رؤى

التأزم السياسي العربي.. من عبء الجغرافيا والتاريخ لأزمة الإنسان والثقافة

يعتصرني الألم من ذلك المشهد التاريخي مما حدث بعد تداعيات الربيع العربي، من أن سقوط الحاكم كان معناه سقوط الدولة في اليمن وليبيا وسوريا ، وكنت أتساءل ما هي جذور الأزمة؟ وفي إطار هذا التساؤل، وجدتني أبحث في كافة كتابات الفكر العربي الحديث عن تحليل واضح للأزمة وقد استوقفني مشروع المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في محاولته للبحث عن جذور الأزمة، فحين ألفا لأنصاري كتابه “تجديد النهضة” ودعا فيه إلي ضرورة توظيف ابن خلدون في قراءة الواقع العربي، وبالفعل استطاع الأنصاري أن يوظف ابن خلدون في كتابه الرائع “التأزم السياسي العربي وسوسيولوجيا الإسلام” حاول الأنصاري أن يدرس الظاهرة السياسية في إطار الكل الاجتماعي والتاريخي، ويحلل الأزمات السياسية العربية المعاصرة من خلال امتدادها التاريخي الطويل.

التأزم السياسي العربي وسوسيولوجيا الإسلام
التأزم السياسي العربي وسوسيولوجيا الإسلام

وطرح الأنصاري في كتابه سؤالا هاما هل هناك دولة في المجتمع العربي؟ وبتحليله لمصطلح الدولة في الحقل التداولي للغة العربية، وجد أن كلمة دولة تشتق من التداول أي التغير وعدم الثبات، في حين أن لفظ الدولة في اللغة الأجنبية مشتق من state أي من السكون والثبات، ولهذا لم يعرف العرب مصطلح الدولة إلا في عصر النهضة العربي علي يد نخبة في عصر التنوير حين احتكت النخبة العربية بالغرب، في حين أن هناك منذ العصور القديمة الدولة الصينية، الدولة الفارسية ، الدولة الرومانية. ولكن مفهوم الدولة في الحضارة الإسلامية قد ارتبط مباشرة باسم الأسرة الحاكمة، فهي الدولة الأموية، أو العباسية، أو العثمانية…الخ فتنسب الدولة إلي الأسرة الحاكمة وسلطة أهل التغلب والقوة. ولهذا يرى الأنصاري أن العرب قد عاشوا “دولتيه” هلامية في دورات متعاقبة من التوحد والانقسام، ولهذا لم يعرف العرب معني الدولة بالمعني المؤسساتي البنيوي، وإذا سألت الأنصاري ما السبب في هذا يقول بأنه يرجع إلي عبء الجغرافيا، والتاريخ، والتكوين الاجتماعي.

1- عبء الجغرافيا:-

يرى الأنصاري أن الجغرافيا أسهمت في هلامية الدولة عند العرب بسبب التباعد الصحراوي، حيث أدي هذا التباعد إلي انقطاع زماني، ومكاني، وقد أدي التصحر إلي غياب مدن وحضارات وكذلك أدي التصحر إلي التباعد الزماني بين عصر وعصر، وهو ما أدي إلي إضعاف التواصل الحضاري، ولا يمكن أن نتفق مع الأنصاري في تحميل الجغرافيا أزمة عدم وجود دولة عربية بالمعني المؤسساتي، فكما استطاعت أوروبا أن تسيطر علي الجغرافيا بسبب ثورة المواصلات والاتصالات، كان يمكن للعرب السيطرة علي التباعد الصحراوي تماما مثلما استطاعت اليابان الجزر المنعزلة المتباعدة السيطرة علي المساحات البحرية بين الجزر، وامتلاك القدرة علي بناء دولة، فلا يمكن أن تشكل الجغرافيا عائقا جبريا ضد تأسيس دولة، ولكن تصبح للجغرافيا قيمة في حالات ضعف إرادة الإنسان.

الصحراء العربية
الصحراء العربية

2-عبء التاريخ:-

يرى الأنصاري أن التكوين الصحراوي أدى إلي انقطاعات في الزمن عبر التاريخ فحركة الزمن لا تصب في نهر واحد، كما أن سيادة الحياة الرعوية البدوية، وعدم استقرارها نتيجة للجري وراء المرعي، والأمان، قد أدي إلي غياب مفهوم الدولة، فقد أرست البداوة دورة حياتية تعوق التقدم الحضاري، فالمجتمع البدوي مجتمع بلا تاريخ من التقدم الحضاري، ويحمل الأنصاري البداوة ما يحدث في الأمة العربية الآن لأنها أسهمت في حدوث الصراع السياسي، ونشوء الفرق والمذاهب علي مدار التاريخ، ومن الملاحظ أن الأنصاري تجاهل دور النفط في حدوث الاستقرار، وتغيير مسار الكثير من الدول العربية الرعوية، إلي دول نفطية تسعي إلي بناء المؤسسات في كافة المستويات، من أجل الاستقرار حول النفط.

3-عبء المجتمع:-

وهنا نجد الأنصاري يحمل التكوين الاجتماعي العربي السبب الأعظم في هشاشة مفهوم الدولة، حيث رسخ المجتمع الرعوي مفهوم القبيلة، فأصبحت القبيلة هي الرحم، والسياج، والانتماء، والهوية في متاهة الصحراء، وأصبح العربي يهتم بالعرض قبل الأرض لأنه جوهر الشرف في القبيلة، كما أن العربي لم يرى الأمن في الأرض فكان دائم الترحال والتنقل، وفي ظل عدم الاستقرار هذا وجدت الدولة الوطنية صعوبة في التزام وإلزام مواطنيها بفكرة الثبات في الأرض لأنها فكرة جديدة علي العرف العربي، وبدت القبيلة لدي الأنصاري ليست فقط معاول الهدم في كيان الوطن، والدولة بل إنها نوع من التمييز العنصري بين الإنسان والإنسان، وبين الرجل والمرأة، وبين القبيلة والقبيلة، ولا يمكن إقامة علاقات اجتماعية وصحية في ظل معايير التفاخرية، والتفاضلية بين أبناء الوطن.

قبائل العرب قديمًا
قبائل العرب قديمًا

وثمة ملاحظات نقدية على موقف الأنصاري في تحليله للأزمة السياسية العربية:-

1-لا يمكن أن نوافق الأنصاري على تعميم أسباب هشاشة الدولة عند العرب على كل الدول العربية، وخاصة مصر، لأن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي امتلكت كل مقومات الدولة، ولم يقف التاريخ ولا الجغرافيا، ولا التكوين الاجتماعي حجر عثرة في سبيل تأسيسها لمفهوم الدولة عبر التاريخ.

2-إن إحالة الأنصاري هشاشة الدولة لدي العرب إلى عبء الجغرافيا والتاريخ والمجتمع قد أدي إلي ترسيخ روح الجبرية في التعامل مع القضية، لأن هذه العوامل يبدو تغييرها في منتهى الصعوبة، ومن ثم فإنه حين يشخص القضية بهذه الأسباب، فإنه في نفس الوقت يكرس الأوضاع السائدة بإحالة القضية إلي هذه العوامل.

3-علي الرغم من إعلاء الأنصاري لقيمة الإسلام، ومحاولاته لإرساء مجتمع مدني إلا أنه انتهي إلى القول بانتصار قيم البداوة والقبيلة على الروح الإسلامية، وهو ما يعني فشل الروح الإسلامية في مناهضة التكوينات القبلية والبدوية، وبدا من تشخيص الأنصاري أن هذه التكوينات هي الأعمق جذورا في الشخصية العربية، من الجذور الإسلامية، وإلى هذه الجذور يعزي الأنصاري الأزمة السياسية.

4-إن قراءة الأنصاري للتأزم السياسي العربي هي قراءة لا تاريخية، لأنه منذ مطلع القرن العشرين أصبحت الجغرافيا في صالح الإنسان العربي، بسبب تفجر النفط في الصحراء، وأصبحت الأرض تعادل العرض، بل الأرض هي العرض، وأدي هذا إلي استقرار أوضاع العرب في الصحاري، وتم بناء المدن، كما أدى النفط إلى إحداث تواصل بين الدول العربية، بسبب توظيف المواصلات والاتصالات الحديثة، ولهذا نجد أنفسنا نتساءل عن تجاهل الأنصاري للدورالفاعل للثروة النفطية في تأسيس المجتمع المدني هل كان هذا نتيجة رؤية مبهمة بأن النفط قد تحول على يد الحكام “رؤساء القبائل” إلى ثروة بديلة عن الثروة الرعوية، أم أن النفط قد تحول إلى وسيلة للترف والاستهلاك أم أن النفط تحول إلى وبالًا بسبب الأطماع الاستعمارية لهذه المنطقة؟!!

قاطرة سكة الحجاز بالمدينة المنورة في العشرينات

5-إن إحالة الأنصاري الأزمة السياسية العربية إلى عناصر خارجية جبرية قد ترتب عليه نظرته السلبية للإنسان العربي، حيث بدا له ريشة في مهب الريح، فلا إرادة له، ولا قيمة له، ولا قدرة له على امتلاك روح التغيير، في حين أن الإنسان وحده هوالذي يستطيع تغيير دفة الجغرافيا، والتاريخ، والمجتمع لصالحه، لأنه حين يملك إرادة التغيير يستطيع أن يرسخ المجتمع المدني، ومؤسساته الليبرالية، فالأزمة السياسية العربية هي بالأساس أزمة الإنسان العربي الذي لا يمتلك القدرة علي تغيير أعباء التاريخ، والجغرافيا، والمجتمع، فكل هذه الأعباء تبدو لا قيمة لها إذا امتلك الإنسان القدرة علي امتلاك إرادة التغيير.

6-ترتبط أزمة الإنسان العربي بأزمة الثقافة العربية التي يبدو فيها أثر آفات التاريخ، والجغرافيا،والمجتمع، وإن كنا لا نستطيع تغيير هذه الآفات على أرض الواقع، فإننا نمتلك القدرة على تغيير أثر هذه الآفات في الثقافة، لأن الثقافة هي نتاج العقل البشري، وأكثر مرونة في التغيير، ويمكن تغيير الإنسان العربي من خلال تشكيل وعيه بثقافة جديدة تؤمن بأهمية تأصيل مكتسبات الحضارة الحديثة من ديمقراطية، واستقلال المؤسسات، وبناء حياة نيابية، وإدراك حق الاختلاف، واحترام الرأي الآخر، وإرساء التسامح بين الأفراد، وإدراك قيمة العلم، وقيمة الزمن… إلخ، فتجديد الخطاب الثقافي العربي يكتسب أهميته من مساهمته في تجديد وعي الإنسان العربي حتى يمكن تغيير أوجه الحياة العربية، وهنا تأتي أهمية دور النخبة في تلك اللحظة التاريخية الصعبة، فعليها أن تلتحم بمشكلات الواقع لا أن تتعالى عليه، وعلى النخبة أن تدرأ اختلافاتها الشخصية، لا أن تعمق الخلافات السطحية، وأن تمارس قيم الديمقراطية التي تنادي بها في الحوار بينها، لا أن تظل هذه القيم مجرد شعارات يتشدقون بها، وعليها أن ترسي ثقافة فاعلة مرتبطة بواقع الشعوب العربية، وعلى الكل أن يدرك أن كل التوجهات الفكرية العربية وشعوبها تعيش في سفينة واحدة، وإذا غرقت سيغرق الكل.

7-لا يمكن أن يتم حدوث تغيير في الشخصية العربية دون إدراك عميق لقيمة التعليم، لأنه هو الحلقة القوية لتأصيل الثقافة الجديدة في أذهان الأفراد، لأن قيم هذه الثقافة لن تكون فاعلة إلا إذا تحولت من ثقافة نخبة إلي ثقافة شعوب، وعلى السياسة أن تتيح للتعليم قدرا كبيرا من الاستقلال، لا أن توظف التعليم من أجل إيديولوجيا السياسة. فيظل هذا الواقع لابد أن يكون هناك ترابط عميق بين الإنسان، والثقافة، والتعليم، وعلى السياسة أن تدفع هذه الثلاثية لا أن تعوقها عن النمو، ولا أن توظفها من أجل مصالحها الخاصة، ولا يمكن أن نغفل دور السياسة الإيجابي في تحقق أي مشروع للنهضة، فالسياسة يمكن أن تحول أي مشروع ثقافي عربي من مجرد مشروع عمل إلى واقع حقيقي يمارس بالفعل.

وأخيرا يمكن القول أن التأزم السياسي العربي لا يمكن أن نرجعها إلى عوامل خارجية مثل التاريخ، والجغرافيا، والتكوين الاجتماعي، بل إنها بالأساس أزمة الإنسان العربي والثقافة العربية.

د. أحمد سالم

أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock