يقول ماريو فارغاس: لم أكتب شيئا لم يكن مُتعلقًا بحياتي،؟ فهذه هي الموضوعات التي تحفزني، الأشياء التي تحدث لي تجارب معينة تلامسني بعمق في عقلي الباطني، وهذا بالضبط يشبه نجيب محفوظ .
كلاهما متحصل على نفس الجائزة”نوبل” وبالتقريب كلاهما امتد عمرهما لفوق ال ٨٠ عاما، نجيبنا والمحفوظ في ذاكرة الأمة العربية، والذي نال شهرته وذيوعه نتيجة ما أنجزه للرواية العربية من أعمال إبداعية ستبقى وتظل كثيرا لما تحتويه من افكار ورؤى وأسئلة تأخذ طابع الاستمرارية،متجددة من داخلها، وتأتي الثلاثية ” بين القصرين، قصر الشوق، السكرية ” العمل الأشهر والأكثر ذيوعا، حيث عملت الرواية بتاريخها الممتد الذى وثق بطريقة فنية للقاهرة منذ بداية القرن العشرين وحتى منتصفه على تأكيد عبقرية نجيب محفوظ وتميزه وغيرها من الأعمال الروائية التى نالت ذيوعها وانتشارها نتيجة ما قدمته من انقلاب على كل ما هو عادي وعابر “نموذج الحرافيش وأولاد حارتنا” بعد 12 عاما من رحيل نجيب محفوظ في 30 اغسطس 2006 ، نتناول ما قدمه للأجيال الجديدة عبر شهاداتهم.
هوية مصر
يشير الكاتب الصحفي مصطفي عبادة أن أول كتاب، والوحيد، الذى ترجمه نجيب محفوظ كان عنوانه «مصر القديمة» للمؤلف جيمس بيكى، سنة 1932م، وكان فى السنة الأولى من كلية الآداب، وهو كتاب يتحدث عن تاريخ مصر الفرعونى فى لمحات بسيطة تناولت وصفا للعاصمة طيبة، والمعابد والمقابر، وطريقة الاعتناء بالأطفال، وبعض المعارك، ورغبة الأمراء والتجار فى تسجيل كل ما يقومون به، بنقشه على المعابد، فعل ذلك نجيب محفوظ، فى وجه الاحتلال البريطانى، فبعد ثمانى سنوات من ميلاد نجيب محفوظ، اشتعلت ثورة 1919، وكان نجيب الطفل قد وقع على توكيل لسعد زغلول، ويروى الحكاية لإبراهيم عبد العزيز فى مذكراته «أنا نجيب محفوظ.
ويلفت عبادة إلى انه في ثلاثينيات القرن الفائت، ماجت مصر بالآراء حول انتماء مصر الجغرافى والحضارى، بين قائل بعروبتها، ومناد بشرق أوسطيتها، كطه حسين فى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» حين قال: «إن العقل المصرى منذ عصوره الأولى وإن تأثر بشىء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها، فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط التى عاشت حول بحر الروم»، وبين من قال بفرعونية مصر، ولقيت الدعوة إلى الفرعونية صدى واسعا، على مستوى النخبة، لكن محفوظ، ترك النقاش دائرا، والمعركة محتدمة، لا غالب فيها ولا مغلوب، ولم يصبح صاحب أى فكرة ذا أغلبية بين المصريين، وظل النقاش يدور فى الأعلى، وهنا كان نجيب محفوظ، يتوجه إلى العمق، إلى الجماهير، فنقل المعركة إلى أرضها «أرض الجماهير»، حين أخرج روايته الفرعونية الأولى «عبث الأقدار» عام 1939، ثم أتبعها رادوبيس عام 1943، وختمها بـ «كفاح طيبة»، عام 1944، عقد كامل خصصه محفوظ لرأيه فى المعركة، دون أن يشترك فى نخبويتها، ثلاث روايات قال بها رأيه، مع فرعونية مصر، استفزت المعركة حول «هوية مصر»، الأديب محفوظ، فانحاز وذكر ووضع العصور الفرعونية، فى قلب الوجدان المصرى، قصص الحب لدى الفراعنة، وقسوة الأقدار والكفاح ضد الأعداء، الذى استغرق أغلب العصر الفرعونى، وكنا وقت كتابة «كفاح طيبة»، نرزح تحت الاحتلال البريطانى، وهى مع رادوبيس، وعبث الأقدار، تستلهم التاريخ الفرعونى، وتأثر فيها بالتيار الفرعونى، الذى اتجه إليه كثيرا من المصريين، فى ذلك الوقت كرد فعل، للنفوذ البريطانى، وكانت «كفاح طيبة»، تتناول كفاح الشعب المصرى ضد احتلال الهكسوس، وكأنما نجيب محفوظ يذكر بذلك الشعب المصرى بما فعله أجدادهم من قبل مع احتلال مماثل، وكان هذا هو موقف الرجل من الاحتلال البريطانى.
الخلطة السرية لمعنى الإنسانية
تؤكد الروائية نهى صبحي أنها قرأت للعديد من الكتاب العرب لكن أعمال الأديب ( نجيب محفوظ ) كانت من أهم أسباب تطوير أدواتي ، وعلى الرغم من شدة إعجابي به ومن المؤكد أنني تعلمت الكثير منه إلا أنني كنت أطمح دائما للتغيير وصناعة هويتي الخاصة والمختلفة ليست المخالفة، وهذا الشعور الذي كان يترسخ بداخلي كلما تعمقت في أعمال (نجيب محفوظ ) الأدبية دفعني إلى هذا الجنون والتمرد على المعتاد وعلى مسميات الأعمال الأدبية المتعارف عليها وذلك ما لامسته في أعماله وهو يفتح تلك الأبواب الموصدة بثقه وثبات دون أن يهتز من صريرها، فعلى سبيل المثال، أصداء السيرة الذاتية رائعة الأديب ( نجيب محفوظ ) من أجمل ما قرأت، ولقد ساعدني هذا الكتاب في صياغة الشكل الصحيح للقصة الومضة وفن التكثيف وجمالة، و كيف أقدم تلك الوجبة الخفيفة والمشبعة في نفس الوقت، مما ساعدني على تطوير أدواتي بالتأكيد، و أيقنت جيدا بعد أن قرأتها أن الكاتب لديه القدرة على إجادة جميع أنواع الكتابات الأدبيه بكل أشكالها وباحترافية بعد خوض عدة تجارب ويستطع أن يتمكن من أدواته وبعد تمرسه و قرآته المتعددة ، ينتقل إلى الإحترافية الأدبية بسهولة في حال كان يمتلك الموهبة الحقيقية والتي تتخطي حدود القصة الومضة فقط، فكتابات الأديب الكبير (نجيب محفوظ ) ستظل شمسا تضيء أركان الأدب العربي على جميع المستويات وعلى مر الأزمنة .
وتلفت إلى أنه في أعماله الأدبية تجد نفسك متخبطا بين تلك العادات والتقاليد الراسخة بين السطور حتى تسقط في الوحل وحين يصل الوحل إلى عنقك، يخرجك بخفة ورشاقة ويستفزك للتمرد والجنون .
تلك المجلدات الضخمة و التي تحمل اسم الأديب المصري ( نجيب محفوظ ) على أغلفتها بماء الذهب تخفي بين طياتها، ممرات ضيقة وطرق واسعة، بيوت من الطين اللبن وناطحات سحاب، أحياء شعبية وشوارع وساحات فخمة، خبز يابس، وحلوى فاخرة، رائحة العرق والطين، ورائحة العطور والجلود، تحمل طغاة ومساكين، وأسيادا وعبيد، ذنوب البشر وخطاياهم ومحاكمة القدر ….هذا هو تماما ما شربته من كأس( نجيب محفوظ) خلطة الإنسانية السرية وكيفية تشريح النفس البشرية والأعراف، وأن هذا المشهد الكامل لن تراه من أسطح البنايات العالية، وإنما من داخل الملحة.
أولاد حارتنا
تؤكد الروائية نهلة عبد السلام أن أكتر ما يميز أدب نجيب محفوظ هو الصدق.. كتب عن حيوات يعرفها وطبقات ينتمى إليها وشخصيات خالطها، القدرة على خلق علاقة ما بين القارئ وشخوص رسمها بحرفية حتى تخالها على صلة قرابة بك أو صداقة أو جيرة، تتعاطف مع أنماط مغايرة لقناعاتك وتلتمس لها عوضاً عن العذر سبعين عذرا، لا لشئ سوى كشف جوانب ضعفها ونقاءها.. زلاتها وجلدها ذاتها.. التأكيد على ما نتشارك فيه كلنا كآدميين مما يجعل قبولنا لتبادل المقاعد معهم واردا بلا تعالي أو غرور يضعنا بخانة المعصومين، وأعتقد أن اعتمادى لمبدأ الكتابة عما أعرف مرجعه تفاعلى مع روايات كمثل الثلاثية والتى يقال أن أبطالها حقيقيون بل وينتمون لعائلة محفوظ.
وتشير إلى أن التعارف الأول مع نجيب محفوظ كان فى مرحلة الإعدادى.. ولأن الإلزام يجهض فرصة القراءة على مهل لذلك تعاملت مع رواية “كفاح طيبة” بنظام البلع دون مضغ وتذوق، وجاء التعارف الحقيقى مع مرحلة الثانوى ونشر جريدة قومية لرواية “أولاد حارتنا” فى ملحق خاص اشتراه واحد من أقاربى.. وحتى هذه اللحظة لم أجد تفسيرا لكونه أهدانى أنا بالذات إياه قائلاً “أول ما جبته قولت ده مينفعش إلا نهلة” برغم إنه لم يسبق وتحدثت فى حضوره عن غرامى بقراءة كل ما يُتاح لي حتى وإن كانت صفحة جريدة أُستخدمت كلفافة لطعام أو ملبس.. المهم همت بسرد محفوظ وبساطته وسلاسته وحلاوته وطلاوته..
صرت من بعدها أحرص على التقاط اسم الرواية المأخوذ عنها الفيلم من التتر.. ولأن محفوظ له نصيب الأسد من السينما فتلقائياً تكونت لدى قائمة بكثير من أعماله..
الصدفة هى ما جعلت محفوظ أول من أعكف على قراءة عدد لا بأس به من إنتاجه بالاستعارة من المكتبات العامة أو بالشراء مما وفره مشروع القراءة للجميع بأثمان زهيدة، وخلافاً لمثل “أول بخت ميتعوضش” جاءت ملحمة “الحرافيش” لتحتل مكانة لا ينازعها فيها عمل آخر.
أصداء السيرة الذاتية مفتاح للاعتراف بالقصة القصيرة جدا
يؤكد القاص محمد الحديني على ان نجيب محفوظ هو أهم روائي مصري وعربي حتى تاريخه كما أنه تعدى هذين النطاقين ليصل إلى العالمية بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب وهي أرفع جائزة أدبية في العالم، كما كان لترجمة معظم أعماله للعديد من اللغات دور كبير في تعريف القاريء غير العربي بالواقعين المصري والعربي.
ويلفت الحديني إلى أنه تعرف على أدب نجيب محفوظ في مرحلة دراستي الثانوية عندما درست له رواية كفاح طيبة، وبعدها بدأت في قراءة أعمال كثيرة له كان والدي رحمة الله تعالى عليه يحتفظ بها في مكتبتنا المنزلية وأيضا كنت أشتري أعمالا أخرى له من حين لآخر.
لا أظن أن هناك كاتب استطاع أن يصور ويرصد الواقع المصري ويربطه بقضايا وجودية وسياسية وفلسفية مثلما فعل نجيب محفوظ في رواياته الورقية وأيضا في أعماله التي إما كتبها أو أخذت عنه للشاشة الفضية.
كان يكتب بلغة بسيطة وعذبة مكنته من تمرير أفكاره بمنتهى السلاسة والبراعة ولذلك نجحت في اجتذاب القراء بمختلف ثقافاتهم ومرجعيتهم العلمية.
وعلى المستوى الشخصي، ككاتب للقصة القصيرة جدا لا يمكن أبدا أن أنكر أن اللغط الكبير الذي أثير حول القصة القصيرة جدا كجنس أدبي يبحث عن مكانة بين باقي الأجناس الأدبية قد انتهى بظهور كتابي ( أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة) وهما من ضمن آخر ما نُشر لهذا الأديب العظيم، حيث مثلا خلاصة تجربته في الحياة كإنسان وكاتب. وتنتمي الكثير من نصوص هذين الكتابين للقصة القصيرة جدا بما فيهما من تكثيف وحذف وإضمار وترميز وإحالة وإيقاع لاهث ينتهي بالقفلة الصادمة وكل ذلك يتم توظيفه في إطار بديع من السرد المختزل..