الحدود الفاصلة بين هذه الوجوه، لانها تربطها ببعضها البعض عبر ثلاث نماذج تكوينية تعتمد على البيولوجيا والإقتصاد واللغة، وهى تنشغل بثنائيات متشابكة: «الوظيفة والشكل .. الصراع والحكم .. الترميز والنظام» وينظر للتاريخ بوصفه بيئة للأفراد والعلوم الإنسانية، يتم فيه دراسة المعرفة السائدة بالمراحل المحورية بدلا من الأحداث الزمنية.
المؤرخون التقليديون أعربوا عن غضبهم الشديد لرؤية فوكو تلك التي تخالف تفكيرهم، بينما فضل الفلاسفة ونقاد الأدب والأنثربولوجيا الإعلاء من مداخلهم على مدخله هذا حتى وهم يستعيرون أفكاره ويستخدمون بعضها بشكل عملي.
من عقاب الجسد إلى عقاب الروح
جاءت أحداث 1968 لتدفع فوكو ومعه زمرة من المثقفين الفرنسين نحو محاولة التصدي لتلك التغيرات المفاجئة التي اجتاحت مجتمعهم، فواصل فوكو التعمق في النظر للحاضر عبر تركيزه على الماضي ودراسة الانحراف وسبل معاملة السجناء والعقاب في محاولة للتعرف على آليات القوة وما إذا كانت صريحة أم مقنعة.
«أدين قاتل الملك في مارس 1757، ولكي يضحى التعديل القانوني جديرا بالاحترام، أخذوه وأركبوه العربة، عاريا إلا من قميص، حاملا مشعلا من الشمع المحترق يقدر ثمنه بجنيهين إلى المقصلة، حيث سيتمزق الجسد فوق المسرح، الصدر، فالذراعين، فالفخذين، وتربط الساقان بكلابات متوهجة الحرارة، ويده اليمنى تحمل السكين التي ارتكب بها فعلته مشتعلة بالكبريت، وفوق هذه الأماكن التي سوف يتمزق فيها الجسد، يصب الرصاص المصهور، والزيت المغلي، ويشتعلا بالكبريت والراتينج المحترق، ويختلط الكبريت بالشمع معا، ثم يجر جسد القاتل ويمزق إلى أربعة أجزاء بعون من أربعة أحصنة، وتأكل النار الأعضاء والجسد، فتتحول إلى رماد تذروه الرياح».
بتلك الفقرة المأساوية يواصل فوكو في دراسته حول «الجريمة والعقاب» تفصيل كيف كانت تنفذ الأحكام خلال القرن الثامن عشر بأوروبا وكيف كان يحضر الجمهور للفرجة على تنفيذ تلك الأحكام، غير أن هذا العقاب الجسدي قد تغير وحل محله العقاب النفسي فانتقل العقاب من «عقاب الجسد إلى عقاب الروح».
توالت السنوات وجاء عهد بناء السجون فيصف فوكو في كتابه كيف جرى تنظيم بناء تلك السجون وكيف أن عالم الجريمة يعد عنصرا مكملا داخل سياق أي مجتمع إنساني لفهم علاقات القوة، فالجريمة لديه تعد جزء من النظام الجديد الذي يضم القضاة والمحامين والبوليس والجمهور العام ومجمل التغيرات الأخرى التي تربتط بالتصنيع والفكر على حدا سواء.
إن الطريقة التي يفكر بها الناس ويكتبون ويحكمون ويتكلمون بل حتى الطريقة التي يستشعر بها الناس الأشياء والكيفية التي تثار بها حساسيتهم وسلوكهم تحكمها وفقا لفوكو بنية نظرية تقوم على مفهوم يطلق عليه «النسق .. ويقصد به مجموعة من العلاقات التي تثبت وتتغير في استقلال عن الأشياء التي ترتبط بينها» وهو يتغير مع العصور والمجتمعات إلا أنه يظل حاضرا في كل العصور وكل المجتمعات.
يواصل فوكو طرح رؤيته مشيرا إلى أنه قد مرت تلك المرحلة التي كان يتعين فيها على الفلاسفة أن يقدموا عبر نصوصهم معنى الحياة والموت وهل الله موجود أم لا وما معنى الحرية وما ينبغي عمله في الحياة السياسية، وكيف تتصرف مع الآخرين، فلم يعد ممكنا ترويج مثل تلك الفلسفة، ذلك أنه حل محل تلك الرؤية طابع من التعدد النظري أصبح يظهر بميادين مختلفة تبدو وكأنها منفصلة عن بعضها البعض، فهناك نشاط نظري يظهر في ميدان دراسة الأسطورة أو ميدان التاريخ وبهذا باتت الفلسفة تكتمل عبر تلك الحالة من التعدد النظري التي لم يعد بها مكان للمفكر الوحيد.
بناءا عليه ووفقا لميشيل فوكو ليس دور المثقف أن يقول للآخرين ماذا يتعين عليهم فعله، وبأي حق سيفعل ذلك؟ .. ليس عمل المثقف أن يشكل الإرادة السياسية للآخرين، وإنما يكمن عمله في التحاليل التي يقوم بها لميادين هى ميادينه، وفي إعادة مساءلة البديهيات والمسلمات، وزعزعة العادات وطرق العمل والتفكير، كما يمكن له أن يلعب دورا في تبديد الأمور المألوفة المقبولة، وإعادة النظر في القواعد والمؤسسات، مع المساهمة في تشكيل إرادة سياسية بوصفه مواطن قبل أن يكون مثقفا.