كتب: توماس فريدمان
ترجمة: تامر الهلالي
عندما سمعت لأول مرة نبأ الانفجار الرهيب في بيروت، ثم التكهنات المنتشرة حول من كان من الممكن أن يكون مسؤولاً عنه، عاد ذهني إلى الوراء قرابة 40 عامًا لحضور حفل عشاء حضرته في منزل مالكولم كير، الذي كان حينها رئيسًا لـ الجامعة الأمريكية في بيروت.
خلال العشاء، ذكر أحدهم عواصف البرد غير العادية التي ضربت بيروت في الليلتين السابقتين. قدم الجميع شرحًا لحدث الطقس القاسي هذا، قبل أن يسأل مالكولم، بلسانه الخشن، ضيوفه: “هل تعتقدون أن السوريين فعلوا ذلك؟!
مالكولم كان رجلاً ساحراً وعالماً لامعاً، قُتل بشكل مأساوي بعد بضعة أشهر على يد قتلة مجهولين – كان يملك روح الدعابة و العمق في نفس الوقت. كان يسخر من النزعة اللبنانية لتفسير كل شيء على أنه مؤامرة، وعلى وجه الخصوص مؤامرة من سوريا، ولهذا ضحكنا جميعاً، لكنه كان يقول أيضًا شيئًا عميقًا عن المجتمع اللبناني وهذا ،للأسف، ينطبق أيضًا على أمريكا اليوم – حقيقة أنه في لبنان في ذلك الوقت وحتى اليوم أصبح كل شيء حتى الطقس مسيسا!
https://www.youtube.com/watch?v=I6q4YZgzYXI
بسبب الطبيعة الطائفية للمجتمع اللبناني، حيث تم تقسيم كل سلطات الحكم ومقدرات الدولة دستوريًا أو بشكل غير رسمي في توازن دقيق للغاية بين مختلف الطوائف المسيحية والمسلمة، كان كل شيء سياسيًا بالفعل، كل تعيين في وظيفة، كل تحقيق في المخالفات، كل قرار حكومي لتمويل شيء أو عدم تمويل آخر، كان يُنظر إليه على أنه امتياز لمجموعة واحدة ويضر بمجموعة أخرى.
لقد كان نظامًا اشترى الاستقرار في مجتمع شديد التنوع (بين نوبات الحرب الأهلية) ولكن على حساب الافتقار المستمر للمساءلة والفساد وسوء الإدارة وانعدام الثقة.
لهذا السبب لم يكن السؤال الأول الذي طرحه الكثير من اللبنانيين بعد الانفجار الأخير هو ماذا حدث، ولكن من فعل ذلك ولأي منفعة؟
صارت الولايات المتحدة مثل لبنان ودول الشرق الأوسط الأخرى من ناحيتين، أولاً: أصبحت خلافاتنا السياسية عميقة لدرجة أن حزبينا يشبهان الآن الطوائف الدينية في صراع على السلطة محصلته صفر.
إنهم يسمونهم “الشيعة والسنة والموارنة” أو “الإسرائيليين والفلسطينيين”، ونحن نسمي شعبنا “الديمقراطيين والجمهوريين”، لكننا الآن نتصرف تمامًا مثل القبائل المتنافسة التي تعتقد أنه يجب أن يحكموا أو يموتوا.
وثانيًا: كما هو الحال في الشرق الأوسط، كل شيء أصبح الآن وبشكل متزايد في أمريكا مسيساً ،حتى المناخ والطاقة، وحتى أقنعة الوجه في ظل الوباء.
في الواقع نحن في أمريكا أصبحنا أشبه بدولة شرق أوسطية لدرجة أنه بينما كان اللبنانيون يستنتجون أن الانفجار كان حادثًا حقيقيًا، كان الرئيس ترامب يتحدث مثل زعيم ميليشيا بيروت، معلناً أنه لا بد أنه كان ثمة مؤامرة، و قال إن جنرالاته يعتقدون أن الانفجار ” كان هجومًا” أو ” قنبلة من نوع ما.”
يموت المجتمع، وبالتأكيد الديمقراطية، في النهاية عندما يتحول كل شيء إلى سياسة حيث يتم خنق فكرة الحكومة برمتها .
وبالفعل، قيل إن تقاعس المحاكم اللبنانية الفاسدة عن التصرف كحراس للصالح العام والأمر بإزالة المتفجرات من الميناء – كما طلبت سلطات الميناء منذ سنوات – هو الذي مهد الطريق للانفجار.
يرى الفيلسوف الديني في الجامعة العبرية موشيه هالبيرتال الآتي: “لكي تزدهر السياسة الصحية فإنها تحتاج إلى نقاط مرجعية خارج نفسها – نقاط مرجعية للحقيقة ومفهوم للصالح العام”، وأنه “عندما يصبح كل شيء سياسيًا، تكون هذه نهاية السياسة.”
بعبارة أخرى، عندما يكون كل شيء سياسة، فإن كل شيء يتعلق بالسلطة فقط، لا يوجد مركز، فقط أوجه تتخذ جوانباً لا حقائق، فقط صراع إرادات.
إذا كنت تعتقد أن تغير المناخ أمر حقيقي، فيجب أن يكون ذلك لأن شخصًا ما دفع لك مقابل منحة بحثية، إذا كنت تعتقد أن الرئيس ارتكب جريمة تستوجب عزله أثناء محاولته تجنيد رئيس أوكرانيا لتقويض جو بايدن ، فهذا فقط لأنك تريد السلطة لحزبك.
يحاول الشعبويون غير الليبراليين مثل ترامب – أو بيبي نتنياهو في إسرائيل، وجير بولسونارو في البرازيل، وفيكتور أوربان في المجر، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وفلاديمير بوتين في روسيا تقويض حراس الحقائق والصالح العام عمداً.
أولئك تتلخص رسالتهم لشعبهم في شعارات مثل : “لا تصدقوا المحاكم أو الموظفين المدنيين المستقلين أو مصادر الأخبار المزيفة، صدقوني فقط و صدقوا كلماتي وقراراتي، إنها غابة هناك، كل من ينتقدونني قتلة، ولا يمكنني سوى حماية قبيلتنا من قبائلهم، إنه الحكم أو الموت “. هذا الاتجاه لا يؤذينا فقط، إنه يقتلنا حرفيا.
يكمن السبب وراء فشل ترامب التام في إدارة جائحة كوفيد -19 في أنه واجه أخيرًا قوة لا يستطيع تشويه سمعتها وتحويلها من خلال تحويلها إلى سياسة: الطبيعة الأم، فهي غير قابلة للاختراق في السياسة لأن كل ما تتكون منه هو الكيمياء والبيولوجيا والفيزياء، وستفعل كل ما تمليه في هذه الحالة تنشر فيروس كورونا سواء أكّد ترامب ذلك أم لا.
أكد قادة ألمانيا والسويد وكوريا الجنوبية عكس ذلك تمامًا قائلين: ” هناك حقائق علمية مستقلة عن السياسة وهناك الصالح العام، وسوف نرضخ لتلك الحقائق وسنخدم الصالح العام للجمهور”.
في ذلك اليوم، قال ترامب للجمهور في كليفلاند: إذا فاز بايدن ، فإنه “سيؤذي الكتاب المقدس ويضر الله، إنه ضد الله، ضد الأسلحة، إنه ضد الطاقة، نوع طاقتنا “. نوع طاقتنا؟ نعم ، اتضح أن هناك الآن طاقة جمهورية – النفط والغاز والفحم – والطاقة الديمقراطية – الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المائية. وإذا كنت تؤمن بالنفط والغاز والفحم، فمن المفترض أيضًا أن تعارض الإجهاض وأقنعة الوجه. وإذا كنت تؤمن بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة المائية، فمن المفترض أنك مؤيد للإجهاض و مؤيد لقناع الوجه.
هذا النوع من التفكير في أقصى حدوده، هو الذي دمر لبنان وسوريا والعراق وليبيا واليمن، وهو ينهش إسرائيل بشكل متزايد، كن إذا استمعت إلى المتظاهرين في الشوارع في بيروت، يمكنك أن تسمع كيف يتضور الكثير من اللبنانيين جوعًا لحكومة تمثل الصالح العام.
هنا في أمريكا أيضًا من هم القادة الذين لا يزال الكثير منا يحترمهم ويتوقون إليه حتى عندما نختلف معهم؟ تم توجيه هذا السؤال ل” هالبيرتال” وأجاب: “إنهم القادة الذين يؤمنون بوجود عالم مقدس – للصالح العام – خارج إطار السياسة ويتخذون قرارات كبيرة بناءً على حكمهم ما هو الأفضل للصالح العام وليس الافضل لمصالحهم السياسية .
”هؤلاء القادة سيفعلون الكثير من أجل أحزابهم، إنهم لا يكرهون السياسة، بل يشاركون فيها بشكل مكثف، لكنهم يدركون أين يجب أن تتوقف السياسة ومتى يجب أن تستأنف، هؤلاء لن يخربوا الدستور أو يشنوا حربًا أو يقللوا من مخاطر الصحة العامة للحفاظ على سلطتهم.
في الشرق الأوسط، هؤلاء الأشخاص نادرون، وعادة ما يتم اغتيالهم – لكننا نتذكر أسمائهم: إسحق رابين وأنور السادات ورفيق الحريري، وصحفيون لبنانيون شجعان مثل زملائي جبران تويني وسمير قصير.
هذا هو سبب إعجاب الكثير منا برئيس القضاة جون روبرتس عندما يقف أحيانًا إلى جانب الليبراليين في قرارات المحكمة العليا، ليس لأن القرار كان ليبراليًا، ولكن لأنه يبدو أنه يتصرف من أجل الصالح العام، وليس دعما لقبيلته السياسية.
لهذا السبب أيضًا لا نزال نعجب بجيشنا، الحارس على مصلحتنا المشتركة، ونشعر بالفزع والقلق عندما نرى ترامب يجره إلى “السياسة”.
فكر في قرار آل جور حين خضع لقرار المحكمة العليا المسيّس للغاية بمنح الفوز بانتخابات عام 2000 لجورج دبليو بوش، وضع جور الصالح العام أولاً. لقد تلقى الرصاصة بدلاً من أمريك، كان ترامب ليمزق أمريكا بسبب ذلك، وصدقني، إذا خسر في تشرين الثاني (نوفمبر)، فلن يكون هناك من طريقة لوضع الصالح العام في مقدمة أولوياته والذهاب بهدوء إلى هذه الليلة السعيدة.
يقول هاليبرتال: “عندما تفقد عالم المقدس، عالم الصالح العام خارج حسابات السياسة، فهذا هو الوقت الذي تنهار فيه المجتمعات، و هذا ما حدث في لبنان وسوريا واليمن وليبيا والعراق.
وهذا ما يحدث ببطء لإسرائيل وأمريكا، ومناهضة هذا الاتجاه هو أهم مشروع لجيلنا.
– هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا