عرض وترجمة: أحمد بركات
بات القتل ببساطة إذن، وبعيدا عن الحسابات السياسية ،وأي حسابات أخرى، هو الحل الأسهل في الاستراتيجية الأمريكية، وصارت “الدفعة الأخيرة” الأمريكية لتدمير قيادة تنظيم القاعدة التي تتخذ من باكستان مقرا لها في الفترة بين عامي 2011 و2015 هي الشغل الشاغل لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، ينطبق هذا بشكل خاص على وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)،التي ألغت التركيز تماما على عمليات الاستخبارات البشرية باستثناء تلك العمليات التي تدعم تحديد الموقع الجغرافي، والتي قد تكون قدمت فهما أفضل لكيفية تعويض التنظيم لخسائره في باكستان عن طريق القوة والقدرات المتنامية للجماعات الموالية في العراق واليمن وشمال أفريقيا.
عندما تكون لديك مطرقة عظيمة، لماذا تبحث في مكان آخر؟
تجلى الزخم في اللجوء إلى الخيارات الحركية بدلا من التأكيد على الاستخبارات البشرية عندما أقر الرئيس باراك أوباما في أبريل 2015 أن الغارات الجوية بالطائرات المسيرة التي استهدفت قائد تنظيم القاعدة في جنوب آسيا، أحمد فاروق (وهو مواطن أمريكي بالأساس)، في يناير 2015، قد قتلت عن غير قصد اثنين من الرهائن، وهما وارن وينشتاين أمريكي تم اختطافه في عام 2011، وجيوفاني لو بورتو إيطالي تم احتجازه في عام 2012. ويمكن بسهولة أن نعزو هذه الرعونة في عدم استخدام مزيدا من أدوات جمع المعلومات الاستخباراتية البشرية للتحقق من وجود فاروق إلى فلسفة الاستهداف السائدة حتى يومنا هذا، والأنكى هو أن أحدا من الذين شاركوا في التخطيط لهذه الضربات، أو الموافقة عليها، أوتنفيذها لم يخضع لأي شكل من أشكال المحاسبة.
ليس الأمر أن فاروق لم يكن يستحق مصيره، لكن أدوات جمع المعلومات الاستخباراتية التي ركزت عليه، والتي كان يجب أن توفر رؤى أعمق عن مخططات التنظيم وشركاء فاروق، سارت في الاتجاه الخاطئ صوب الظواهري، وفي ثنايا ذلك حددت مكان الرهينتين اللذين ارتبطا اسمهما باسمه.
ما يهمنا في الأمر هو أن هذا الإهمال للقضايا الاستخباراتية الأوسع نطاقا، والانشغال بقيادات تنظيم القاعدة التي تتخذ من باكستان مقرا لها قد أسهم بلا شك في إخفاق أجهزة المخابرات الأمريكية في معرفة التهديدات التي يفرضها تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الأخرى الموالية لتنظيم القاعدة.
لقد كان تنظيم الدولة الإسلامية على وجه التحديد هو الجماعة التي كان يتعين على الولايات المتحدة فهمها على نحو أفضل، فهي جماعة تشكلت من شركاء ومساعدي أبي مسعد الزرقاوي الباقين على قيد الحياة، وهؤلاء الذين أثر فيهم من بين العناصر التي كانت منتمية لتنظيم القاعدة في العراق.
كان الزرقاوي أردنيا متشددا قُتل في عملية أمريكية في العراق في عام 2006، وكان قد وجه دفة عملياته في المقام الأول صوب “المرتدين” من شيعة العراق والأقليات الإثنية، مما جعله في بعض الأوقات متعطشا للدماء بدرجة مفزعة، وغير قادر على تمييز حتى القيادات الأساسية لتنظيم القاعدة، وبدلا من ذلك، أقصت أجهزة الاستخبارات الأمريكية تنظيم الدولة تماما عن دائرة اهتماماتها، ولم تلتفت – أو بالأحرى لم تدرك – على الإطلاق، صعود فرع آخر في المنطقة لتنظيم القاعدة، وهو جبهة النصرة.
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن جماعة “حراس الدين” في سوريا، الموالية لتنظيم القاعدة، تضم في طياتها قادة سبق لهم العمل مع أيمن الظواهري، ويربط بعضهم به، وبسيف العدل، القائد القاعدي البارز لتنظيم القاعدة في إيران، علاقات مصاهرة .
ويمثل مقتل زعيم “حراس الدين” أبو القاسم الأردني، والمعروف أيضا باسم خالد العاروري، ومساعده بلال الصنعاني، في غارة جوية بالطائرات المسيرة، في أوائل يونيو 2020، خسارة فادحة للتخطيط العملياتي الخارجي داخل تنظيم القاعدة.
ويقدم النجاح العسكري التكتيكي لهذه الضربة فرصة ذهبية للولايات المتحدة لتحقيق مزيدا من الأهداف الاستراتيجية؛ إذ بالإمكان مضاعفة تأثيرها من خلال ممارسة مزيد من ’التلاعب‘ بديناميكية الجماعة، وعلاقتها بتنظيم القاعدة الأم، وجاذبيتها المحلية التي تستمد منها الملاذ والتمويل والمجندين الجدد.
وأفضل ما يتحقق به ذلك هو جمع معلومات استخباراتية إضافية تساعد في المستوى الأولي على إضعاف هذه الجماعة، وفي المستوى المثالي على تفكيكها، وذلك من خلال ممارسة التأثير الخفي الماكر للجهود الحكومية وتأثيرات القوة الناعمة، ولكن في ظل التشبث بهذه الاستراتيجية البائدة، يتوقع كاتب هذه السطور أن الجهود الاستخباراتية الأمريكية غير مشغولة الآن سوى بالعثور على الهدف التالي لتنفيذ ضربة جديدة ضده.
لا تزال الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب تتسم بالركود والأحادية والفلسفة التجارية، وإذا كانت الإدارات السابقة متهمة، بل ومدانة في واقع الأمر، بالاعتماد المفرط على فلسفة المقاربات التجارية بسبب ما اتسمت به من السذاجة النسبية والمكاسب قصيرة المدى، إلا أن الرئيس ترامب قد حولها إلى مقاربة افتراضية ووحيدة على الإطلاق، لن يكون هذا مفاجئا إذا أخذنا في الاعتبار خلفية الرجل التجارية، لكن على عكس الأعمال التجارية، فإن حقائق الأمن القومي تقوم على قواعد قليلة وغير متشعبة، والأهم من ذلك أنه عندما يتعلق الأمر بتهديدات، فإنه لم يعد بإمكانك أن تنصرف بعيدا عن مشكلاتك بالتخلف عن سداد القروض أو ادعاء الإفلاس.
جميع السياسات محلية
في حين يتسم الإرهاب بالعالمية من حيث طبيعته وتأثيره، إلا أنه يبدأ في القواعد الشعبية، ثم يحصل على تسهيلات أو تفرض عليه قيود من خلال التنافس بين القوى العظمى والتكنولوجيا والاقتصاد، ويتحدث تقرير لجنة 11 سبتمبر عن ضرورة “الانخراط في نضال الأفكار” (Engage the Struggle of Ideas)، و”التأثير المضاعف للظروف الاقتصادية القاسية التي استغلها الجهاديون بشكل فعال”. ويخلص التقرير إلى أنه “يجب على الولايات المتحدة أن تساعد على هزيمة أيديولوجيا، وليس حفنة من الأفراد يشكلون جماعة”، و”يجب علينا أن نفعل ذلك حتى برغم الظروف الصعبة”.
وبينما يطمح بعض الخبراء الأمريكيين إلى تبني تشجيع ما أوصى به التقرير من ضرورة أن “تضرب الولايات المتحدة المثل والقدوة في القيادة الأخلاقية للعالم”، إلا أننا يجب أن نأخذ في الاعتبار أن هذه التوصية سوف يتم تفسيرها بحسب القارئ.
من الأفضل للولايات المتحدة أن تتبنى هذه التوصية عند التفكير في مشاركاتها الدولية، إن هذا المنظور لن يدعم فقط الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، وإنما سيدعم أيضا مقاربتها الأشمل تجاه أمنها القومي وعلاقاتها الخارجية، يبدأ ذلك من حيث التخلي عن التوهم بقدرة الولايات المتحدة على تقوية نفسها كقلعة حصينة عبر شبكة لا متناهية من الدفاعات المادية والقانونية وغيرها، ففي عالم اليوم الصغير والمترابط والمتداخل، فإن ما نخشاه قد وصل بالفعل.
يستفحل التطرف عندما يستفيد قادة الإرهاب من ظروف القواعد الشعبية ويستغلون الديناميات العائلية والقبلية لتوسيع قواعد التجنيد والتأكيد على الانضباط التنظيمي، ويمكن أن تفعل الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب الشيء نفسه.
إن تجربة كاتب هذه السطور كضابط مسئول عن هذا الملف في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على مدى ما يقرب من أربعة عقود يدعم فكرة أن الاعتبارات الشعبية كان لها التأثير الأعمق على توجهات الأفراد، وسواء كان الأمر يتعلق بتجنيد إرهابي أو ضابط مخابرات في قوة عظمى منافسة، فإن ضمان موافقة هؤلاء على العمل كجواسيس لحساب الولايات المتحدة يقوم بالأساس على الاستفادة من اعتبارات أكثر ارتباطا بالداخل منها بالأيديولوجيا، ربما يكون هذا تبسيطا مفرطا، لكنه لا يعني بحال التقليل من قيمة الأيديولوجيا، وإنما فقط التأكيد على أن ما يُجمع يفوق في أهميته وتأثيره ما يُفرق.
إن الطريق إلى التعاون يعتمد بدرجة أقل على وجود رؤية عالمية مشتركة وموقع أمريكا منها، وبدرجة أكبر على إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة والوثوق بها كشريك يلبي الاحتياجات ويفي بالالتزامات.
وكما أن الناس لا يتجسسون من أجل المال في ذاته، فإنهم أيضا لا يمارسون العنف إلا إيمانا منهم بقدرته على تلبية احتياجات ما أو الوفاء بالتزامات ما.
إن المال يسهل بلوغ الهدف، حتى لو كان مجرد عمل مرتزقة من أجل دعم نمط حياة أرغد، أو لتوفير الاحتياجات الأساسية، أو التعليم، أو المساعدة الطبية، أو غيرها من الاحتياجات التي لا يمكن تلبيتها بوسائل أخرى، والعنف – شأنه شأن المال – يمثل أيضا وسيلة لغاية، يلتمسه أفراد ينضمون إلى الجماعات المتطرفة، ويتم تربيتهم وتثقيفهم وتوجيههم في المستوى الشعبي القاعدي، غالبا عبر روابط عائلية وقبلية.
إن ما يمكن التعويل عليه عند تقديم الأدلة هو الثقة والمصداقية، وليس تغيير وجهة نظر الخصوم. وكضابط في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، قام كاتب هذه السطور بتجنيد إرهابيين ابتهجوا أشد الابتهاج لما أصاب الولايات المتحدة في 11 سبتمبر، ومسئولين أجانب طالما انتقدوا النفاق والإمبريالية الأمريكية، وكانوا جميعا “أمناء” تماما و”مخلصين” إلى أقصى درجة في نقل أسرار ألحقت بالتنظيمات والمنظمات التي “ينتمون” إليها أضرارا بالغة، لقد فعلوا ذلك عن حاجة، وعلى أساس من الثقة المتبادلة وليس التوافق الأيديولوجي.