فن

السينما الروائية القصيرة أحلام عريضة ومعوقات كثيرة

السينما وبعيدا عن فكرة «التسلية» التى يرتاح لها البعض كمعادل منطقي لتواجد هذه الصناعة على الساحة، ستظل هي السحر الذي ينفذ إلى عقولنا و يداعب وجداننا شريطه أن يكون المعروض صادقا، وعليه فإن الشريط السينمائي وبغض النظر عن زمنه (روائي طويل أو قصير) أو تصنيفه  فإنه كان وسيظل ترجمة صادقة لعلاقه الفنان بالواقع الذي يعيشه وليس فقط وثيقة علي هذا العصر، تتداخل في صياغته الكثير من العوامل (الإضاءة  والموسيقى والمشاعر و..و..) وكلها  تختزل المسافة بين  الشاشة ومقاعد المشاهدين وتتلامس مع دواخلنا .

إلا أن هذه الصناعة، وبالأخص الفيلم الروائي القصير، تعاني الكثير من المشاكل و الصعوبات التي تهدد تواجدها من الأساس وليس فقط استمرارها؛ ما قد يغلق الستار علي أحلام أجيال من المبدعين وطموحاتها، يرون فيها المتنفس للتعبير عن أفكارهم وأحلامهم، مشاكلهم وطموحاتهم وكل ما يؤرقهم و يرغبون في التعبير عنه.

فماذا عن تلك المشاكل التي يعانون منها، وهل صناعة فيلم روائي قصير مجرد خطوة يعبرون من خلالها للعالم الأكثر رحابة (عالم الفيلم الروائي الطويل)، بتعبير أدق هل لا يوجد إيمان حقيقي بأهمية هذا اللون من السينما وأنه ليس إلا محطة في حياة المخرج؟

ولماذا، وهو الأهم، لا توجد جهات إنتاج حكومية أو خاصة تدعم صنَّاع الفيلم الروائي القصير سواء في مصر أو في عدد من البلدان العربية، مقارنة بدول العالم حيث يتوافر سوق إنتاج وتوزيع كبير لهذه الصناعة.

معوقات

في ظل الثورة التكنولوجية التي نعيشها من ظهور كاميرات حديثة جدا، ووحدات اضاءة ومونتاج متطورة، توقع البعض أن ينعكس هذا على تطور صناعة الفيلم القصير، خصوصا في ظل ظهور مواهب عديدة سواء طلبه المعاهد المتخصصة أو عشاق فن السينما بشكل عام، إلا أن الرياح للأسف أتت بما لا تشتهيه السفن، حيث المعاناة تحاصر جيل من المبدعين الجدد.

المخرج الشاب بهاء الجمل
المخرج الشاب بهاء الجمل

الإنتاج هو أكثر المعوقات كما يؤكد المخرج الشاب بهاء الجمل خصوصا في ظل تراجع الجهات المتخصصة الداعمة مثل المركز القومي للسينما، أو «مسابقات الدعم» من قبل وزاره الثقافه المصريه و المتعثرة منذ سنوات من دون أسباب واضحة ،  كذلك الحال بالنسبة لصناديق الدعم و التي كانت تقدمها بعض المهرجانات العربية وللأسف توقفت هي الأخرى مع توقف هذه المهرجانات، وعلي الجانب الأخر لا توجد جهات إنتاج خاصه تتحمس بدورها لهذا المنتج بوصفه مصنف فني غير قابل للربح، بعكس بلدان أخرى عديدة يجد فيها الفيلم القصير دورة إنتاجه بسهوله، بدءا من الجهات التي تتحمس لدعمه، مرورا بدور العرض أو القنوات التي ترغب بعرضه، وكلها عوامل تسمح بدوران عجله إنتاج هذا المصنف بل وتسمح لصانع العمل أن يتكسب  من وراءه بما يمكنه من تقديم أفلام أخرى، بعكس هنا حيث المهرجانات سواء المحلية أو الدولية هي المنفذ الوحيد لعرض ابداعنا.

افتقاد الجمهور لـ « ثقافه التلقي» جانب أخر من المشاكل يكشف عنه الجمل، مشيرا لأن الطفل في كثير من البلدان الأوروبية يتربى على مشاهدة هذه الأعمال عبر وسائل عديدة مثل المدرسة، دور العرض السينمائية، القنوات التلفزيونيه، المهرجانات والتي يحرصون علي أن يشارك فيها الطلبة للتعرف على ثقافات العالم المختلفة، ما يسهم في تربية أجيال لديها الوعي بأهمية السينما، وهو ما نفتقده في جمهورنا للأسف.

مغامرة

عدم الحماس لإنتاج هذه النوعية من الأفلام لا يقتصر فقط على جهات الإنتاج ولكنها تمتد أيضا لأهل الصناعة انفسهم من ممثلين ومصورين و مهندسين صوت ومختلف المجالات الفنية، نظرا لضعف ميزانيات الفيلم من جانب و لأنه عمل غير جماهيري من جانب أخر ، كما يؤكد المخرج الشاب حسان نعمه، مشيرا لأن مخرج الفيلم يتحمل كل تبعات العملية الإنتاجية بنفسه، ما يخصم بالتأكيد من تركيزه على عمله كمخرج.

تصاريح التصوير مشكله أخري هامة تعرقل صناعة الفيلم في أحيان كثيرة  كما يؤكد نعمه  نظرا لصعوبة إجراءات استخراجها، إضافة لارتفاع سعرها بما يعوق الميزانية  (المحدودة أصلا)، فيضطر مخرج العمل للتحايل على هذه المشكلة بتقليص مساحة التصوير الخارجي وهو ما ينعكس سلبا على الفيلم .

البعض يرى في السينما الروائية القصيرة مجرد «محطة » يعبر من خلالها المخرج للسينما الأكثر جماهيرية، بدليل أن عدد كبير من الأسماء اللامعة إخراجا بدأت مشوارها عبر هذا المصنف ثم هجرته لعالم الفيلم الروائي الطويل.

بهاء و حسان و غيرهم من المخرجين الشباب الذين خاضوا بنجاح هذه التجربة أكثر من مرة يعترفون بأنها مرحلة  « تسخين» قبل الدخول للعالم الأكثر رحابة، مؤكدين اعتزازهم بتجاربهم التى أتاحت لهم التعلم والتجريب بحرية مع الاحتفاظ بإمكانية العودة.

 د. مي التلمساني الروائية و أستاذة الدراسات السينمائية بجامعة أوتاوا بكندا تربط بين تعثر صناعة هذا المصنف وما تعاني منه صناعة السينما في عالمنا العربي بشكل عام، حيث الإنتاج لا يتبع خطة محددة  كما نجد الحال في سينما العالم الغربي فمثلا في هوليوود  شركات الإنتاج الكبرى تغرق أسواق العالم، و في روسيا تسيطر الدولة على ادوات الإنتاج وتقوم بدعم الإنتاج المحلي بشكل ممنهج، وعلى العكس تماما نجد هنا تخبط في الأهداف والنتائج فيما يخص الصناعات الثقافية عامة، فلا القطاع الخاص قوي بما يكفي ليغامر بصنع أفلام قصيرة ولا القطاع العام مهتم بدعم شباب المبدعين من خلال تلك النوعية حتى التجاري منها.

 د. مي التلمساني
د. مي التلمساني

ما يفسر لماذا يتوق صناع الأفلام القصيرة دوما لعمل أفلام طويلة تصل للجمهور العريض، و يتعاملون مع الفيلم القصير بوصفه عربون تعارف ومحاولة توسيع رقعة الجمهور، كما تري التلمساني خصوصا وأنه مصنف فني لا يُقبل عليه جمهور السينما العريض ودوما يقتصر توزيعها عبر قنوات التليفزيون أو المهرجانات، مشيرة لأنه في عصر هوليوود الذهبي كان الفيلم القصير فعليا محطة لاكتشاف المخرجين الجدد والنجوم، والأكثر قدرة على خوض المغامرة، من كتابة السيناريو وحتى خروج الفيلم إلى النور.

وعليه تأمل التلمساني مع تطور الديجيتال وانتشار المنصات الخاصة بالعرض المجاني سواء على يوتيوب أو فيميو وغيرها، بأن يتحقق الأمل ويستقطب هذا المصنف جمهور أعرض لمشاهدته و كذلك لصنعه، و أن يكون هناك سوق للفيلم القصير تضاهي إلى حد ما السوق التجارية للأفلام الطويلة إنتاجا وتوزيعا.

مره أخري وليست أخيرة تؤكد التلمساني علي أن تقليص مساحات الإنتاج هي أكثر ما يعيق صناعة وتطور الفيلم القصير وتوزيعه مقارنة بأفلام التحريك والأفلام التسجيلية الأكثر حظا بسبب قنوات التوزيع التلفزيونية، وبالرغم من أن المهرجانات المخصصة لهذا النوع تنتشر في العالم كله كما تؤكد التلمساني، لكننا للأسف لا نتابعها بالضرورة نظرا لطغيان الفيلم الطويل على الأسواق، مشيره إلى أن الأمل ربما يكمن في منصات مثل نتفليكس أو ما شابهها لكي تغير المشهد وتسمح بترويج هذا المصنف بصورة أكبر في المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock