في نهايات القرن التاسع عشر، كانت الصحافة حديثة العهد في المنطقة العربية، ولم يقم أحد بين المؤرخين والباحثين بتحري البحث عن تاريخها، وباستثناء محاولات قليلة قام بها بعض المستشرقين والمهتمين لم يهتم أصحاب القلم العربي بتاريخ صحفهم.
أبرز المحاولات الجادة للتأريخ للصحف العربية، كانت للمسيو هنري جلياردو ترجمان قنصلية فرنسا في القاهرة في ذلك الوقت، والذي وضع تقريرا مطولا باللغة الفرنسية يتضمن تاريخ الصحف العربية التي كانت تنشر حينئذ في وادي النيل، ثم أضاف إلى أخبار كل جريدة ترجمة لصاحبها.
أما أول الذين تحروا تاريخ الصحافة من الباحثين العرب فكان المؤرخ والروائي والصحفي اللبناني جرجي زيدان الذي كتب مقالة في ثماني صفحات تحت عنوان «الجرائد العربية في العالم»، ثم نشرها في العدد الأول من مجلة «الهلال»، وبعدما تكلم باختصار عن هذا الموضوع، سرد أسماء الجرائد والمجلات العربية التي ظهرت حتى عام 1892، فبلغ مجموعها على روايته 147 صحيفة، غير أنه مع شدة تدقيقه فاتته أسماء صحف شتى، إما سهوا وإما لعدم وقوفه عليها لقلة عناية الشرقيين قبله بمسألة التأريخ للصحافة العربية.
وبعد عام، أي في 1893، نشر الأديب محمد كامل البحيري في العدد الأول من جريدته «طرابلس» دراسة مقتضبة سرد فيها تاريخ نشأة الجرائد العربية وفؤائدها، وذكر منها «حديقة الأخبار» في بيروت، و«الوقائع المصرية» في القاهرة، و«الرائد التونسي» في تونس، و«المبشر»، في الجزائر وغيرها، وروى أن عدد الجرائد العربية التي صدرت حتى تاريخه يقارب الأربعين، والحال أن عددها أكثر من ذلك بأضعاف بحيث يناهز المائتين، بحسب ما أكد المؤرخ والكاتب اللبناني فيليب دي طرازي، وهو موضوع السطور القادمة باعتباره أول من قدم مرجعا حقيقيا لتاريخ الصحافة حتى بدايات القرن العشرين.
ويعد فيليب دي طرازي هو أول باحث ومؤرخ يرصد تاريخ الصحافة العربية حتى بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، يتتبع إصدارتها وأصحابها وميولهم السياسية والسياق الذي صدرت فيه تلك الصحف، وهو أيضا مؤسس دار الكتب الوطنية بلبنان، كما شغل موقع أمين دار الآثار ببيروت.
ولد الشاعر والباحث فيليب دي طرازي في مايو من عام 1865 بمدينة بيروت، وتعود أصوله إلى طائفة السريان الكاثوليك بمدينة الموصل، وهاجر أجدداه إلى حلب ثم تفرقوا بين الشام ومصر.
ويقول خير الدين الزركلي في مؤلفه «الأعلام»، أن (الفيكونت) فيليب بن نصر الله بن أنطون دي طرازي، نُسب هو وباقي أفراد أسرته إلى جدة لهم اسمها هيلانة، كانت طرازة فقيل لهم بنو الطرازة.
والده هو نصر الله أنطون الطرازي، منحه البابا «لاون الثالث عشر» براءة بابوية بلقب كونت تقديراً لأعماله الخيرية، فورث فيليب هذا اللقب عن والده. تعلم في المدرسة البطريركية اللغتين العربية والفرنسية، ثم انتقل إلى كلية الآباء اليسوعيين وحاز على الشهادة العلمية وتعلم اللغات اللاتينية واليونانية والإيطالية .
ووفقا لموقع «المكتبة الوطنية اللبنانية»، عمل فيليب بعد تخرجه بالتجارة واتسعت ثروته، وسافر إلى العديد من الدول والتقى العديد من الشخصيات السياسية والثقافية، عمل خلال فترة الحرب العالمية الأولى على مساعدة المحتاجين في بلاده، وسُجن بتهمة التجسس ضد السلطنة العثمانية خلال الحرب مدة عشرة أيام ثم أُطلق سبيله بكفالة مالية، إلا أن محاكمته استمرت 81 يوما حتى أُثبتت براءته، ولما احتل الجيش الفرنسي سواحل سوريا سنة 1918، شكلت الحكومة الفرنسية دائرة الإعاشة وعين دي طرازي مفتشا عاما لها.
تم اختياره عضوا في العديد من اللجان والجمعيات الأهلية والوطنية، منها جمعية الاتحاد المسيحي التي كانت تسعى وراء استقلال لبنان الكبير، وترأس شركة القديس منصور دي بول ثم جمعية المساعي الخيرية السريانية وأخوية العائلة المقدسة.
انضم إلى الجمعية الإصلاحية لمطالبة السلطنة العثمانية بالإصلاح، وانتدبته بعض الجمعيات العلمية وعينته عضوا فيها، منها، الجمعية الألمانية لمعرفة أحوال البلدان الإسلامية في برلين، والمجمع العلمي العربي في دمشق، والمجمع العلمي السوري في بيروت، ولجنة وضع الأسماء لشوارع بيروت، وجمعية أمناء دور الكتب في فرنسا، ولجنة دار كتب المسجد الأقصى في القدس.
دأب دي طرازي على التأليف والكتابة في المجلات والصحف، ونظم أكثر من خمسة آلاف بيت من الشعر وجمع أكثرها في ديوان سمّاه «نفحة الطيب»، لكنه ضاع مع أوراق ومؤلفات أخرى، وديوان آخر سماه «قرّة العين».
كان لدي طرازي ولع بجمع الآثار القديمة والعناية بها، فاهتم منذ العام 1889 بجمع الأعداد الأولى من المجلات والجرائد التي ظهرت في عدة لغات كالعربية والتركية والسريانية والعبرانية والأرمنية والفارسية والتترية والكردية والهندية والأوردية وغيرها، ورتبها حسب تسلسل صدورها.
بلغ مجموع الصحف العربية التي تتبعها نحو 1900 جريدة ومجلة، وفي عام 1913 وضع كتابه المرجع «تاريخ الصحافة العربية»، الذي وصفه دي طرازي بأنه «شامل لتاريخ الصحافة العربية في مشارق الأرض ومغاربها»، وقسمه إلى أربعة أقسام، وقدم له بتوطئة ذات ثمانية فصول عرف خلالها بالصحافة وآدابها وأسماء مؤرخيها، وختمه بجدول عام يضم أسماء الصحف بلا استثناء ورتبها بحسب البلدان والممالك التي ظهرت فيها.
راسل دي طرازي أصحاب ورؤساء تحرير الصحف والمجلات التي لم يتمكن من الاطلاع إليها، وطلب منهم تعريفا بإصدارتهم وأبوابها وأهدافها، حتى يتمكن من توثيق أخبارها وتاريخها، خاصة الصحف التي صدرت ثم اختفت ولم يتمكن من الحصول على نسخ منها.
اقتنى دي طرازي مجموعة احتوت على خطوط مشاهير الرجال والنساء في الشرق من سلاطين وملوك ووزراء وأمراء وعلماء وشعراء وأئمة الدين، كما اقتنى مجموعة مهمة من الطوابع البريدية.
ساهم دي طرازي في نشر الثقافة، فأهدى مكتبة دير الشرفة للسريان الكاثوليك بلبنان ونقابة الصحافة في بيروت مجموعة كبيرة من الكتب المخطوطة والمطبوعة التي كانت قد أهدته إياها الجمعيات الثقافية والمجامع العلمية في الخارج، كما أهدى العديد من الكتب إلى المكتبة الخديوية في القاهرة، والمكتبة الامبراطورية في فيينا، والمكتبة الوطنية في لندن، والمكتبة الفاتيكانية في روما، والمكتبة الأهلية في برلين، ومكتبة هامبرج في ألمانيا، ومكتبة مدرسة اللغات الشرقية في باريس، ومكتبة الجامع الأقصى في القدس، ومكتبة إكليريكية الآباء البندكتيين في جبل الزيتون، ودير مار بهنام في الموصل، وحاز على أوسمة رفيعة تزيد عن العشرين وسامًا.
تنبّه دي طرازي إلى أن بيروت إحدى حواضر العلم في المنطقة العربية، تفتقر إلى مكتبة عامة يلجأ إليها رواد المعارف للبحث والمطالعة، فعرض فكرة إنشاء مكتبة عامة على أرباب الحكومة فوافقوا عليها وكلفوه بتنفيذ المشروع، فبذل جهودا كبيرة لتأسيسها، وخصص الكثير من ماله ووقته لإنجازها.
وبعد صدور قرار بإنشاء دار الكتب في بيروت التي سُميت بـ«دار الكتب الكبرى» نقل إليها مكتبته الخاصة التي ضمت نفائس الكتب المخطوطة والمطبوعة ومجموعة كبيرة من المجلات والجرائد، وسافر إلى أوروبا على نفقته الخاصة، وجمع آلاف الكتب من معاهد الأدب والمؤسسات الثقافية والمجامع العلمية، كما جمع العديد من التحف الثمينة لتزيد المكتبة رونقا وزينة، إضافة إلى اللوحات الزيتية التي تمثل مشاهير علماء الوطن تخليدا لذكراهم.
وفي 25 يوليو من عام 1922 احتفل رسميا بتدشين الدار في مبنى «الدياكوتيس» في وسط بيروت برئاسة الجنرال جورو، وعين دي طرازي أمينا عاما لها حتى عام 1939.
في أواخر أيامه فقد دي طرازي بصره وأصابه الشلل، وتوفي متأثر بمرضه في شهر أغسطس من عام سنة 1956، ونقل جثمانه إلى بيروت ودفن في مقبرة السريان الكاثوليك.
***********
المراجع:
«الأعلام» لخير الدين الزركلي
«تاريخ الصحافة العربية» لفيليب دي طرازي
«سيرة الفيكونت فيليب دي طرّازي» بموقع المكتبة الوطنية اللبنانية