«أذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة. له باب على الصنادقية ثم يصعد صعودا في غير انتظام، تحف به دكان وقهوة وفرن، وتحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهي سريعا –كما أنتهى مجده الغابر- ببيتين متلاصقين».
هكذا يصف أديب نوبل نجيب محفوظ الشكل المعماري الذي تدور فيه أحداث تحفته الروائية «زقاق المدق» ذلك الزقاق الذي يشبه المصيدة لكنه مع ذلك متصل أشد أتصال بالعالم الخارجي.
ظلت القاهرة بأحيائها المختلفة ملكة متوجة على عرش مؤلفات عميد الأدب العربي نجيب محفوظ ، فعبر روايته بدأ من «القاهرة الجديدة» ومرورا ب«خان الخليلي» و«زقاق المدق» و«بداية ونهاية» يمكن للقارىء أن يتتبع الخريطة الاجتماعية والعمرانية للقاهرة بطبقاتها الثلاث وفقا لتقسيم محفوظ: «الأرستقراطية والبرجوازية والكادحين».
الدكتور الناقد عبد المحسن طه بدر «1932-1990» يواصل رحلته داخل عالم نجيب محفوظ في كتابه الرائع «الرؤية والأداة .. نجيب محفوظ» في محاولة لرسم صورة تعكس أثر رؤية محفوظ للحياة والإنسان على أعماله الروائية وكيف أثرت تلك الرؤية على أدوات تعبيره داخل كل عمل روائي.
زقاق المدق
استهل عبد المحسن طه بدر تقديم عالم «زقاق المدق» بالإشارة إلى أن نجيب محفوظ قسم البشر داخل هذا العالم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول منهم يتطلع لملاذ الحياة المادية التي تعيشها القاهرة الجديدة خارج الزقاق، وهؤلاء سرعان ما يلفظهم الزقاق خارجه نحو مصيرهم المحتوم بالكارثة أو المأساة، أما القسم الثاني فهم الراضون بالحياة داخل الزقاق القانعون بما قسم لهم، يستمرون في الحياة بخيرها وشرها حتى الموت في صمت، أما القسم الثالث فهم الذين قهروا في نفوسهم الشهوة والتطلع، وهم يمثلون الفئة الناجية، يسيرون نحو طريق الخلاص الوحيد المتاح لهم داخل عالم نجيب محفوظ.
رؤية نجيب محفوظ لعالم الأحياء الشعبية التي يجسدها البشر في «زقاق المدق» تتعامل مع التغيير بوصفه شرا لابد منه، وكل تغيير بالرواية هو تغيير نحو الأسوأ وليس أدل على ذلك من شخصية المعلم «كرشة» الذي تحول من ثائر ومناضل وطني ضد الإنجليز، إلى تاجر حشيش شاذ جنسيا وسمسار إنتخابات.
يواصل محفوظ في رواية «زقاق المدق» اتباع ذات الثنائية في تقسيم البشر التي أشتهرت بها أعماله «ناس يعيشون بالمادة وناس يحيون بالروح»، فشخصية «حميدة» في «زقاق المدق» تماثل شخصية «محجوب عبد الدايم» في «القاهرة الجديدة»، شخصية «حميدة» تتفجر حيوية إلى حد وصفه لها بأنها «عاهرة بالسليقة» وبناء عليه يحدد محفوظ مصير كل شخصية وطبيعة علاقتها بالزقاق وفقا لمدى قربها أو بعدها عن مواصفات شخصية «حميدة».
يستعرض طه بدر موقف النقاد من رواية «زقاق المدق» مشيرا إلى أن الدكتورة فاطمة موسى وصفت «زقاق المدق» بأنها رواية نجيب الأثيرة عند قرائه، فهى تصور حي الحسين بصورة متفوقة وأكثر دقة من صورته برواية «خان الخليلي»، كما أن محفوظ قد نأى بشخصياتها عن الجو الرومانسي الذي اعتاد أن يغلف به شخصيات أبناء البلد الفقراء.
أما محمود أمين العالم فقد أرجع عبقرية «زقاق المدق» إلى ارتباطها بقضية الحرب والسلام مشيرا إلى أن «عبقرية الرواية تكمن في هذا الصدام بين زقاق المدق والحرب العالمية الثانية، ومن هذا الصدام يتفجر المعنى اللا أخلاقي للحرب، وترف قيم السلام» ويتحمس يوسف الشاروني لرواية «زقاق المدق» إلى حد كتابته قصة قصيرة عن شخصية «زيطة» صانع العاهات أهداها إلى نجيب محفوظ، يصور فيها «زيطة» وكأنه فنان ضل طريقه الصحيح، ويطالب الجهات المختصة بصنع تمثال له على رأس زقاق المدق.
انتقد طه بدر تحليل رجاء النقاش لشخصية «حميدة» برواية «زقاق المدق» ووصفه بأنها تمثل رمزا لمصر وذلك لكون نجيب محفوظ قد وصف «حميدة» بأنها «عاهرة بالسليقة» فكيف لها أن تعبر أو ترمز لمصر؟!.
https://www.youtube.com/watch?v=Ytv7mGUXBGM
رواية «زقاق المدق» وفقا لطه بدر تعد بشكل عام بمثابة الممثل لطبيعة القاهرة الشعبية كما يراها محفوظ، كما أنها تعد تعبير عن مدى قدرة محفوظ على رصد الحركة ما بين القاهرتين «القديمة والجديدة» من داخل الزقاق ذاته، إضافة لكونها تعد من أوائل روايات محفوظ التي حرص فيها على توزيع الاهتمام والفعل على جميع شخصيات الرواية بصورة شبه متساوية، فشخصيات الرواية تشترك في الحركة والفعل والحضور على امتدادها .
الفئة الوحيدة التي نجت داخل عالم نجيب محفوظ برواية «زقاق المدق» هم «المتصوفة»، الصوفية الشعبية كما تمثلها شخصية «الشيخ درويش» وشخصية «السيد رضوان الحسيني» غير أن الغريب في أمر محفوظ أنه طالما أبدع في تقديم تلك الشخصيات التي يرفضها وقصر أو عجز عن تقديم الشخصيات التي ادعى محبته لها، بحيث أنه طالما جاءت الشخصية المادية أكثر حيوية وحضورا عن تلك الشخصيات الروحية الراضية.
بداية ونهاية والقاهرات الثلاث
هل يمكن لرواية تدور أحداثها حول أسرة واحدة أن تعبر عن «القاهرات الثلاث» بما تحتوية من طبقات ثلاث: «الشعبية والأرستقراطية والبرجوازية»؟ .. نعم لقد نجح محفوظ في روايته «بداية ونهاية» عبر شخصيات أسرة واحدة أن يدلنا على عوالم «القاهرات الثلاث» فحسن الابن الكبير بالأسرة ينتمي لعالم القاهرة الشعبية، ويتطلع حسنين الابن الأصغر إلى القاهرة الأرستقراطية، ويعيش حسين الابن الأوسط في الوسط راضيا بوجوده داخل محيط البرجوازية الصغيرة.
استهل طه بدر تناوله لرواية «بداية ونهاية» بالإشارة إلى أن محفوظ حاول عبر تلك الرواية الكشف عن طبيعة العلاقة التي تربط ما بين البرجوازية الصغيرة وطبقة الكادحين، والطبقة الأرستقراطية، مع حرص محفوظ الدائم على اعتبار البرجوازية الصغيرة بمثابة المصدر الرئيسي للطموح والقلق والتمزق والتطلع نحو المستقبل، ولهذا فهى دائما ما تكون مصدر المأساة.
https://www.youtube.com/watch?v=D2i8u15OW3w
كشفت رواية «بداية ونهاية» وفقا لطه بدر عن رؤية محفوظ البالغة التشاؤم، فالإنسان لديه منذور للمأساة التي تمثل قدره ومصيره ونهايته، والحياة الإنسانية في تطورها تتقدم نحو الكارثة، وسر تخبط ومأساة الإنسان يرجع بالأساس إلى تشبثه بلذات الجسد وبعده الدائم والمستمر عن خلاص روحه، أو معرفة الطريق نحو الخلاص، وعلى هذا فلم يكن مطروحا أمام الإنسان بعالم «بداية ونهاية» سوى أحد خيارين، إما الإيمان بالله والتسليم لقضائه والرضا بالواقع وإما الانتحار.
رواية «بداية ونهاية» تقوم على ثلاث قوى تقهر الإنسان وهى القدر والطبيعة البشرية والمجتمع وعلاقته الاحتماعية، تخلص محفوظ بتلك الرواية من رؤيته التقليدية المتعلقة بتثبيت الطبقة، فعبر أسرة واحدة كشف عن القاهرة بطبقاتها الثلاث، وقد وفق في اختياره لحي شبرا كمكان تدور فيه أحداث روايته، فهو حي كان يتميز بالجمع بين الطبقات الثلاث.
حرص محفوظ في «بداية ونهاية» على الغوص في عمق الشخصيات للكشف عن عالمها الداخلي والنفسي ما جعله يتعمق في الاستعانة بأسلوب «المونولوج الداخلي» فشخصية «نفيسة» التي كانت تحلم بالزواج، مع موت أبوها فقدت حلمها لكونها باتت بلا مال أو جمال، يحاصرها محفوظ فيجعلها تخيط ثياب العرائس، لتصبح ما بين نارين: «نار الحلم المفقود ونار الرغبة المشتعلة» فيصبح سقوطها قدرًا لا مفر منه، لتنتهي بالحكم على نفسها بالإعدام غرقا في النيل.
ينتهي طه بدر من تناوله لعالم نجيب محفوظ بالإشارة إلى أنه عبر تتبعه لرحلة محفوظ قد توصل إلى أنه تمكن من الإنتقال بوضوح من أسلوب تسيطر عليه البلاغة الشكلية إلى اللغة التقريرية إلى اللغة الروائية، وأن أسلوب محفوظ كان يتقدم ويتصاعد بشكل مستمر كلما زادت رؤيته عمقا، فمع وضوح الرؤية والتعمق انتقل العالم الروائي لمحفوظ وبات أكثر تماسكا وأصبح نسيج الرواية أكثر تلاحما، واختفت قضية الحكايات المنفصلة والمحاور المتوازية، مثلما نجح في روايته «بداية ونهاية» من خلال أسرة واحدة وحكاية واحدة أن يقدم للقارىء «القاهرات الثلاث» .. «الشعبية والبرجوازية والأرستقراطية».