على قناة فضائية مجهولة خاصة بكارتون الأطفال، يقاطعك إعلان مجهول المصدر أيضًا: أسنانك حسّاسة زيك؟ لثّتك ضعيفة زي شخصيتك؟ شعرك بيضيع زي مستقبلك؟ أنت أكيد محسود، اتصل الآن على الشيخ الروحاني المغربي لعلاج الحسد وفك السحر وردّ الحاسد وعلاج اللمس والهمس وردّ المطلقة في ثلاثة أيام، اتصل الآن..اتصل الآن.
وعلى الرغم من تساؤلاتي الوجودية عن إقحام مثل تلك الإعلانات على قناة فضائية تبث أساسًا أفلام كارتون للأطفال، إلاّ أن مهارات الشيخ الروحاني في معالجة الحسد طمأنني نوعًا ما، لقد وجد الشيخ علاجا للحسد، فلماذا إذن منشورات الحسد والمحسود المنتشرة على الانترنت؟ لماذا لا يتواصل مع الشيخ أولئك المتضررين الشكّائين من الحسد على الفيسبوك للعلاج أصحاب مقولات (بلاش تركزوا معانا، اللي مركز فحياتي يقولى فين مكان الطرحة النبيتي، أنزل ستوري من هنا وارقد فالسرير من هنا)؟ هل أصبحنا بلد ال 100 مليون محسود؟ أم أن هناك سببا آخر.
مرحبًا بكم في عالم الحسد القبيح:
عرّف الفيلسوف إيمانويل كانط الحسد على أنه “الضيق من رؤية الآخرين في رفاهية، والإحجام عن تمني الرخاء لشخص آخر، والرغبة التى تهدف لتدمير نجاح وثراء الآخرين”[1]، كما بدأ ريتشارد سميث، عالم علم النفس بجامعة كنتاكي، بدراسة الحسد في الثمانينات والتسعينات، وأشار إلى أن الحسد يمكن أن يتحول إلى حقد دفين، مما يجعلنا نشعر بالامتعاض، والغضب، والرغبة في الانتقام، وأن الشعور بالحسد ينشأ عادة من عاملين الأول وهو الملاءمة: بمعنى أن تكون الميزة المحسودة ذات مغزى بالنسبة لنا شخصيًا، فمن غير المرجح أن تتسبب راقصة بالية في حسد المحامي، إلاّ إذا كان للمحامي طموح لاحتراف رقص البالية بعد فترة الظهيرة، العامل الآخر وهو التشابه: أي أن يكون الحسد والغيرة بين أشخاص مشابهين لنا، وفي نفس الظروف أو الفئة، على سبيل المثال غير وارد أن تحسّد الخالة نزيهة العفوية الأميرة كيث دوقة كامبريدج على مزاياها الاجتماعية كدوقة لمقاطعة شهيرة[2].
الحسد قديم قدم البشرية نفسها، فهو الدافع الذي كان وراء قتل قابيل لأخوه هابيل، ولأسباب وجيهة تم اعتباره واحدا من الخطايا السبع المميتة، وحذرت منه الوصايا العشر في العهدين القديم والجديد، وقد أشار الفيلسوف اليوناني ديموقراطيس قبل سقراط إلى أن المجتمع الحر والسلمي سيسعى بنشاط لتثبيط الحسد، كما كان يدرك سينيكا الأصغر المفكر ورجل الدولة الروماني البارز في القرن الأول الميلادي أن الحسد بذرة الفتنة، حيث لعب دورًا رئيسيًا في زوال الجمهورية الرومانية القديمة، ووفقًا لسانت توماس الأكويني في القرن الثالث عشر، فإن الحسد يولد صراعًا داخليًا على ثلاث مراحل، في المرحلة الأولى يحاول الحاسد تشويه المحسود، وفي المرحلة الثانية، يفرح الحاسد من مصيبة الآخرين، أو يسخط من نجاحهم، وفي المرحلة الأخيرة، يتحول الحسد إلى بغض وكراهية وأذى، كما رأى الشاعر الإيطالي مؤلف كتاب الكوميديا الإلهية دانتي أليغيري الحسد على أنه “الرغبة في حرمان الآخرين من النعم”، وكان يعاقب الحاسد على ذلك بإغلاق أعينهم بالأسلاك لأنهم اكتسبوا اللذة الخاطئة من رؤية الآخرين يتأذون[3]، وفي القرآن الكريم يذكر لنا مثال إخوة يوسف، أكان حسدا أم غيرة ذلك الشعور الذي جعلهم يلقوا بأخيهم الصغير في غياهب الجُب؟، وماذا عن الآيات الأربع اللاتي ذكر فيها الحسد صراحةً في القرآن؟.
ذكر الحسد في القرآن كان للتأكيد على أنه شعور قلبي معنوي أكثر منه شعور مادي، لأن أي إحالة لإلقاء اللوم على الحسد في جميع المواقف والأقدار هو أمر يتضارب مع الإيمان بقضاء الله وقدره، وعلى ذكر ذلك، ففي محاولة لفهم الموضوع وتحليل البعض لأحداث حياتهم في ظل الحسد أو أي مبرر يندرج تحت الحسد، تجادلت مع صديقة من أصدقاء الفيسبوك التي تؤمن بالحسد وتضع دائما “الخرزة الزرقاء” على البروفايل بيكتشر الخاص بها، وذلك عندما نشرت ما يفيد موت يوتيوبر مصري شهير بسبب “الحسد”، فقلت لها أليس من الوارد حدوث سبب آخر، إلا أنها باغتتي بردّ ناري اسكتنى على الفور..جرا ايه يا أسماء “إنتي نسيتي إن الحسد مذكور في القرآن”! ولم استمر في الجدال كثيرًا حتى لا أجد نفسي متهمة بالزندقة “واليعوذ بالله”!
حقيقة، كلنا نتناول الحسد كظاهرة خارجية، من الآخر، تحدث غيبيًا، لكن ماذا عن الحاسد نفسه؟ كيف يكون الشعور بالحسد؟ ماذا يعود على الحاسد عندما يحسد؟ وهل الحسد هو الوجه الآخر للغيرة؟.
حاسدون ومحسودن في ملكوت الله:
أمّا كل الناس بتشتكي من الحسد أمال مين اللي بيحسد؟ سؤال منطقي وجب طرحه في تناول هذا الموضوع، فلا أحد ينكر أن الشعور بالحسد والغيرة أمر مزعج؟ وقد يؤدي بنا أحيانًا إلى مسار مؤذ، فهو كالمادة الآكلة المدمرة لعضلة القلب، وبالعودة إلى التركيز على الحاسد نفسه، هل يؤدي الإحباط أو اليائس أن يقود الشخص إلى الحسد، وكيف نستجيب عندما نلتقي بأشخاص أكثر نجاحًا منا؟.
للإجابة عن هذا التساؤل فهناك طريقتان، الطريقة الأولى هي الإعجاب، وهو شعور نبيل ينم عن صفاء داخلى وتواضع، فقد يلهمنا نجاح البعض للوصول لمستويات جديدة من الإنجاز، على النقيض من ذلك، الطريقة الأخرى وهي الحسد، وهو شيء سيء بطبيعته، وهو شعور بالإهانة وسوء النية ناتج عن التفكير السلبي تجاه المزايا والتفوق الذي يمتلكه الآخرون، وهو أقرب للغيرة والحقد، وفي هذا السياق كتب برتراند راسل أن الحسد شعور عاطفي بتمني زوال المزايا أو الإنجاز والحصول عليها[4]، بناءً على مقولة راسل نستطيع القول أن هناك الحسد الحميد والحسد الخبيث، هذه الازدواجية هي مكمن التعقيد الحقيقي لهذه العاطفة، ومع ذلك فالنوع “الحميد” من الحسد يمكن أن يكون حافزا ودافعا إيجابيا شخصيًا أو اجتماعيًا أو وظيفيًا.
أما الحسد “الخبيث” لا يخرج إلاّ من شخص بائس، غير قادر على الابتهاج لمزايا الآخرين ونجاحهم، قلبه ضعيف وهذا الضعف يدفعه إلى إنزال القوي إلى مستواه، على حد التعبير القائل (المساواة في الظلم عدل)، (والمساواة في البؤس فضيلة)، فالحاسد والحاقد نبتة شريرة ومدمرة تبعث على كراهية الخير وتمزق كل شيء أرحام، وعلاقات، وصداقات، وزيجات.
ربما كان أفضل كتاب في القرن العشرين عن هذا الموضوع، هو كتاب عالم الاجتماع النمساوي الألماني هيلموت شوك، الحسد: نظرية السلوك الإنساني، الذي ظهر في أواخر الستينات، وأشار فيه إلى أن “الادعاء” بالدوافع الإنسانية كالحسد، هو أداة بلاغية مفضلة للتهدئة المفترضة من قبل السياسيين، للتغطية على إخفاقهم، وكبش فداء مقبول سياسيًا في كثير من الأحيان، يظهر كسلوك اجتماعي بديل عن المكاشفة وتحسين الذات[5]، فبالطبع غصب عني “أمّا أشوف” بوستات الإخوة والأخوات على الإنترنت سواء حاسدين أو محسودين، والضاربين في هذا الموضوع بتعمق وفزع، لا أستطيع تصورهم إلاّ على أنهم ضمن فئات (القموصيين، الدراما كوينز، والأوفر سنسيتيف)، ليه يا إنسان يا حبيبي ليه كده!!.
https://www.youtube.com/watch?v=o2CsISFqFpo
كن محترفًا واترك الحسد للهواة:
أعتقد أن العالم سيكون مكانًا أفضل لو أن الإنسان اقتنع بفكرة أن (مش لازم كل حاجة تحصل يكون سببها الحسد)! ربط الحسد بالفشل والتحجج به كثيرًا ما يكون كبش فداء، ومبرر أو “شمّاعة” لتعليق عليها القرارات الخاطئة اللاعقلانية، وسوء التقدير، وضيق الأفق، وهذا ما يفعله الخاسرون، الذين لا ينفكوا عن النباح كما تفعل الكلاب الصغير التى تنبح على الغرباء.
فبدلاً من التذمر والتكهن والتحجج بالحسد- حيث لا توجد أدلة علمية على التأثير المادي للحسد- استمر في النظر داخلك، ركّز على ذاتك، قم بوضع أهدافا جديدة وواقعية، وإذا كنت لا تزال تشعر بعدم القيمة واصل صقل مهاراتك وتفجير قدراتك، فلن يخرجك شيء من دائرة الحسد الافتراضية التي تدور داخل رأسك مثل “خطة هجوم”.
تذكر دائمًا، لا يوجد مسار واضح، ولا طريق سهل، ولا سلم مشترك للصعود، فلكل شخص معاناته الخاصة، يجب عليك التوقف الآن عن المقارنات، وتعلم أنه من الخطأ التفكير ب “لماذا هذا الشخص أو ذاك أفضل مني”، لأنه غير مفيد، فاشتهاء طريق شخص آخر لا يجعله طريقك، فقط سيؤدي بك التركيز على نجاحات الشخص أو “إخفاقاتك” إلى أفكار عدائية قد تحولك في النهاية إلى شخص مؤذ وقاسي.
غيّر فلسفتك في الحياة، اختر رفاقك بحكمة، اختر أولئك الذين يخلقون منافسة ودّية، فتصبحا معًا شيئا أفضل، فالأصدقاء السلبيون يجرونك لأسفل، يعرقلون أهدافك، يمكنهم إفساد صحتك العقلية، وفي كل مرة تستطيع أن تجعل من نفسك النسخة الأفضل، فأنت على الطريق السليم، فقط لا تبالغ في جلد ذاتك، لأن كل خطأ أخطأته وكل شخص خذلك هو السبب فيما وصلت إليه الآن، وكان الدرس الذي علمك الكثير.
يقول الغزالي: ولعلك تقول ليت النعمة تزول عن المحسود بحسد، وهذا غاية الجهل؛ فإنه بلاء تشتهيه لنفسك أولاً، فإنك أيضًا لا تخلو عن عدو يحسدك، فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق الله عليك نعمة ولا على أحد من الخلق، ولا نعمة الإيمان أيضًا.
في الواقع باستطاعتي سرد الكثير والكثير، وتزويد القاريء بالآلاف من الاقتباسات حول موضوع الحسد، الخلاصة فقط (ابحث في ضميرك ..إذا وجدت الحسد بداخلك، فاحذفه قبل أن تتآكل روحك)، وابتعد عن إعلانات الشيخ الروحاني المغربي قدر المستطاع.
المراجع:
[1] Sanders, Edward Mark. Envy and jealousy in Classical Athens. Diss. UCL (University College London), 2010.
[2] Smith, Richard H. Envy: Theory and research. Oxford University Press, 2008.
[3]Sanders, Edward Mark., Op Cit.,
[4] Parrott, W. Gerrod, and Richard H. Smith. “Distinguishing the experiences of envy and jealousy.” Journal of personality and social psychology 64.6 (1993): 906.
[5] Grossman, Philip J., and Mana Komai. “Within and across class envy: Anti-social behaviour in hierarchical groups.” Monash University, Department of Economics (2013).