رؤى

نظرة تقدمية.. مركزية «المرأة» في خطاب ابن عربي

لا يكاد يوجَد، قديمًا، بين مفكري الإسلام، أحدٌ تكلم برُقي وتحضّر عن المرأة كما تكلم الشيخ المتصوّف محيي الدين بن عربي (558هـ – 638هـ)؛ فهي تحتلُّ في كتابيْه الشهيريْن: الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، مواضعَ عدّة؛ ففي الكتاب الأول يأتي ذِكرها عندما يتحدّث عن النشأة الإنسانية الأولى، وفي الكتاب الثاني في الفصل السابع والعشرين، يربط وجودها بالكمال الإنساني.

نور وشمس

ولا تظهر قضية المرأة بصورة مركزية في فلسفة بن عربي فحسب، بل تظهر في حياته العملية كلها، والبداية عند أمه السيدة (نور وقد كان يذكرها كثيرا، ويثني عليها لأنها هي التي شجّعته على الانخراط في درب التصوف، فيما كان والده معارضا تلك الخطوة، وظلت أمه معه بعد أن توفي والده، فلم تفارقه لا في الأندلس ولا في فاس بالمغرب.

     وبعد أمه تأتي شيخته (فاطمة بنت المثنى وهي أول شيخة تعلم عنها الطريقة، ثم شيخته (شمس ولقبها ب «أم الفقراء»، وفيها يقول ابن عربي: لم أرَ أحدًا من الرجال كان يقدر على ما تقدر عليه من العبادة، فضلا عن شيخات أخريات ذكرهن وأثنى عليهن كثيرا، ثم يظهر أثر المرأة في حياته مع حبه وتعلقه بمحبوبته الفارسية الجميلة (نظام التي هام بها، فألهمته في قصائده التي ضمَّها ديوان (ترجمان الأشواق وفي هذا دلالة على أن ابن عربي  كان يقدّر المرأة ودورها في حياته، فهي في نظره مساوية للرجل، فهي والرجل – عنده – محور الوجود الإنساني، وبالتالي لا توجَد هيمنة ذكورية عليها، فالمرأة تجلٍّ من تجليات الله تعالى في موجوداته، والخطاب الصوفي في تجربة وصف جمال المرأة وحب الأنثى يركّز على بلوغ الإدراك الباطني للجمال الإلهي، وكأنه في مسيرة شاقة تبدأ من النسبي المقيد والدنيوي وتصل إلى مراتب المطلق اللامتناهي والمقدس، ولهذا كان الشعر الصوفي في دروب جمال المرأة المقيد، عتبة للانطلاق نحو عوالم المطلق.

من باب الحنين

     وينظر ابن عربي إلى قضية الحب بين الرجل والمرأة من باب حنين الإنسان إلى وطنه، فالمرأة تحنّ للرجل لأنّه أصلُها، والرجل يحنّ للمرأة لأنّها جزء منه، يقول: «فما وقعَ الحبّ إلاّ لمن تكوّن عنه، وقد كان حبّه لمن تكوّن منه وهو الحق»، ويمثل ابن عربي درّة الفكر الصوفي في تصور الجمال الأنثوي، فهو يرى – كما أسلفنا – أنّ جمال المرأة إنما هو من تجليات الله تعالى، ومظهر من مظاهر عظمته، لذلك فإن حب المرأة سنة نبوية وعشق إلهي، ومن أكثر النصوص التي تدل على منزلة المرأة لديه هذا النص، يقول:«إن الإنسان ابن أمه حقيقة والروح ابن طبيعة بدنه وهي أمه التي أرضعته ونشأ في بطنها وتغذى بدمها، وإن من وفقه الله وكرم عبوديته، رجع جانب أمه لأنها أحق به لظهور نشأته ووجود عينه، فهو لأبيه ابن فراش، وهو ابن لأمه حقيقة»، فالمرأة عنده أعظم مخلوق، «وليس في العالم المخلوق أعظم قوة من المرأة لسر لا يعرفه إلا من عرف فيم وجد العالم، وبأي حركة أوجده الحق تعالى»، بل إنه ذهب إلى أن شرف التأنيث يتمثل في إطلاق كل من (الذات) و(الصفة) على الله تعالى، وكلاهما لفظ تأنيث؛ جبرًا لقلب المرأة الذى يكسره من لا علم له من الرجال بالأمر.

    ويلفت الانتباه، أنّ لابن عربي طريقةً طريفةً خاصة في تأويل بعض النصوص الدينية التي وردت في مجال تفضيل الرجل على المرأة، بحيث يكون هذا التفضيل مرتبطًا بأمور عارضة وليست ذاتية، فعلى سبيل المثال، عندما تحدث ابن عربي عن تأويل الحديث النبوي الشهير الذي رواه أبو بكرة «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، يقول في لفتة ذكية وطريفة منه: الحديث جاء فيمن ولَّاه الناس [الفتوحات المكية: 3/ 89]، ويُعقّب الدكتور حامد طاهر تعليقا على هذا الرأي: ولا شك أن هذه لمحة ذكية جدا من ابن عربى لم يشرْ إليها أحد من شراح هذا الحديث، وقد شاع بين المسلمين، حتى يومنا هذا، أن تولية المرأة شأن عام من شؤون المجتمع سيؤدى به إلى الهلاك لا محالة، دون أن يتنبهوا إلى الفارق الكبير بين توليتهم هم للمرأة، وتولية الله تعالى لها، ولابد من الإشارة هنا إلى أن ابن عربي يُجيز، للمرأة إمامة الصلاة ولو كان خلفها رجال، وهو أمر يعدّه الفقهاء المحافظون رأيا شاذًّا.

  وفي معرض تأويله للنص الذي يشير إلى أن حواء خُلقت من ضلع أعوج، كما هو مشهور، يقول: إن حواء خلقت من القصيرى فقصرت، وعوجها استقامتها، فانحناؤها حنّوها على أبنائها، وعلى ماله من الخزائن مثل إنحناء الأضلاع على ما في الجوف التي أريدت لها؛ ولهذا كان اعوجاج القوس عين استقامته، فإن رُمتَ أن تقيمه على الذى تؤمله، وهذا لجهلك بالاستقامة اللائقة به، فما في العالم إلا مستقيم عند العلماء بالله، الواقفين على أسرار الله في خلقه، فإنه قد تبين لنا ذلك في قوله تعالى: «أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه» [طه: الآية 5]، وهو عين كمال ذلك الشيء، فما نقصه شيء [الفتوحات المكية: 2/ 440]، كما أنه ينطلق في تأويل وفهم هذا الحديث، فيؤكد أنَّ خلق المرأة من ضلع أعوج منحنٍ ليس لعيب فيها، بل إنه انحناءٌ لتحنوَ على ولدها وزوجها، وخروج المرأة (حواء) من ضلع الرجل (آدم) إنما هو نقص فيه، وكماله لا يتمّ إلا بعودة ما فقده، أي المرأة التي هي منه وعلى صورته، وحنين الرجل إليها إنما هو حنين واشتياق إلى نفسه، لأنها جزء منه، كما وأنّ حنينها إلى الرجل إنما هو حنين إلى موطنها الذي صدرت عنه [الفتوحات المكية: 1/ 144].

ولعلّ هذا التأويل الشاعري من ابن عربي هو ما دفعه إلى تفسير المشابهة بين خلق الله الوجود وخلق المرأة من الرجل؛ فحنين الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه، فحبَّب الله إلى الرجل النساء – كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم – كما أحبّ الله من هو على صورته، فما وقع الحب إلا لمن تكون عنه، وقد كان حبه لمن تكون منه، وهو الحق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «حُبِّب»، ولم يقل «أحْببتُ»، لتعلُّق حبه بربه الذي هو على صورته، حتى في محبته لامرأته، فإنه أحبها بحبّ الله إيَّاه! [فصوص الحكم: 1/ 216]، ولا يغيب عن الذهن ونحن نقرأ تأويلات ابن عربي الخاصة بمحورية قضية المرأة في خطابه الروحي والفكري ،أنه يتأول النصوص تأوُّلا شاعريا، وكيف لا وهو المتصوِّف ذو الحسّ المرهَف، فهو بتأويله الشاعري هذا يجعل من المرأة مرآة للذات الإلهية، يرى الرجل فيها كماله، إن هو أحبّها، وحفِظَ ودّها، وتذكّر كلما رآها عظمة الكمال الإلهي، وبديع نشأته الأولى.

نظرة تقدمية

ويقرّر ابن عربي أن الله عندما وضع في الرجل الشهوة تجاه المرأة، لإيجاد التوالد والتناسل، فكان النكاح تبعا لذلك اتصالا بين الأصل وفرعه، وهو نظير أرضي مشابه لخلق الله الإنسان على صورته؛ فالرجل عندما ينكح ويطلب التناسل إنما يروم إيجاد ولد على صورته يخلفه من بعده، كتوجُّه الله في خلق آدم ونفخه فيه من رُوحه بعد أن خلق عناصره من الطبيعة، ليكون صورته، ويرى فيه مجلى له [فصوص الحكم: 1/ 217]، فالنكاح وطلب التناسل بين الرجل والمرأة، في رؤية ابن عربي الخاصة، بمثابة اتحاد بين عنصريْن لإنتاج وتوليد عنصر ثالث، فكما أن الطبيعة للأمر الإلهي محلّ ظهور أعيان كل موجود، فإن المرأة كالطبيعة تماما  لظهور الخلق الجديد؛ فالرجل دون المرأة لا يكون، والمرأة دون الرجل لا تكون كذلك [الفتوحات: 3/ 90]، فالمرأة بذلك التأويل مشابِهة للطبيعة، وهو ما يظهر معه أهمية التأنيث في أصل الخلق؛ فالتأنيث هو الأصل والعلة في وجود كل شيء.    

      وهكذا كانت نظرة القطب الصوفي الكبير ابن عربي تجاه المرأة ،نظرة تقدمية باكرة، منذ القرن السابع الهجري، وهي تعطي دلالة واضحة على أنّ في تراث المسلمين لمحاتٍ عصرية فارقة؛ فالمرأة لديه كإنسان مساوية للرجل كإنسان، وكذا متساوية معه في العقل والدين، والإنسانية هي حقيقة الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، وهي واحدة في الناس جميعا.

اقرأ أيضا:

أحمد رمضان الديباوي

مدرس العقيدة والمنطق بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock