كلما أهل العاشر من شهر المحرم، الشهر الأول من السنة الهجرية، وتحديداً يوم العاشر من ذلك الشهر، استرجع المسلمون، سنة وشيعة على حد سواء ذكرى كربلاء، تلك الملحمة التاريخية التي أسفرت عن استشهاد الامام الحسين بن علي، سبط النبي الكريم.
وبعيداً عن الاختلافات المذهبية، يتفق كلا الطرفين على الوقائع التاريخية لذلك اليوم المشهود، وملخصها ان سبط النبي خرج من مكة الى أرض العراق تلبية لنداء وصله من اهلها يطالبونه بالمجئ ليقود ثورتهم ضد يزيد بن معاويه،أول حاكم يصل الى سدة الخلافة بالتوريث لا باختيار الامة وشورويتها وما ان وصل الحسين الى ارض الطف بالعراق (كربلاء) حتى وجد من راسلوه قد تخلوا عنه ولم يبق معه سوى سبعين فقط من أهل بيته وانصاره وصحبه في مواجهة جيش يزيد الجرار الذي كان يقدر بالآلاف.
ثبت الحسين على موقفه الرافض لمبايعة يزيد رغم مشاهدته أهل بيته وهم ينالون الشهاده واحداً تلو الآخر، باستثناء ولده علي زين العابدين الذي أقعده المرض عن المشاركة في القتال، وحين أدرك الحسين ان الشهاده باتت قاب قوسين أو ادنى منه قال جملته التي باتت مثلاً “إن كان دين محمد لم يستقم الا بقتلي، فيا سيوف خذيني”.
ظل دم الحسين لعنه تطارد قاتليه، أخفق مشروع التوريث الذي حلم به يزيد والذي لم تزد مدة ولايته عن سنوات أربع وفشل في جعل الخلافة في نسله بعد أن تنازل ولده معاوية الثاني عنها، فتوالت الثورات ضد الحكم الوراثي بداية من ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد ثم ثورة المختار الثقفي الذي انتقم من قتلة الحسين واحداً تلو الاخر ثم كانت انتفاضة بني العباس التي أنهت حكم بني أمية برمته والتي اتخذت من السواد -رمز الحزن على الحسين – شعاراً وعلماً.
اما في مصر فاحيا المصريون ذكر الحسين وال بيته الكرام بشكل مختلف، حيث اضفى المصريون المحبون بالفطرة والسليقة لآل بيت رسول الله (صلعم) صفات البطل الشعبي كما تصوره السير والقصص والملاحم على الحسين و نسجوا حول استشهاده وقصة وصول رأسه الطاهر إلى أرض المحروسة – وهي القصة التي لا زالت موضع جدل وخلاف بين المؤرخين- عشرات الاساطير وفي مقدمتها قصه “ام الغلام” تلك المرأة التي لا يعرف التاريخ لها اسماً محدداً والتي حفظت راس الحسين من جند بني أمية واتت بها الى مصر.
وتفنن الشعراء في كتابة القصائد التي تعبر عن فرحه اهل مصر بوجود الحسين في أرض المحروسة والتي صارت بعضها جزاً لا يتجزأ من التراث الشعبي الإنشادي مثل قصيدة “نحن في ساحة الحسين نزلنا” والتي تقول بعض أبياتها:
“رحمة الله للبرية عطاها *** من قرن ذاته بذاته واصطفاها
يثرب شرفت بهجرة طه *** يا هنا مصر يوم جاء حسينا”
وصار مقام الحسين في الحي الذي حمل اسمه في قلب القاهرة الفاطمية مكاناً يؤمه البسطاء القادمين من كافة ارجاء المحروسة والذي ينادون سبط النبي بنداء “قطب الرجال يا حسين”.
https://www.youtube.com/watch?v=XaOnf9maSDg&feature=emb_title
لم تكن قصة الامام الحسين مصدر إلهام للبسطاء فقط وإنما أقبل عليها مبدعو مصر ينهلون منها ويصوغون منها أعمال فنية عدة، لعل في مقدمتها مسرحيتي “الحسين ثائراً ” و”الحسين شهيداً” للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي والتي منع الازهر عرضها على خشبة المسرح القومي مطلع السبعينات بعد ان دمجهما في عرض واحد المبدع الراحل كرم مطاوع ولازال المنع مستمرا الي اليوم .
اللافت ان الشرقاوي قدم الحسين في مسرحيته لا بصفته الدينيه – إذا صح التعبير- وانما استوحى صورة الحسين كما أبدعها الخيال الشعبي : ثائر ضد الظلم لا يخشى في الحق لومة لائم ولا يبالي بخطر الموت الداهم طالما أنه يطالب بحق الامه المستلب.
يدرك الحسين تماماً في نص الشرقاوي قيمه الكلمه فيرفض ان يمنح الطغاة تلك الكلمة أو أن يضفي على حكمهم أي قدر من الشرعية بمبايعتهم ويؤكد في حوار صاغه الشرقاوي في شكل قصيدة شعرية:
“أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة لو تعرف حرمه
زاد مزخور
الكلمة نور
و بعض الكلمات قبور
وبعض الكلمات قلاع شامخة
يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان بين نبيّ و بغيّ
بالكلمة تنكشف الغُمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات
وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو كلمة”
ومع مجيء العاشر من المحرم هذا العام، ومع إحياء ذكرى عاشوراء في أكثر من قطر، لا يملك المرء سوى أن يطرح سوالاً : هل يمكن ان تكون ذكرى الامام حسين بن علي واستشهاده من اجل الدولة العادلة التي تقوم علي الاختيار والرضا العام اساساً او قاعده تجتمع عليها الأمة متجاوزة خلافاتها المذهبية؟