الجدل بين دعاة الإصلاح ودعاة الجمود في الأزهر الشريف ليس بالأمر الجديد ، فهو جدل ممتد فى التاريخ المصري الحديث وكان له تاثير كبير على تطوير الخطاب الديني الإسلامي في العديد من المسائل الشرعية والفقهية. وكان العالم الأزهري المجدد الشيخ عبد المتعال الصعيدي ( 1894 – 1966 ) علي وعي كبير بأهمية إصلاح الأزهر ، وهو ما يفسر تخصيصه العديد من كتبه لبحث هذا الموضوع، فضلاً عن تناوله للقضية في أجزاء أخرى متناثرة من كتبه، وهو ما يؤكد مركزية الإصلاح في فكر الصعيدي، حيث رأى أن التعليم في الأزهر لا يساير حركة الاجتماع، وأن المؤسسات التعليمية التي تركز في تعليمها على علوم الدنيا قد حصل خريجيها على مكانة هامة في المجتمع وبالمقابل تراجع دور خريجي الأزهر في الحياة العامة، هذا فضلاً عن التخلف الواضح في طريقة التعليم الديني السائدة داخل أروقة الأزهر.
الأشعرية: الحقيقة المطلقة والجمود المذهبي
شخص الشيخ الصعيدي أسباب الجمود في الأزهر الشريف، وهي أسباب مازالت قائمة إلى الآن، وهي تحتاج إلى تأمل عميق ،لأنها تدين – في الواقع – ما يتباهى به الأزهر . يؤمن الصعيدي بأن جمود الفكر داخل الأزهر الشريف قد أسهم في ترسيخ عجز المؤسسة العريقة عن تطوير نفسها، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره، حيث يرى أن سيادة العقيدة الأشعرية كعقيدة سنية بالأزهر الشريف أحد الأسباب الرئيسية لهذا الجمود، حيث ترسخ بعض كتب الأشاعرة للجمود المذهبي، كما أنها تقصى باقي المذاهب الإسلامية في العقيدة باعتبار أنها وحدها العقيدة التي تملك الصدق المطلق، والحق المبين، وما عداها على باطل، وفي ذلك يقول الصعيدي: “وأول هذه الأسباب التقيد في العقائد بمذهب الأشعرية، فيتربى الطلاب في الأزهر على الجمود على هذه العقيدة، وتأخذهم كتب التوحيد بالتعصب بها … هذا الجمود على عقيدة الأشعري يجعل بعض الأزهريين لا يطيقون أن يروا مخالفاً لأنهم يرون أن كل من يخالفها فاسق آثم، مع أن في العقائد مسائل كثيرة فيها مجال للاجتهاد، ويجب أن نعذر من يجتهد فيها فيخطئ في اجتهاده” .
وإذا كان الصعيدي يعتبر التقيد بالمذهب الأشعري أول أسباب الجمود في الأزهر، فإنه يرى أن تقيد الأزهر بالمذاهب الفقهية الأربعة ثاني أسباب الجمود في الأزهر، وذلك لأن الفقه هنا يقتصر فقط على الاجتهاد السني وحده، ولا ينفتح على اجتهادات بقية المذاهب الأخرى ، فكان الصعيدي من دعاة الانفتاح على كل الاجتهادات الفقهية لدى كل الفرق الإسلامية والاستفادة من هذه الاجتهادات، فيقول الصعيدي: “إن ثاني أسباب الجمود التقيد في الفروع بالمذاهب الأربعة المشهورة فيتربى الطلاب في الأزهر على الجمود عليها أيضاً، مع أن هناك مذاهب فقهية غيرها، قد يكون فيها من الأحكام ما يكون أصح للعمل بها منها، ولكن الأزهريين يدعون أنه قد انعقد الإجماع على العمل بهذه المذاهب الأربعة دون غيرها، فيجب الاقتصار عليها وحدها، وهذه الدعوة باطلة لأن المذاهب الفقهية (الأخرى) غير المذاهب الأربعة ما يزال معمولاً بها “.
تقييد الاجتهاد بالقانون
ويرى الصعيدي أن من الأسباب الأخرى لجمود الأزهر وجود تشريعات فيه بعقوبات تقيد حرية العقل، وحرية التفكير ،وتقيد الرأي المخالف تحت مسمى الحفاظ على شرف العلم والدين فيقول أن من أسباب الجمود أخذ العلماء بعقوبات على أمور غير محددة، فقد جاء في باب العقوبات في قانون رقم (10) لسنة 911 ، وسنة 1929 أن من يرتكب أمراً يخل بالنظام أو المروءة أو بشرف العلم والدين، أو يقع منه ما لا يناسب وصف العالمية يعاقب بقطع راتبه أو العزل من الوظيفة أو تنزيله إلى درجة أقل من درجته، والذي يخل بشرف العلم أو لا يناسب وصف العالمية غير محدود، وأهل الأزهر معرفون بشدة محافظتهم، وكثيراً ما يرون أمور تدخل في ذلك ، مع أنه لا شيء فيها عند غيرهم والحق أن الأزهر قام بمعاقبة الشيخ الصعيدي نفسه بمثل هذه المواد من القوانين حين قدم اجتهاده المميز في قضية الحدود ، حيث تم تكييل الاتهامات له في عريضة كبيرة ، وبناء عليها عزل من مناصبه وأعيد للإشراف على التعليم في الجامع الأحمدي بطنطا، ثم خصم جزء من راتبه.
تقديس السلف
ولعل أهم الأسباب الأخرى التي طرحها الصعيدي حول جمود الأزهر وتخلفه هو نفسه أهم أسباب إعاقة تطوير الفكر الديني هو تقديس الأسلاف وعلومهم، وتقديس اجتهاداتهم بالحد الذي يعجز معه أي معاصر عن السعي نحو تقديم اجتهاد حقيقي نتيجة لتغير حركة الزمن، وتطور حركة المجتمع ، وتغير المستجدات المعاصرة، في حين أن الشيوخ على اختلاف طوائفهم لكل منهم مقدساته، فالسلف يقدسون أعمال ابن حنبل وابن تيمية، وابن عبد الوهاب، والأشاعرة يقدسون أعمال الأشعري ورموز المذهب، والشافعية يقدسون الشافعي ورموزهم ويؤلفون حول “طبقات الشافعية”، وهكذا كان تقديس القدماء أحد أهم الأسباب المعيقة لتطور الفكر الديني. يقول الصعيدي:” إن من أسباب الجمود المبالغة في تقديس الأسلاف وعلومهم ، فالأسلاف عند أهل الأزهر أعلى من يؤخذوا بنقد، وعلومهم لا يذكر بجانبها علوم غيرهم، ولا يمكن أن يسمح الزمان بمثلهم وبمثل علومهم، ولاشك أن تقديس الأسلاف وعلومهم إنما يعكس مدى استقالة العقل والتفكير بين بعض علماء الأزهر حيث منحوا السلف الحق أن يفكروا بديلاً عنهم ، بدعوي قفل أبواب الاجتهاد أمام العلماء، والتي هي حق أصيل لكل عالم حتى نربط الدين بتطور المجتمع، وضرورة تطوير الفكر الديني بما يوافق تطور حالة المجتمع.
التجديد .. مهمة الأزهر دون غيره
مر ما يقرب من قرن على اجتهادات الصعيدي حول أسباب الجمود في الأزهر، ومازالت هذه الأسباب قائمة في أورقة الأزهر، وكان الصعيدي حريصاً على الدعوة إلى ضرورة تفكيك مثل هذ الأسباب حتى نهيئ فضاء الأزهر لمهمة التجديد والإصلاح التي لا يمكن لغيره القيام بها، فيقول: “يجب أن يُقضى على هذه الأسباب التي أدت بنا إلى ذلك الجمود العلمي والديني، لنفسح عقول أهل الأزهر للبحث والنقد، ولا نقابل كل رأي جديد بالإنكار والاعتراض، ويكون هذا بأن نطلق لهم الحرية في اختلاف الفرق الإسلامية، وفي اختلاف المذاهب الفقهية في الفروع ، وبأن لا يكون عليهم مثل تلك العقوبات التي تحدد حريتهم، وتجعل للرؤساء سلطة واسعة عليهم، وبأن نقتصد في تقديس أسلافنا، ولا نهاب الأخذ بالنقد النزيه، ووضع علومهم موضع البحث والتمحيص”.