فن

 «الغيبيات» و «العوالم الخفية» في السينما.. نجاح أم ترويج للخرافات؟ 

«الغيبيات» ليست مجرد كلمة يمكن اختزال معناها في بضع عبارات أو تفسيرات تقطع الشك باليقين، ولكنها أفكار ورؤى تختلف من ثقافة لأخرى وتتنوع حولها المفاهيم والمعتقدات وربما يظل الخلاف حول تأكيدها أو دحضها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

مؤخرا عرض فيلم  «صاحب المقام » للمخرج محمد العدل وهو أحدث الأعمال الفنية التي جنحت نحو هذا العالم بكل ما يثيره من جدل لم يحسم بدلائل قاطعة، كذلك مسلسل «خيانة عهد» للمخرج سامح عبد العزيز والذي عرض ضمن الماراثون الرمضاني الأخير.

فكيف تعامل صناع الفن (سينما أو دراما) مع هذه الشواهد والأفعال الغيبية، هل كونها حقائق لا تقبل الجدل أو الشك وبعيدا عن أي أسانيد علمية ما أسهم في رسوخها بوجدان الجمهور؟  أم قدمت هذه التيمات بوصفها مجرد «خرافات» وأساطير لا أساس لها؟

المؤكد أن هذا العالم  «الخفي» بكل تفاصيله وملابساته ماده غنية وشيقة دراميا، سواء كان التعامل معها  بجدية (الغوص في الأسباب والموروثات ومحاولة تفسيرها) أو في إطار من الطرافة وربما السذاجة كما في بعض الأعمال .

في كتابه «الخرافات والغيبيات في السينما» للدكتور فاروق إبراهيم يعترف بأن السينما بكل أنواعها سواء وثائقية وروائية (قصيرة أو طويلة) تطرقت لعالم الغيبيات بأشكال ورؤي متعددة مستلهمة مادتها أحيانا من الأساطير القديمه أو الموروثات الشعبية وغيرها، أيضا بعضها قد يستند لما ورد في التراث القديم (محليا و عالميا )، غير أنها ومع تعدد طرق وأساليب الطرح والتناول لم يهتم صناعها بتقديم تفسيرات لما يدور في تلك العوالم الخفية، بتعبير أدق صناعها  كانوا مهتمين بإستخدام هذا العالم بوصفه «تيمة»  شيقه تداعب خيال المتلقي بعالم من الوهم المرئي وفقط .

الخرافات والغيبيات في السينما فاروق إبراهيم
الخرافات والغيبيات في السينما فاروق إبراهيم

تنويعات

مما سبق يتضح أن معظم الأفلام التي تطرقت لهذه العوالم الخفية سواء عرضا أو كفكرة أساسية، لم يهتم صناعها في إيجاد تفسيرات منطقية لما يدور أمامنا على الشاشة خصوصا في الأفلام التي رصدت الصراع بين العلم والخرافات كما في فيلم «الإنس والجن» للمخرج محمد راضي، ومن بطولة الفنان عادل إمام حيث فشل الفيلم في مخاطبة عقل المشاهد وفق منطق علمي وفي نفس الوقت روج للخرافات بشكل ساذج وبأكثر المفاهيم بدائية، ليأتي حسم هذا الصراع عبر تلاوة آيات من القرآن الكريم اختفى الجن على أثرها، ما يجعلنا نسأل لماذا غاب هذا الحل طوال أحداث الفيلم؟

«التعويذة» المخرج محمد شبل هو الآخر انتهى لنفس الحل بعد سلسلة ساذجة من الأحداث لا يمكن أن تقنع المشاهد بجدوى قضيته، أو رسالته، وكأن الهدف من صناعة الفيلم هو خلق حالة من الرعب أو الهوس تسهم في تحقيق أكبر عائد من الإيرادات، الغريب أن صناع العمل تغافلوا سهوا أو عمدا أن «سذاجة» الطرح قد تأتي بنتائج سلبية حيث تدفع المتلقي للإحجام عن مشاهدته.

 على الجانب الأخر كان البعض أكثر وعيا بخطورة هذا الصراع ومن ثم انحازوا للعلم هدما للخرافات كما في «للحب قصة أخيرة» رائعة المخرج رأفت الميهي، حينما قررت بطلة الفيلم معالي زايد تحطيم مقام الدجال الذي كانت قد لجأت له تضرعا ليشفي زوجها بوصفه صاحب الكرامات، ولكن بعد وفاته تحطمه بالفأس في إشارة صريحة وواضحة لضرورة التخلص من تلك المعتقدات التي للأسف لا زال البعض يؤمن بها.

https://www.youtube.com/watch?v=ye7e7q4NLXA

الانتصار للعلم في وجه الخرافات يمكن تلمسه أيضا في فيلم «البيضة والحجر»  للمخرج علي عبد الخالق، تحديدا علاقة العلوم الإنسانية بالواقع المجتمعي ودورها في مواجهة الخرافات والموروثات البالية التي تحكم تفكير وسلوك الكثير منا وتقف حائلا دون تقدمنا، كما يؤكد الفيلم علي أنه لا مجال لوجود وسيط بين الإنسان وربه مهما كانت قداسة هذه الشخصية .

«جري الوحوش» للمخرج علي عبد الخالق فيلم آخر يضع الدين في مواجهة العلم الذي انهزم في النهاية، كذلك فيلم «قاهر الزمن»  الذي نجح مخرجه كمال الشيخ في فض الإشتباك بين العلم والدين والتأكيد على أنهم ليسوا في صراع يقضي بضرورة أن ينتصر طرف على الآخر، وعلى الرغم من أن الفيلم لم ينل شعبية إلا أنه انتصر وبقوة للحق في البحث العلمي وبدون قيود.

في المنتصف يقف فيلم «قنديل أم هاشم»  في محاولة للمزاوجة بين الإيمان والعلم، غير أن كثيراً رأوا في هذا العمل سواء  كرواية أو كفيلم  تخلياً عن العلم وحاروا في أمر مؤلفه الأديب يحيى حقي، خصوصا وأن الفيلم نقل عن الروا من دون تصرف في الرؤية أو الرسالة التي يطرحها العمل، في إشارة لضرورة أن نأخذ بالأسباب (العلم) من دون أن نغفل مشيئة الله.

تنوير

المؤكد أن هناك قائمة طويلة من الأفلام والأعمال الدرامية تعاملت مع الغيبيات على تنوعها من تنجيم، قراءة كف، فنجان، دجل، وغيرها من الوسائل في محاولة لمعرفة الغيب، حتي الأرواح سواء بالاتصال بها أو تحضيرها وسواء كان ذلك بشكل جدي أو حتى هزلي ، ولكن يبقى دوما السؤال: لماذا فشلت السينما في التعامل مع هذه القضايا رغم تنوعها بعيدا عن كونها «تيمة» شيقه قابلة للتناول بطرق مختلفة؟

الناقدة السينمائية خيرية البشلاوي تري أن صناع الدراما بشكل عام وفي السينما بوجه خاص لم يتعاملوا مع قضية الغيبيات من منظور اجتماعي يعي ويهتم بل تحرص علي أن يعمل الإنسان عقله، بتعبير أدق ظلت السينما بعيدة تماما عن أي رؤية تنويرية تسهم في زيادة وعي المتلقي بشكل عام ليس في هذه القضية فحسب بل في قضايا أخرى كثيرة، ما يلقي باللوم على صناع السينما من منتجين وكتاب سيناريو ومخرجين جميعهم للأسف لم يهتموا بالسينما بوصفها وسيلة للتنوير، أي أن يكون لها رسالة إلى جانب الترفيه، بتوصيف أدق التعامل معها كمنتج ثقافي وليس فقط منتج ترفيهي تجاري.

الناقدة السينمائية خيرية البشلاوي
الناقدة السينمائية خيرية البشلاوي

ورغم أن كثيرا من الأفلام الآن بها قدر كبير من الجدية سواء شكلا أو مضمونا كما تؤكد البشلاوي، لكن يظل أولي الأمر يتعاملون مع هذا المصنف الفني بوصفه سلعة ترفيهية وليس وسيط ترفيهي يهدف للتنوير، مشدده على أن تلك النقطه قضية هامة جدا وفي حاجة للمراجعة من الجميع وفي مقدمتهم صناع  السينما.

السينما إذن ووفقا لممارسات أهلها يبدو صنعت للتسلية فقط،ومن ثم لا مجال لأي أدوار أخرى تدفع المتلقي لإعمال العقل اللهم إلا فيما ندر، وحتى الأفلام التي اهتمت بطرح قضايا «الغيبيات» بغرض النقاش المجتمعي حولها ليست كثيرة كما تؤكد البشلاوي؛ ما يحيلنا مجددا اضرورة أن تعيد السينما حساباتها ويهتم  صناعها بضرورة أن تقدم أعمالهم رسالة مجتمعية إلى جانب الترفيه .

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock