رؤى

صفحة من تاريخ مصر.. انتفاضة الصحافة 1909

شكّل عام 1909 منعطفاً فارقاً بالنسبة لمصر وشعبها وقضيتها الوطنية الكبرى وهي قضية الاستقلال. ففي هذا العام، الذي تلا وفاة قائد الحركة الوطنية الشاب مصطفى كامل (1908)، شهدت مصر حدثا مهما، كان له أبلغ الأثر في تطور هذه الحركة، إلى أن بلغت حد الثورة الشعبية بعد ذلك التاريخ بعشر سنوات في 1919.

بدأ هذا العام، وقد اختار الحزب الوطني زعيماً جديداً له، وهو رفيق درب مصطفى كامل -الزعيم المؤسس للحزب – محمد بك فريد، ابن الذوات –اذا صح التعبير- الذي اختار الانحياز إلى صف الشعب لا إلى طبقته. كان فريد يدرك جيدا ما للصحافة من أثر في تشكيل الرأي العام، وأنها أداة الدعاية الرئيسية للقضية المصرية، سواء في الداخل أو في الخارج. وكان لا يزال يستذكر كيف تمكّن صديقه ورفيق دربه الراحل مصطفى كامل من تحويل الصحافة وعلى رأسها جريدة اللواء التي كان يصدرها الحزب الوطني إلى أداة لكشف جرائم الاحتلال في مصر ومندوبه السامي اللورد كرومر، خاصة بعد جريمة دنشواي التي أرتكبها الاحتلال بحق الفلاحين البسطاء.

مصطفى كامل، محمد فريد

الصحافة والقضية الوطنية المصرية

كانت اللواء -لسان حال المصريين في ذلك الوقت- والتي خاطب كامل من خلالها من وصفهم بـ «أحرار أوروبا» داعياً إياهم للالتفات إلى هول الجريمة التي ارتكبها كرومر ورجاله في تلك القرية المصرية الوادعة، ومدى تناقض سياساته مع ما يدعيه ساسة بريطانيا وأوروبا بشكل عام من احترام حقوق وحريات الشعوب.

وقد أتت الحملة أكلها، حين وصل صداها إلى لندن نفسها، فاحتج نواب في مجلس العموم على ما فعله كرومر، وسخر الكاتب البريطاني الشهير جورج برنارد شو من المحاكم الهزلية التي أقامها الاحتلال في دنشواي قائلاً: «إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تود أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواي، فلن يكون على وجه الأرض واجبٌ سياسيّ مقدسٌ وأكثر إلحاحاً من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها».

جورج برنارد شو

ولم تجد الحكومة البريطانية بداً من استدعاء اللورد كرومر لينتهي بذلك، بفضل الصحافة الوطنية، ربع قرن من وجوده في مصر كان فيها الحاكم المطلق للبلاد ومارس سياسة الإرهاب بحق شعبها.

ومضى فريد على درب كامل فيما يتعلق بتسخير الصحافة لصالح القضية الوطنية، فعقب انتخابه رئيسا للحزب الوطني عهد فريد برئاسة تحرير «اللواء» إلى الشيخ عبد العزيز جاويش، الذي كان مثله تماماً كارهاً للاحتلال وتبدى ذلك في أول مقال صاغة للواء حيث جاء فيه : «سيسير اللواء كما كان عليه، خادماً للأمة المصرية، مدافعاً عن الأريكة الخديوية، ما حرصت على مصالح رعاياها، مجاهداً الإنجليز ما بقوا في بلادنا».

وإدراكا منها لخطر هذا النهج، سارعت الحكومة مدعومة من الاحتلال لمحاولة اسكات اللواء فكانت محاكمة الشيخ جاويش في صيف عام 1908 لتغطيته أخبار انتفاضة أهالي بلدة الكاملين في السودان وتنكيل القوات الإنجليزية بهم ووصفه إياها بـ «دنشواي جديدة في السودان». إلا أن القضاء المصري المنصف برأ الشيخ جاويش من التهم الملفقة وعلى رأسها نشر أخبار كاذبة وإهانة الحكومة.

الشيخ عبد العزيز جاويش

قانون لقمع الصحافة

لم يمنع حكم البراءة الحكومة المصرية من السعي لتكميم الصحافة الوطنية، خاصة في ظل نشاط مكثف للحزب الوطني وزعيمه في عام 1909 تمثل في دعم العمال الساعين لتأسيس نقاباتهم المهنية وافتتاح مدارس الشعب، وهي مدارس كان المتطوعون فيها من أعضاء الحزب وجُلهم من الطلبة يعلّمون فيها البسطاء مجاناً، فتفتق ذهن الحكومة عما عرف باسم «قانون المطبوعات».

لم يكن القانون جديداً بل كان بمثابة إحياء لقانون قديم صدر في أوج الثورة العرابية عام 1881، وكان هدف الإحياء واضحاً وهو «ردع الجرائد عن تجاوزها الحدود، وعن الفوضى التى وصلت إليها».

وتظهر قيود القانون بشكل واضح فى نصوص مواده خاصة التاسعة والعاشرة والثالثة عشرة والتى تنص على الآتى :«يجوز للحكومة فى كل الأحوال حجز وضبط جميع الرسومات والنقوشات مهما كان نوعها أو جنسيتها متى وضحت أنها مغايرة للنظام العمومى أو الدين».

أدرك الحزب وقادته ومعهم غالبية الصحفيين الغرض الأساسي من هذا القانون، وهو ببساطة قمع الصحافة الوطنية بعد أن ظهر مدى تأثيرها في الداخل والخارج، وكان قرارهم بضرورة التصدي لهذا القانون .بدأ هذا التصدي برسالة احتجاج أرسلها الحزب الوطني إلى الخديوي عباس حلمي الثاني، مندداً فيها بهذا القانون، ثم اتسعت دائرة السخط على القانون وعلى حكومة بطرس غالي باشا التي أصدرته، فانطلقت تظاهرات شعبية عفوية ضده.

عباس حلمي الثاني، بطرس غالي باشا

يروي المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أن أولى المظاهرات انطلقت يوم الجمعة الموافق 26 مارس من عام 1909، حيث اجتمع ألاف الشبان من طلبة المدارس العليا (الجامعة) والأزهر على حد سواء. وكان مقر الاجتماع حديقة الجزيرة، وتوالت هناك الخطب المنددة بالقانون، ثم سار المتظاهرون في شوارع العاصمة وانضم إليهم عدد كبير ممن قابلوهم في الطريق حتى بلغ عدد المتظاهرين نحو عشرة ألاف شخص.

وفي الحادي والثلاثين من الشهر ذاته تجددت المظاهرات مرة أخرى، وكان في طليعتها من الصحفيين أحمد أفندي حلمي –جد الفنان صلاح جاهين– وصاحب جريدة القطر المصري.

أحمد أفندي حلمي

لم تجد السلطات أمامها سوى مقابلة هذه التظاهرات الغاضبة بالقوة والقمع، فتزايدت حدة الصدامات بين المتظاهرين العزل وبين قوات الأمن التي سعت لتفريقهم.

ومن الملاحظ أن السخط على القانون كان عاما، وشمل فئات الشعب المختلفة، ولم يكن قاصراً عى الصحفيين دون غيرهم، بل تعداهم إلى البسطاء الذين أدركوا الغرض من القانون، فكان تعاطفهم مع الصحفيين نوعاً من التأييد للحركة الوطنية بشكل عام وبدا ذلك واضحاً في هتافهم الجماعي «عاش نضال الصحفيين».

بل إن الغضب وصل إلى الخديو ذاته والذي كان بعيداً عن النقد حتى ذلك الحين ،حيث يذكر أحمد شفيق باشا، ربيب القصر الخديوي، أن الخديو ذهب إلى المحطة لتوديع «الدوق أوف كنوت»، وفى أثناء ذهابه وعودته إلى قصره في ميدان عابدين، لاحظ أن بعض الطلبة الذين ينتمون إلى الحزب الوطنى كانوا جالسين على المقاهي فى حالة عدم اكتراث، ولما مرّ عليهم، لم يتحركوا ولم يقفوا لأداء السلام، بل بالعكس رفعوا ساقا فوق ساق ونظروا إليه بقدر من اللامبالاة.

أحمد شفيق باشا

هنا قررت الحكومة اللجوء إلى سلاح الحبس عقابا للمحتجين، فحوكم الشيخ جاويش مرة أخرى وحكم عليه هذه المرة بالحبس لمدة ثلاثة أشهر، ووجهت السلطات إنذاراً شديد اللهجة إلى جريدة اللواء، كما حكمت محكمة أخرى بالسجن لمدة ستة أشهرعلى أحمد أفندي حلمي.

إلا أن هذه الإجراءات القمعية وغيرها لم تقت في عضد الحركة الوطنية بل زادت من التفاف الشعب حول رموز الصحافة، حيث جمع أبناء الشعب اكتتاباً عاما بغرض صنع وسام للشيخ جاويش احتفاء به رغم سجنه، واستمرت مظاهر التضامن مع حلمي وغيره من المعتقلين حتي خروجهم من محبسهم.

لقد شكلت انتفاضة الصحافة عام 1909 واحدة من اللحظات القلائل في تاريخ مصر، التي تضامن فيها الشعب بكافة فئاته مع نضال الجماعة الصحفية- اذا صح التعبير- ،كما كانت هذه الانتفاضة التلقائية إلى حد كبير تمهيدا  لثورة عام 1919.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock