قد يكون فيلم «صاحب المقام» للمخرج محمد العدل أول فيلم مصري يعرض على إحدى المنصات الرقمية قبل طرحه بدور العرض السينمائية، ولكنه حتما لن يكون الأخير، ليس فقط بسبب «الجائحة» التي ساهمت في إنتشار هذه المنصات بسبب الحظر المنزلي، ولكن لقدرة هذه الوسائط الإلكترونية علي اجتذاب جمهور عريض ومنذ فترة، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم كله رغم تعدد واختلاف الأسباب التي دفعت بهذا الجمهور العريض للالتفاف حول هذه المنصات أو الوسائط الإلكترونية على اختلافها وتنوعها، وشراسة المنافسة بينها، سواء كانت مجانية أو مدفوعة الأجر، بدليل أن بعض هذه المنصات لم يكتف بشراء حق عرض أحدث الإنتاجات السينمائية حصريا ولكنها خاضت وبنجاح تجربة الإنتاج، ما قد يشجع غيرها بالطبع .
الأمر الذي يجعلنا نسأل عن مصير دور العرض السينمائية وهل يمكن أن تصمد في وجه مستجدات العصر وعالم المنافسة الترفيهية خصوصا في ظل الأزمات الاقتصادية وارتفاع الأسعار ومن بينها تذكرة السينما، بتعبير أدق هل ما فرضته الجائحة قد يشكل يوما ما بديلا مستداما ومن ثم وداعا لطقس المشاهدة السينمائية حيث تتلاشى المسافة بين الشاشة ومقاعد المتفرجين؟ أم ستتمكن دور العرض من استعادة عافيتها مرة أخرى كما حدث سلفا بعد ظهور أجهزة الفيديو المنزلية في ثمانينيات القرن الماضي، فرغم كل ما تردد حينها عن «انقراض» دور العرض السينمائية، وانصراف المشاهد عنها، إلا أنها ومع الوقت تابعت مهمتها وانتصر في النهاية سحر السينما.
إحدى مشاهد الفيلم الإيطالي سينما بارديسو الذي يتجسد فيه عشق صالات السينما
متغيرات
التخوفات لا يمكن تجاهلها أو انكارها كما عبر عنها عدد كبير من العاملين بصناعة السينما وفي مختلف المجالات فمثلا الناقد الشاب أندرو محسن كتب عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي «facebook» معلقا على الإعلان الجديد لفيلم “The Batman” والذي ينتهي بجملة Only in Cinemas بأن هذه العبارة «المعتادة» لم تعد حقيقة مؤكده هذه الأيام، في إشارة لظهور منصات عدة و وسائل مشاهده أخرى بعيدة عن دور العرض، وهو نفس ما أكده أيضا الناقد الشاب رامي عبد الرازق مشيرا لأن هذه العبارة لم تستوقف أحد فيما سبق بوصفها حقيقة لم تقبل يوما الجدل أو الشك، لكنها الأن لم تعد كذلك ” للأسف ” وفقا لوصفه.
الإيمان بتغيرات الزمن إلى حد اليقين عبر عنه الفنان أحمد أمين من خلال «رهان » بينه و بين المخرج عمرو سلامه كشف عن تفاصيله الاخير عبر احدي التغريدات على موقع التواصل twitter ففي الوقت الذي يري فيه أمين أن دور العرض ستكتب نهايتها بعد سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، في إشارة للتحولات التي يشهدها «طقس الفرجة» في ظل تنامي المنصات الرقمية وارتفاع نسب الاقبال عليها ، فإن سلامة وعدد لا يستهان به من المتفاعلين مع التغريدة لازالوا يؤمنون بأن أفلام السينما مكانها «القاعات » بتجربتها البصرية و الصوتية رغم اقتناع البعض ومن بينهم سلامه بأن هناك «أفلام بديلة» كثيرة ربما ترى النور بسبب هذه المنصات.
شراسة المنافسة
المنصات الرقمية باتت حقيقة لا تقبل الجدل ومجاراة التطور يفرض علي الجميع من أهل الصناعة إيجاد حلول تسمح لهم بالبقاء في ظل منافسه شرسه بالطبع ، خصوصا و أن بعض هذه المنصات خاضت بالفعل تجربة الإنتاج مثل شبكة Netflix التي أقدمت مثلا على إنتاج فيلم The Irishman للمخرج مارتن سكورسيزي إضافة لأعمال درامية أخرى نالت قبولا جماهيريا عريضا على مستوى العالم
إلا أن تمسك البعض بالحفاظ على صناعة السينما في العالم كله وليس في مصر فحسب دفع هذه المنصة رغم كل ما تتمتع به من جماهيرية للقبول بتأجيل عرض فيلمها «روما» حصريا على منصتها خضوعا لشروط الترشح للأوسكار والتي تتطلب العرض السينمائي ولمدة لا تقل عن 90 يوما قبل عرض النسخة الرقمية، ورغم فوز الفيلم بجائزة أفضل مخرج وأفضل فيلم بلغة أجنبية لكنه خسر جائزة التصوير لعدم تحقيق حدا أدنى من الإيرادات بشباك التذاكر.
نفس الأمر تكرر مع فيلم «الإيرلندي» أو The Irishman الذي لم يدخل مولد الأوسكار من الأساس رغم امتلاكه كل عوامل النجاح من حبكه دراميه تصدى لها عمالقة التمثيل في هوليود ( آل باتشينو وروبرت دي نيرو) بتوقيع المخرج سكورسيزي، وكل ذلك بسبب رفض منصة Netflix طرح الفيلم بدور العرض علي الرغم من تكلفته الإنتاجية المرتفعة و التي قدرت بأكثر من 150 مليون دولار نظرا لاستخدام مخرجه تقنية تعديل السن رقميا، تلك التكلفة التي كان بالإمكان الحصول عليها و أكثر منها لو طرح الفيلم للعرض السينمائي على مستوى العالم، الغريب أن شبكة Netflix كانت قد نجحت في الاستحواذ على واحدة من أقدم الصالات في نيويورك لتعرض عليها إنتاجها ، ومع ذلك طرحت الفيلم على منصتها من دون عرض سينمائي.
جدير بالذكر أن أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية التي تمنح جوائز الأوسكار ليست الوحيدة التي رفضت إنتاجات Netflix السينمائية، فالمهرجان الأشهر«كان» هو الأخر رفضها و لنفس السبب، ما يشير لحرص هذه الكيانات السينمائية الشهيرة للحفاظ على صناعة السينما عالميا وليس فقط محليا، لإدراكها خطر توقف العرض السينمائي في دوران عجلة الإنتاج.
صمود
هل تسعى هذه المنصات لتغيير ثقافة المشاهدة، خصوصا وأن معظم جمهورها من الأجيال الجديدة؟
الناقدة السينمائية ماجدة خير الله لا تنكر حرص كل جهة على اجتذاب أكبر قاعدة جماهيرية في ظل مشروعية المنافسة الترفيهية، كما تعترف بقدرة بعض هذه المنصات على تغيير ثقافة المشاهدة لدي قاعدة جماهيرية عريضة خصوصا في ظل تعثر القنوات الفضائية وفشلها في تقديم محتوى ترفيهي مميز، إلا أنه وعلى الرغم من تلك الانتصارات التي حققتها هذه المنصات وغيرها ستبقي القاعات السينمائية حاضرة، و لن تختفي رغم كل الصعوبات التي قد تعرقل الصناعة أو تعيق عجلة الإنتاج، مشيرة لأنه على مدى تاريخ السينما مرت بعثرات ربما أبرزها ظهور أجهزة الفيديو ما دفع الجهات المختصة حينها لاشتراط عرض الأفلام بالصالات قبل تداولها عبر أجهزة الفيديو الأمر الذي حمى الصناعة إلى حد بعيد.
مرة أخرى تؤكد خير الله أن طرح الأفلام عبر المنصات لن يلغي طقس الفرجة في الصالات بكل ما يحمله من متعة، مشيرة لأن الذهاب للسينما سيظل بمثابة «النزهة» المحببة لأي عائلة أو مجموعة أصدقاء رغم أي أزمات إقتصادية، يضاف لذلك أن هذه المنصات على تعددها لا يمكنها شراء كل الإنتاجات بما يعوض صناعها، ما يعني أن العدد الأبرز من الأفلام حتما ستعرف طريقها للصالات نظرا لتكلفتها الإنتاجية الباهظة.
وعليه ترجع خير الله عرض «صاحب المقام» عبر إحدى المنصات لظروف الجائحة التي يعاني منها العالم كله وكانت سببا في تعثر الكثير من الصناعات في مختلف المجالات وليس فقط صناعة السينما، في إشارة لضرورة تحريك رأس المال، خصوصا وأن الفيلم تسمح طبيعته بالعرض الالكتروني، بعكس أفلام أخرى لن يضحي صناعها بطرحها في الصالات لما تحققه من أرباح تغطي التكاليف وتسمح بدوران عجلة الإنتاج .
نفس المقولات أكدها المنتج محمد العدل والذي أعرب عن تفهمه ظروف عرض«صاحب المقام» الكترونيا، والتي قد تدفع أفلاما أخرى لخوض نفس التجربة، لكنه يراهن على قدرة القاعات السينمائية على استعادة قدرتها على الصمود في ظل هذه المتغيرات، نظرا لخصوصية متعة المشاهدة داخل دار العرض.