ثقافة

العجز الجنسى.. وباء حارة الزعفرانى

يبدو الغيطاني كما لو كان يعيش بيننا الآن مستشرفا شكل العالم ما بعد كورونا.. 

تتخذ الحارة – منذ نجيب محفوظ – أبعادا رمزية دالة على الوطن أو العالم بأسره ويصبح تاريخ سكانها اختصارا لتاريخ البشرية كلها، من هذه الزاوية يمكن النظر إلى رواية ” وقائع حارة الزعفرانى ” لجمال الغيطانى حيث يجعل من حارة الزعفرانى مكانا دالا على انتشار الفساد الذى يصل إلى الرشاوى والمحسوبيات والعلاقات الجنسية المحرمة والبغاء واللواط وغيرها من الآفات حتى تقع اللعنة، ويصبح سكان الحارة فى قبضة ” شيخ ” يمتلك قدرات خارقة فيقضى على ذكورتهم ويصيبهم بالعجز الجنسى بل ويمسخ المتمردين عليه، وتقع الحارة قريبا من مسجد الحسين مما يصنع مفارقة بين هذا الفساد بأشكاله المختلفة والجو الروحى الذى يوحى به هذا المسجد العريق، وتأتى عمومية المكان من تباين سكانه سواء على المستوى الطبقى مابين الطبقة الثرية والمتوسطة والمعدمة أو على مستوى الأقاليم النازحين منها، لكنهم يشتركون – فحسب – فى هذا التكالب المادى الذى يشمل الشخصيات واسعة الثراء مثل حسين الحارونى الذى يمتلك مخزنا واسعا تحت الأرض يحوى كما هائلا من الأثاث والجواهر والعملات النادرة والأثريات، وشخصيات الطبقة المتوسطة التى تشمل الداطورى صاحب المقهى وعاطف الجامعى ونبيلة المدرسة، أما الطبقة المطحونة فيمثلها عيسى الفران القادم من الصعيد والذى لايملك إلا قوة عمله وقوته البدنية التى مكنته من العمل خبازا وبائع ذرة وحمالا وخادما فى مطعم، ويظل أغرب ماقام به وأكثره شذوذا هو ” بائع متعة ” فى أحد الحمامات للمثليين من الرجال، على أن الأكثر شذوذا وفسادا أخلاقيا هو ماقام به سيد أفندى التكرلى الموظف بمؤسسة الأمانات العامة والذى يدخل ” الحارة ومعه أفندية يرتدون نظارات طبية وزراير مذهبة فى أطراف قمصانهم وأحذية غير متسخة ” ( ” وقائع حارة الزعفرانى ” جمال الغيطانى ص14دار الشروق )، وسوف نعلم أنه يأتى بهؤلاء الأفندية إلى زوجته.

نحن إذن فى مجتمع بلغ فيه الفساد ذروته وكان لابد أن تحل اللعنة التى تمثلت فى ذلك العجز الجنسى الذى أصاب رجال “حارة الزعفرانى”

لوحة تشكيلية عن الحارة المصرية للفنان محسن حسن أبو العزم
لوحة تشكيلية عن الحارة المصرية للفنان محسن حسن أبو العزم

الرجولة والذكورة:

هناك فارق جوهرى بين الرجولة والذكورة، فالرجولة صفات تجمع بين الشرف والحمية والغيرة على الأرض والعرض والصدق والأمانة وغيرها من الصفات النبيلة التى يتمتع بها كثير من الرجال والنساء، فقد وصف الرسول (ص) إحدى النساء بأنها امرأة ” رجولة ” – بفتح الراء – وهو يعنى تمتعها بهذه الصفات، أما الذكورة فهى لاتعنى سوى القدرة الجنسية وبناء عليه يمكن القول إن معظم رجال الزعفرانى قد فقدوا صفات الرجولة، فكان عقابهم أن يحرموا من هذه القدرة الذكورية، ويظل الأمر أشبه بالعار الذى يخجل منه الجميع يقول السارد على لسان عاطف بعد اكتشافه لهذا العجز ” ماذا جرى ؟ ماذا لو عرف أصحابه ؟ كيف يذكر الموقف بعد انصرافها – يقصد روض المطلقة التى عجز معها – كيف يعبر الزعفرانى ؟ ” وهذا ما حدث أيضا مع عويس – الصعيدى الفقير – بعد أن عجز عن تحقيق المتعة لمرتادى الحمام فذهب إلى المستشفى وقرر الطبيب سلامة أعضائه .

عفاريت الشيخ عطية:

أصبح الأمر واضحا أمام عويس بعد أن تأكد من سلامة أعضائه، وبعد سماعه صوت طفل ينبعث من جسد الشيخ عطية، ولم يكن هناك تفسير لذلك سوى أن أحد الجان يتلبس جسد الشيخ وأنه سبب انتشار هذا الوباء، وبعد أن يتأكد عويس من ذلك يعرض على الشيخ أنه مستعد لخدمته حتى أصبح وسيلته فى معرفة أخبار سكان الحارة والإعلان عن تعليمات الشيخ إليهم.

غلاف رواية وقائع حارة الزعفراني باللغة الإنجليزية
غلاف رواية وقائع حارة الزعفراني باللغة الإنجليزية

ويبدو تقدم العمر على الشيخ منذ ظهوره فى الرواية حيث يحكى الصول سلام أنه قد زاره – وهو لايزال فى الثامنة من عمره – ومعه أمه وأخته كى يعمل عملا يخلص الأخت من عقمها، وكان الشيخ ” مسنا ” مما يؤكد هيبته فى نفوس أهالى الزعفرانى بل إن البعض يذهب إلى أنه أحد أولياء الله الصالحين حيث كان ركاب الدرجة الثالثة فى قطارات الصعيد يرون – كما يقول د.على الراعى فى كتابه ” الرواية فى الوطن العربى ” – ” عجوزا يمر بين المقاعد، يتلو شعرا يتضمن أسماء أصحاب المقامات والمشايخ وأولياء الله الصالحين، ويذكر من بينهم الشيخ عطية ساكن الزعفرانى “

الشيخ عطية بين الوهم والحقيقة :

يخلع أهالى الزعفرانى على الشيخ صفات تجعله أقرب للشخصية الأسطورية، مثل أنه ولد نابت اللحية وأنه رتل القرآن قبل خروجه من الرحم، وتؤكد نساء الزعفرانى أنه متزوج من جنية رائعة الحسن، وأنه يرحل إلى أماكن كثيرة فى العالم ممتطيا ظهر أحد المردة فإذا ماتعاملنا مع كل هذا على أنه نوع من ” الخيال الشعبى ” يبقى السؤال قائما هل هذا الشيخ مجرد وهم خلقه أهل  الزعفرانى ليسقطوا عليه عجزهم الذى لم يكن جنسيا فقط، بل عجز عن مواجهة الحياة والقدرة على التحقق وهو مايفسر قول أم صبرى إن الحارة تخلو من الرجال قبل الطلسم وبعده، وتدلل على ذلك بعدم تمردهم على ذلك الشيخ الذى يتسبب فى خراب البيوت بينما الجميع يتفرجون ولا أحد يتكلم ولا أحد يحتج

مسلسل حارة الزعفراني المُقتبس عن الرواية

الطلسم : آخر العلاج الكى

ذكرت أن حارة الزعفرانى قد بلغت أقصى حالات فسادها ولم يكن أمام الشيخ – وأنا أميل إلى وجوده حقيقة – سوى إطلاق هذا ” الطلسم – كأنه الوباء- الذى تسبب فى العجز الجنسى كوسيلة أخيرة للعلاج، وذلك لتبديل نمط حياتهم والقضاء على كل مظاهر الفساد، وقد كان هذا الطلسم من القوة بحيث لايستطيع أحد أن ينجو منه، وذلك لكى يكف أهل الزعفرانى عن المنازعات والشجار والصراعات غير المبررة، ويشير الغيطانى فى خلفية كل هذا إلى الاعتقالات السياسية والإرهاب المتأسلم وموجات الغلاء وما يستلزمه انتشار وباء العجز من تطبيق الحظر على اهل الزعفرانى، فقد كرر عويس – لسان الشيخ – ” ضرورة التزام الزعفرانيين بالنظام الجديد الخاص بنومهم فى الثامنة مساء وعدم مغادرة الحارة إلا بعد السابعة صباحا، ” بل ويصل الأمر بعد انتشار الوباء عالميا إلى إغلاق الموانىء والمطارات، ويبشر الغيطانى بعد تجاوز هذا الوباء بنظام تسود فيه العدالة والمساواة الأمر الذى يجعلنى أقول إن كاتبنا الكبير يبدو كما لو كان يعيش بيننا الآن مستشرفا – معنا – تغير شكل العالم ومجتمعاته في زمن ما بعد كورونا.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock