حالة من الجدل أُثيرت على منصّات التواصل الاجتماعي المختلفة خلال الأسبوع الماضي، إثر وفاة اليوتيوبر الشهير، الشاب مصطفى حفناوي، بجلطة في المخ، ردّد كثيرون من مستخدمي هذه المنصات أنها بسبب إصابة هذا الشاب بالحسَد، وهو ما يعيدنا بالذاكرة قبل نحو عامين، مايو 2018، عندما تناقَل مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي في مصرَ قصة طفلة اسمها كارما، فارقت الحياة بعد ساعات من نشر أمها صورة لها على فيسبوك، وعزا البعض الوفاة المفاجئة إلى الحسد، ما جعل كثيرين من نجوم السينما والمجتمع يخشون من نشر صور أبنائهم في صفحات التواصل الاجتماعي لا لشيء سوى خوفهم من الحسد، ليظهر نوع جديد منه يمكننا أن نسميه (الحسد الإلكتروني)، الأمر الذي يجعلنا نتقصّى بشكل سريع فلسفة الحسد وتاريخه كونه أحد أهم المعتقدات الشعبية والدينية حول العالم.
منذ أقدم العصور، عرفت الجماعات الإنسانية في العالم كله الحسد، أو تأثير العين الشرّيرة evil eye في الإنسان، وكان العرب قديماً من ضمن الجماعات الإنسانية التي عرفته؛ فكانوا يعتقدون أنَّ ثمة قوى شريرة غير مرئية تسبِّب الأذى للإنسان؛ لأنها تحسُده وترغب في زوال ما عنده من مميزات مختلِفة، وكان هذا الاعتقاد قديما ربما منذ العصر الحجري، مروراً بالحضارات الفرعونية والسومرية والإغريقية، وغيرها، ففي أسطورة إيزيس وأوزوريس الفرعونية، لم يستعد حورس حكمه على مصر إلا من خلال عين سحرية زرقاء، هي عين حورس الشهيرة، إذ تمكّن بفضلها من هزيمة عمه “ست” وإنقاذ مصر، كما آمَن المصري القديم بأن عين حورس تحمي من يرتدي قلادتها من الأرواح الشريرة ومن المرض، كما كانوا يعلّقونها في صدر مومياء فرعون في القبر لتحميه من أعدائه، كما تبدّى الحسد عند السومريين في أحد النصوص التي تعود إلى نحو 3000عام قبل الميلاد، وتدور حول عشتروت وابنها الإله الممزَّق تموز الذي أرْدته قتيلا حين سلّطت عليه نظرة الموت، أي النظرة الحاسدة، أما عند الإغريق فقد كان الحسد متبدّيا في إلهة الحسد فتونوس PHTHONOS وهي معروفة عند الرومان باسم “أنديفيديا”، وهي ترمز إلى العين الشريرة التي تضرّ الإنسان وتنتقم منه. [سهيل عثمان وآخَر، معجم الأساطير اليونانية والرومانية، طبعة دمشق]
الحسَد – إذن – هو تمنّي زوال نعمة الآخرين بحيث يفقدها الشخص المحسود، سواء تمتّع بها الحاسد أم لا، بسبب الغيرة منه، أو عدم القدرة على الوصول إلى ما وصل إليه هذا الشخص المحسود من نِعَم ومميزات متعددة، ما يعني أنّ المحرِّك الأول للحسَد هو الشعور بالنقص والدُّونيَّة إزاء تفوق الآخرين، وعندئذٍ لا يجد الحاسد سوى الشرّ لمن يتفوّق عليه، وزوال ما لديه من نِعَم.
وللناس في الاعتقاد بالحسد مذاهب؛ فمنهم من يعتقد به ويتخذ كل الاحتياطات المتاحة لتجنّبه، سواء كانت آيات قرآنية أو أدعية أو تراتيل أو أحجِبَة أو خرز زُرق أو رشّ الملح في جنَبات وأركان البيوت، وغير ذلك مما تنتجه القريحة الشعبية وتعتقد به، ومنهم من لا يعتقد بالحسَد، وينحو باللائمة على من يعتقد بوجوده ويؤمن بتأثيره، وفريق ثالث يتردّد ويتأرجح ويشك؛ إذ ليس لديه رأي ثابتٌ إزاء تأثير الحسَد في الإنسان، وإذا كان الحال كذلك، فإنّ الثابت هو أن الاعتقاد بالحسَد أمرٌ قديم جدًّا، عرفته كل الحضارات والمجتمعات الإنسانية منذ أقدم العصور، وتحصّنوا منه بشتّى الطرق، فعرفوا الأحجبة والتعاويذ والخرز الزُّرق وغيرها، بحيث يمثل هذا الاعتقاد أحد أهم المعتقدات الشعبية الإنسانية، ومن ضمنها – بالطبع – معتقدات العرب القدماء؛ إذ تذكر الحكاية أنّ سارة زوج النبي إبراهيم حسَدت ذات مرة الصبي إسماعيل، ابن ضرّتها هاجر، إذ وقع بصرها عليه، وهو يمرح ويلعب وكان أعظم صيادي البرية، فسلَّطت عليه عينَ حسود، سقط على إثرها مشرفًا على الموت، حتى إنَّ هاجر دفنته تحت رمل الصحراء وصليا هاجر لأصنامها، وإسماعيل لربه إلى أن حدثت المعجزة التي قام على إثرها، واستردّ عافيته.. [شوقي عبد الحكيم، موسوعة الفولكلور والأساطير العربية، دار العودة، بيروت]
ويبدو أن تفاوت الاعتقاد بالحسد بين الناس كان قديمًا؛ فهذا أبو عثمان بن عمرو الشهير بالجاحظ، يشير إلى ذلك في كتابه [الحيوان، الجزء الثاني]، ويظهر من كلامه أنه يؤمن بالجسد وتأثيره في الإنسان، فهو يقول صراحة في بعض رسائله: “الحسد –أبقاك الله– داء ينهك الجسد، ويفسد الودَّ، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء” [الرسائل: 3/ 3- 4]، ثم يقول: “ولو لم يدخل – رحمك الله – على الحاسد بعد تراكم الهموم على قلبه، واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه [ أوجاعه]، ووسواس ضميره، وتنغيص عمره، وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه، إلا استصغاره لنعمة الله عنده، وسخطه على سيده بما أفاء الله على عبده، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وألا يرزق أحدًا سواه، لكان عند ذوي العقول مرحومًا، وكان عندهم في القياس مظلومًا” [الرسائل: 3/ 5]
الحسَد في الإسلام
ورَدت لفظة الحسد في القرآن الكريم خمس مرات؛ وذلك في قوله تعالى: “وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ” [الفلق: 5]، وقوله: “سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا” [الفتح: 15]، وقوله: “أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا” [النساء: 54]، وقوله: “وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ ..” [البقرة: 109]، ومما يلفت النظر أن ورودها خمس مرات يماثل عدد آيات سورة الفلق المعروفة في الثقافة الإسلامية بأنها تحمي من شر العين، وهي المعوّذة الأولى مع المعوّذة الثانية المعروفة باسم سورة الناس، لكن عدد آياتها ست.
كما يلفت الانتباه أيضا أن “الخمسة وخميسة”، رمز الكفّ ذو الأصابع الخمسة، أحد الطقوس المتعارَف عليها بين المصريين، خاصة، لصد العين والشرور، وتعود حكاية هذا الكف الذي يستخدمه الناس في ردّ الحسد، إلى رواية تم تداولها قديما ترجع إلى السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ إنه ذات يوم مرت أم أيمن إلى منزل السيدة فاطمة الزهراء، وكان يوما شديد الحرارة فوجدت الباب مغلقا، فنظرت من شقوقه فإذا بفاطمة الزهراء نائمة عند الرحى، وشاهدت الرحى تطحن وتدور من غير يد تديرها، إذ كانت السيدة فاطمة نائمة بجوار ابنها الحسين، ورأت أيضا كفًّا يسبح الله تعالى قريبا من كف السيدة فاطمة الزهراء، ومن هنا جاءت فكرة التبارُك بكف فاطمة الزهراء أو “الخمسة وخميسة”، إذ لجأ إليه الناس لحمايتهم من الحسد واتقاء الشرور والأرواح الخبيثة.
كما اعتاد المصريون، عند ذبح الأضاحي، تلطيخ أكُفّهم بدماء الأضحية، وطبعها على الجدران أو الممتلَكات العزيزة عندهم، وهذا الأمر موروث شعبي منذ عهد الفراعنة؛ إذ إنّ الدماء ترمز لـ”ست” إله الشر عند المصريين، وقد طبع المصريون القدماء الكفّ الدموي على الجدران معتقدين أنهم بذلك يطردون الأرواح الشريرة، وهنا يلفت النظر كذلك ارتباط الكف ذي الأصابع الخمسة بعدد آيات سورة الفلق الخمس!
وإذا نحن دقّقنا في الآية الكريمة: “ومن شرِّ حاسِدٍ إذا حسَد”، لوجدنا أن العين بنفسها لا تحسد؛ إذ لا يثبُت علميا وجود ما يُسمَّى بالموجات الكهربائية المغناطيسية الشريرة التي تنتقل من عين الحاسد إلى المحسود، وإنما الشر الذي قد يقع على الإنسان يكون من خلال سعْي الحاسد سعيا حقيقيا لإلحاق الضرر بالمحسود من خلال المكر والخديعة وتدبير المكائد والشرور له، لذلك كان الحسد من أمَّات الرذائل كالغِيبة والنميمة والمكر وسوء التدبير، ومن هنا فإنّ التعوذ منه إنما هو تعوُّذ من سوء مقاصده وأفعال الحاسد الشريرة، وليس تعوُّذًا من العين نفسها ونظراتها.