رؤى

تأملات في مفهوم “العود الأبدي”

أجلس في الزاوية محلّقة في “وَزَرَاتِ” السقف قُبَالَةَ ابني، وهو يحفظ مراحل نشأة الكون، يعطيني الكتاب لأراجع معه ما حفظ.. وأتسأل: إذا كانت نظرية الانفجار العظيم (The big bang) التي تفسر نشأة الكون نتيجة تمددٍ وانفجارٍ في الطاقة، وما ترتب على ذلك من احتمالية أخرى، وهي نظرية الانسحاق العظيم (The big crush) التي تُفسَّر بأنَّ الكون سينكمش مرة أخرى على نفسه ويرجع إلى حالته الأولى- ما مصيرنا نحن وما مصير الحياة؟ هل هناك حيوات أخرى ستظهر؟ وهل ستكون هي نفس الحياة التي نعيشها؟. يبدو أنني لم أكن الأولى التي تطرح على نفسها تلك التساؤلات، كان “لويس أوغست بلانكي” (أحد أهم الشخصيات في السياسة الثورية الفرنسية في القرن التاسع عشر) يجلس هو الآخر في مَحْبَسِهِ يُحَدِّقُ في النجوم، بعد أن سُجِنَ بسبب دوره في الحركة الاشتراكية -كان من شأن تلك الحركة أن أدَّت إلى انتفاضة باريس عام 1871- إلا أنّ “بلانكي” عندما نظر إلى سماء الليل، وجد الراحة في إمكانية وجود عوالم أخرى، ففي حين أنَّ الحياة على الأرض عابرة، فإنَّ الكون أبدي في الزمان والمكان، لا حدود له.

في كتابه “الخلود من النجوم” (Eternity by the Stars) الصادر في 1872، قال “بلانكي”: “قد نستريح في فكرة أن هناك عددا لا يُحْصَى من النسخ المقلدة لكوكبنا، مليئة بالمخلوقات المماثلة”، وإنَّ جميع الأحداث التي حدثت أو التي لم تحدث بعد في عالمنا، تحدث بنفس الطريقة تماما على “بلايين” النسخ المكررة، هل يمكن أن تُسجن أرواح معينة في هذه العوالم البعيدة أيضا؟.

إنَّ فكرة خلود العالم تستحوذ على ذكائنا بشكل أكثر سيطرة من ضخامته.. فإذا لم يسلِّم المرء بأنَّ للكون حدود؛ فكيف يمكن للمرء أن يقبل فكرة عدم وجوده؟ فالمادة لم تنشأ من العدم، ولن تعود إلى العدم، إنَّه أبدي لا يفنى، وإذا كانت المادة لانهائية في الزمان، فلماذا لا تكون كذلك في الامتداد أو الفضاء؟[1].

بلانكي
بلانكي

قد تبدو رؤية “بلانكي” للعوالم المتوازية خيالية، ربما يكون حينها قد ولد “التفكير بالتمني” من حبسٍ طويل الأمد، ومع ذلك فهو يعكس تساؤلا قديما، لا يزال يُحيِّر علماء الفيزياء وعلماء الكونيات إلى يومنا هذا، كان “بلانكي” يأمل في أنَّه من خلال تلك التساؤلات الوجودية؛ أن أولئك المسجونين ظلما هنا على الأرض معه قد يكونون يمشون أحرارا هناك…

هل شعرت في أحد المرات أو أكثر من مرة بأنَّ الزمن يكرر نفسه؟ أحداث متشابهة من ذاكرتك، وكأنَّ هناك نقطة تداخل غامضة بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ هل يعيد الكون نفسه في المكان أم الزمان؟ أم أننا نتقدم إلى ما لا نهاية، ولا نكرر أبدا هذه اللحظة، وهل تتحول المادة كشكل طبيعي من إعادة التدوير؟.

حسنا يبدو أنَّ التحليق في السقف/ النجوم يستدعي معه تساؤلات وجودية عن ماهيتنا في هذا العالم وفي العوالم الأخرى، إلاّ أنَّ فكرة العودة الأبدية أو التكرار الأبدي موجودة في أشكال مختلفة منذ العصور القديمة، ببساطة إنَّها النظرية القائلة بـ “أنَّ الوجود يتكرر في دورة لا نهائية حيث تتحول الطاقة والمادة بمرور الوقت” هذه الفكرة اقترحها “نيتشه” باسم “العود الأبدي” وفي الفيزياء الحديثة وجدت طريقها في نظريات “الكون الدّوري المتعدد” الفكرة حقًا مرعبة!.

البحث عن نواة الفكرة:

في اليونان القديمة، ثمة أسطورة عن كوكبة “الجدي” التي تدعى باللاتينية Capricornus، وهي من كويكبات نصف الكرة الأرضية، ويشار إليه بالعربية بأنَّه برج الجدي، أحد الأبراج التي حددها عالم الفلك اليوناني “بطليموس” في القرن الثاني، تعود جذور الأسطورة إلى ثقافة سومر من حضارة بابل والتي حددتها بشخصية أسطورية في شكل هجين بشري نصفه ماعز والنصف الآخر سمكة، يربط الإغريق الكوكبة بإله الطبيعة “بريكيوس” أو (Pan) وهو مساعد “زيوس” Zeus)) في محاربة الجبابرة، ونجا بفضل قوته الخارقة وذكائه من الوحش “تايفون” بالقفز في النهر -الذي قيل أنَّه نهر الفرات- لكن كان نصف جسده فقط المغمور بالماء. عاش الجدي الحكيم مع أطفاله الكثيرين في النهر، والذي كان يحبهم حبا شديدا، لكن في أحد الأيام قرر أكبر الأبناء الخروج واستكشاف اليابسة، وتبعه باقي أخوته بالرغم من تحذيرات الأب لهم، لكن فضولهم ورغبتهم في التعرف على الطبيعة، كانت أكبر من رغبتهم في طاعة الأب، الأمر هنا أنَّه عند تعرضهم للهواء وضوء الشمس؛ فقد الأبناء قدرتهم على الكلام وتحول نصفهم السفلي الذي كان على شكل ذيل سمكة إلى أرجل جدي عادي، وفقدوا الإدراك قبل أن يضيعوا في الطبيعة الجديدة على اليابسة، وبالتالي لم يستطيعوا العودة مرة أخرى إلى النهر. وعندما أيقن الجدي الحكيم بفقد جميع أبنائه، قرر أن يستغل قدرته الخارقة في التحكم في الزمن وإرجاع الوقت عندما كان أبناؤه معه تحت النهر، وفي كل مرة يحذرهم من الصعود لليابسة.. تعود نفس الأحداث لتتكرر بنفس حذافيرها، وفي كل مرة ينفطر قلب “بريكيوس” الجدي الحكيم حزنا على أولاده[2].

كوكبة الجدي
كوكبة الجدي

يبدو أنَّ الأسطورة الإغريقية تمثّل تصور “بلانكي” عن اللانهائية، على الرغم من أنَّها قد تتناول بالأساس الجدلية بين علاقة الأب/الأم وبين الأبناء، من خلال إشكالية الرغبة المستمرة من الأبناء في الاستقلال بعيدا عن سلطة الأبوين، مقابل رغبة الآباء في بقاء الأبناء بقربهم في بيئتهم المألوفة بعيدا عن المخاطر، حيث تصوِّر لنا الأسطورة تدهور حال الأبناء عندما رحلوا بعيدا، وتحولوا من كائنات واعية إلى حيوانات مسّاقة، لكن على الجانب الآخر، ليس بالضرورة أن يكون ما حدث لهم تدهورا، بل مع تكرار الأحداث نراه تطورا بما يتناسب مع بيئتهم الجديدة كليا، بل قد تكون عملية التحول ضرورية؛ للتكيف مع البيئة الجديدة، وعلى الرغم من أنَّ الأسطورة لم توضح لنا بشكل قاطع سبب الحزن المتكرر من الأب على الأبناء، هل لأنَّهم فقدوا القدرة على العودة؟ أم لأنَّ تحوُّل صفاتهم حتّم عليهم نسيان جزء من ماضيهم؟.

نرى أنَّ هناك ارتباط وثيق بين الأسطورة وفكرة العود الأبدي، فبينما تخيل “بلانكي” أنَّ التاريخ البشري يكرر نفسه في الفضاء، تصور الفيلسوف “فريدريك نيتشه” -وهو مفكر ألماني من القرن التاسع عشر كان معروفًا بنهجه غير التقليدي في الفلسفة- فكرة التكرار الأبدي والتي تظهر في القسم قبل الأخير من كتابه (العلم المرح) التي قدمها “نيتشه” كنوع من التجربة الفكرية، التكرار مع مرور الوقت والمعروفة -أيضا- باسم “العودة الأبدية”، “نيتشه” الذي تأرجح بين العظمة والاكتئاب الشديد، افتخر بـ “اكتشاف” أنَّه هو وكل شخص آخر في العالم سيعيشون حياتهم مرة بعد مرة إلى الأبد- حسنا لم يكن هذا بالضرورة سببا للاحتفال- أفاد “نيتشه” أنَّ هذه الفكرة خطرت على باله فجأة ذات يوم في أغسطس 1881، بينما كان يتجول على طول بحيرة في سويسرا، بعد تقديم الفكرة في نهاية كتاب العلم المرح- بما فيه أنَّ التكرار الأبدي هو حقيقة مرحة يجب أن يتبناها أي شخص يعيش الحياة على أكمل وجه- جعلها أحد المفاهيم الأساسية لعمله التالي وهو كتاب “هكذا تكلم زرادشت”. و”زرادشت” هو النبي الفارسي الذي يعلن عن تعاليم نيتشه في هذا المجلد، كما أنَّ هناك قسم مخصص للفكرة في كتاب “إرادة القوة”، وهي مجموعة من الملاحظات نشرتها “إليزابيث” أخت “نيتشه” عام 1901،  وبهذه الطريقة يمكن للعلم ونوع من الفلسفة أن يتعاونا.

كان كل من “بلانكي” و”نيتشه” ماديين، حيث اعتقدا أنَّ الأفكار والمشاعر البشرية كانت نتيجة ثانوية للآليات الكيميائية، كل الأشياء تتكون أساسا من الذرات، فقد اُعتقِدَ أنَّ الدورات المادية ستؤدي حتمًا إلى تكرار الأفكار والعواطف.[3]

العلم المرح

وكما أنَّ العود الأبدي احتمال فلسفي نستطيع أن نربطه بالاحتمالات العلمية الخاصة بنشأة الكون ونهايته، فإنَّ هذه الحتمية الفلسفية تنتهي بـ “أكل ذيلها”! أما في الفيزياء النيوترونية، فالفضاء هو مسرح ثابت تتحرك فيه الأشياء، وبما أنَّ الانفجار العظيم قدم لنا احتمال آخر، وهو الانكماش العظيم والذي يفسر نهاية الكون بعد أن ينتهي من التمدد الناتج عن الانفجار العظيم، ليعود لحالته الأولى وهكذا بالضبط كـ “الأستك” المطاط تشده؛ فيتمدد، وبعد تركه يعود إلى وضعه السابق من جديد.

والسؤال هنا.. هل انكماش الطاقة سيتسبب في انفجار آخر؟ بمعنى هل سيبدأ كونٌ جديد مرة أخرى ويتمدد وينكمش بهذا الشكل إلى ما لانهاية؟ وهل في كل الأكوان التي ستبدأ وتنتهي هناك نسخة منّا تعيش وتتصرف بنفس النسخة الأولى منا، وهل ستظل مصائرنا واحدة؟ أم سنعود لنختار نفس الاختيارات ونرتكب نفس الأخطاء ونواجه نفس الأقدار؟.

أكثر من مجرد تعبير عن الحنين للماضي:

تهتم فلسفة “نيتشه” بالأسئلة المتعلقة بالحرية، والفعل، والإرادة، والقوة، عند تقديم الحتمية الفلسفية للتكرار الأبدي، لا أطلب من القارئ أن يأخذ الفكرة على أنَّها حقيقة؛ ولكن أن نسأل أنفسنا عما سنفعله إذا كانت الفكرة صحيحة،  يفترض أنَّ رد فعلنا الأول سيكون اليأس المطلق، حالة الإنسان مأساوية؛ الحياة مليئة بالمعاناة؛ تبدو فكرة أنَّه يجب على المرء أن يعيشها مرة أخرى عددا لا نهائيا من المرات أمرا فظيعا، لكن دعني أخبرك بأنَّ نظرية الأكوان المتعددة لـ “بلانكي” والعود الأبدي لـ “نيتشه” مع نظرية الـ (big bange) قد تجعل لك ردّ فعل مختلف، على الرغم من اختلاف الطرق فيها؛ فمصائرنا تظل واحدة، يوجد فرق بسيط بين الطرح الفلسفي والطرح الفيزيائي، ففي حين أنَّ حيواتِنا متوازية في نظرية الانفجار الكبير وتعدد الأكوان، فإنَّ حيواتِنا تكون متتالية في نظرية العود الأبدي، المثير في كلا الطرحين هو مدى إدراكنا للتكرار، إذا ادركنا أنَّ حياتنا تتكرر أو ستتكرر هل سيغير هذا الإدراك من منظورنا للحياة نفسها؟ هل سيعطيك هذا أملا أكثر أم سيدفعك للإحباط؟.

الحقيقة أنَّ “نيتشه” نفسه يسألنا هذا السؤال، ويجعلنا نتخيل أنَّ حياتنا التي لدينا سنظل نعيشها عددا لا نهائيا من المرات بنفس تفاصيلها ومآسيها، هل يتسبب ذلك في سعادتنا أم بؤسنا؟

وفي إجابته عن هذا السؤال يرد “نيتشه” برد فريد من نوعه، فيقول: “إنَّه يجب علينا أن نسّعد بذلك ونفرح ونستمتع بقدرنا، يرتبط هذا الفكر بالموضوع السائد في الجزء الرابع من كتابه “العلم المرح” وهو أهمية أن تكون قابلا محتضنا للحياة، وهو ما صاغه في مفهوم “حب القدر”Amor fati) ) أو حب المصير.. حسنا لنفترض أنَّه يمكننا الترحيب بالتكرار وقبوله، واحتضانه كشيء نرغب فيه؟ هذا بالضبط ما يقوله “نيتشه” وسيكون التعبير النهائي عن موقف تأكيد الحياة، والرغبة في هذه الحياة، بكل ألمها وضجرها وإحباطها، مرارا وتكرارا.

هذه -أيضا- هي الطريقة التي يتم بها تقديم الفكرة في كتاب “نيتشه” “هكذا تكلم زرادشت”، إنَّ قدرة زرادشت على احتضان التكرار الأبدي؛ هي التعبير النهائي عن حبه للحياة، ورغبته في البقاء “مخلِّصًا للأرض”، ربما يكون هذا هو رد “الإنسان الأعلى أو الإنسان المتفوق” أو “Overman” الذي توقعه “زرادشت” كنوع أعلى من البشر.

قد تكون وجهة نظر “نيتشه” عن حب القدر المكرر، حتى لو كان سيئا، هو التخلي عن الأمل في التغيير والخلاص الذي قد يكون سبب بؤسنا في المقام الأول، ففي كل مرة تنام وأنت مهموم وتستيقظ على أمل أن تجد ما تحلم به لم يتحقق، سيكون همّك عندئذ قد تضاعف أضعافًا مضاعفة، لكنَّ حب القدر سيجعلنا ندرك أنَّ الحزن وكسرة القلب ليسا بسبب الأمل في حد ذاته؛ بل بسبب الأمل الخدّاع المزيف، بالتالي سيغلق حب القدر هذا الأمل وبالتالي الندم، لأنَّك عندما تتخلى عن الأمل ستتوقف عن لوم نفسك، ولوم اختياراتك السابقة وستدرك في النهاية أنَّ جميعها متساوية، هذه النهاية تمثل السمو الرمزي الذي يتحدث عنه “نيتشه” حين تسمو وترى الصورة كاملة وتدرك أنَّه مهما فعلت لا تستطيع تغيير شيء عدا رؤيتك لنفسك وللكون.

[1] https://blanqui.kingston.ac.uk/texts/eternity-by-the-stars-1872/

[2] http://www.ianridpath.com/startales/capricornus.html

[3] Dugas, Micah. “Nietzsche’s Eternal Recurrence as a Psychological Test of Action.” Episteme 19.1 (2008): 2.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock