أراقب طفل السابعة الذي كنته وهو يلازم التليفزيون طوال فترة الإرسال متابعا كل البرامج والمواد بنهم شديد.
حتى المواد الإخبارية في ذلك العام الملتهب كانت تشد انتباهه بما تعرضه من مشاهد لعمليات فدائية يقوم بها رجال المقاومة الفلسطينية وصور الاجتياح الإجرامي الصهيوني لجنوب لبنان فيما عُرف بعملية الليطاني.. يمطر الطفل والده بالأسئلة حتى يضيق ذرعا به.. لم يكن يفهم شيئا من كل هذه التفاصيل.. كان يختزن الصور فحسب؛ بطبيعة الحال لديه شعور هائل بالبغض تجاه العدو؛ لكن ما استقر لديه أنه عدو مصر.. مصر التي سحقه جيشها في معركة العبور.. ما علاقة الفلسطينيين إذن بالأمر؟!
ثم تأتي لحظة من أشد لحظات التوتر والالتباس التي لم يستطع فهمها برغم أنه شاهد الوجوم يكسو الوجوه في العام السابق عندما كان رئيس البلاد يهبط سلم الطائرة ليلا في مطار العدو ثم صورته وهو يخطب مطولا في حضور أبشع الوجوه، وتكاد تخترق ذاكرته السمعية كلمات “المسحراتي” وهو يغني “كان قلبي معاك طوال ما أنت هناك ناطق وياك بإيمان وثبات” وكانت ذاكرته الغضة ما زالت تحتفظ بالمشهد البائس يوم أن رأى ذلك الوجه الداكن ذي الوجنتين البارزتين يركب سيارة مكشوفة قرب الميدان ملوحا للجماهير، فوقع في نفسه خوف امتزج ببغضاء عميقة للرجل قبل أن تصبح بغضاؤه مبصرة بعد ذلك بسنوات طويلة.
https://www.youtube.com/watch?v=ymGVXfblboU
تلك اللحظة التي صدمه فيها المذيع بخبر مقتل “يوسف السباعي” الذي كان يشاهده كثيرا في نشرات الأخبار وفي البرامج التي يكثر فيها الضيوف الكلام دون أن يفهم شيئا.. شكل الرجل وهيئته التي كانت تختلف عن شكل وهيئة معظم المسئولين جعله معروفا لدى الفتى.. تساءل لماذا يقتل الرجل ومن قتله؟ ثم توالت الأحداث المؤسفة التي تابعها وهو جالس إلى جوار والده يرصد المشاهد الحية من مطار “لارناكا” القبرصي.. يقصر به الوعي عن الإدراك لكن المشاهد تستقر في ذاكرته عصية على المحو؛ فيثقل كاهل أبيه المرهق بفعل العمل الشاق بأسئلته عن تلك الموقعة التي قتل فيها عدد من الجنود المصريين في عملية فاشلة غير مدروسة من بنات أفكار شخص ركبه الغرور.
ما أثقل ذلك العام بكل تفاصيله! حتى أن السنة الدراسية كانت كارثية في قبضة المعلمة المخيفة جاحظة العينين في ذلك الفصل الذي كان يظنه طوال الوقت “غرفة الفئران” وسط أولئك البؤساء الذين كان بعضهم ما يزال يحمل كتبه وكراساته في كيس من القماش الأبيض.. وهو ذلك العام الذي صدمه وجه الموت قريبا جدا عندما ماتت سكرتيرة المدرسة فجأة وكانت فتاة نوبية لطيفة في مقتبل العمر.. وكأن المعلمة أرادت أن تستثمر الخبر الأسود في تعميق شعور الصغار بالخوف والعزلة وهم تحت سطوتها.. ليظل هذا الحدث ماثلا في الذاكرة طوال الوقت مجسدا قدرة الموت على الاختطاف الماكر غير الرحيم.
لكن هذا الثقل سيخف رويدا رويدا مع تَصَرُّمِ شهور السنة، وسيكون من اللطيف جدا بعد إلغاء فكرة الذهاب إلى المصيف أن يفاجئه الوالد بشراء سيارة من نوع “فيات128” ذات لون أسود، بعد أن كان الذهاب إلى “رأس البر” يستدعي وجود عم “حسن” بسيارته “الدوتش” الخضراء التي تفوح منها رائحة السمك بسبب تواجدها الدائم على خط “عزبة البرج” كما سيحمل العام حدثا أكثر بهجة بالنسبة له وهو بطولة كأس العالم في الأرجنتين، وهي البطولة التي قرأ عنها بعد ذلك بسنوات ما لم يصدقه من أهوال تتعلق بجرائم الحكم العسكري الذي دعمته الولايات المتحدة دعما غير محدود، حتى هذه البطولة “القذرة” بكل المقاييس كانت برعاية “كيسنجر” الذي سيردد الرئيس المؤمن اسمه كثيرا بعد ذلك مسبوقا بكلمة صديقي.. وكان قد شاهد المباراة النهائية متحمسا دون وعي كبير غير منتبه إلى غياب الأسطورة “يوهان كرويف” عن المباراة بسبب التهديد بالقتل.
ومع انتهاء العام الدراسي وبداية إجازة الصيف يقل ارتباط الصغير نسبيا بالتليفزيون بفعل الفكاك من الأسر والانطلاق إلى الشارع، واللعب حتى انصراف آخر ضوء للشمس؛ فيعود إليه منتظرا ما يجود به عليه من أفلام محببة مثل ذلك الفيلم الذي مثلته سيدة الشاشة وسط مجموعة من الشباب والأطفال والبنات، كانت لهم أما تغرق حتى أذنيها في مشاكلهم. بالطبع كانت فوضى “إمبراطورية ميم” بالنسبة له أمرا بالغ الروعة، لكنه يقل بكثير عن فيلم آخر شاهده في نفس العام، وهو “عالم عيال عيال” فقد كانت مساحة الهرج والمرج فيه أوسع بكثير.
ثم يأتي رمضان مع بداية أغسطس ومعه الحدث الأهم وهو مسلسل “أحلام الفتى الطائر” وكان تعلق الصغير شديدا ببطل العمل لدرجة انهياره بالبكاء الشديد مع مشهد النهاية عندما يقتل البطل دون أن يكشف لأحد عن مكان المال الذي سرقه وخبأه..
كان “عادل إمام” قد اشتهر بمسرحية مدرسة المشاغبين، لكن أدواره في السينما لم تكن قد وصلت إلى البطولة المطلقة، باستثناء “المحفظة معايا” وهو فيلم بائس وثقيل الظل.. لكن “إبراهيم الطاير” كان أول بطولة مطلقة في الدراما التليفزيونية، ومع وجود مؤلف بحجم “وحيد حامد” والمخرج “محمد فاضل” كانت كل التوابل حاضرة.
مع تعدد القصص بتكرار مرات الهرب التي تمنى الفتى ألا تنتهي أبدا.
https://www.youtube.com/watch?v=AFL_CXb_ZS0
وكان مما أبهره في هذا العمل الخالد تلك الثقة الهائلة التي يتمتع بها بطل العمل وإيحائه طوال الوقت للمشاهد أنه بالغ القوة والوسامة والشجاعة.. والحقيقة أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك.. لكن هذا الأداء لقي قبولا واسعا لدى القطاع الأكبر من الجماهير..
أما الصغير فقد داوم على مشاهدة المسلسل كلما عرضه التليفزيون واستمرت المشاهدات حتى زمن “اليوتيوب” وربما لم ينقطع شغفه به إلى الآن..
وربما أورثه ذلك محبة للفنان استمرت لفترة طويلة رغم رفضه لمواقفه العديدة التي كانت تدور في دوائر التملق والنفعية المطلقة.
مع العيد كانت مفاجأة عرض “خلي بالك من زوزو” في التليفزيون مدوية، فيلم يتدفق بالحيوية والغناء والاستعراض؛ لكن الصغير لم ينبهر به.. فهو من نوعية الأفلام التي لا تستهويه إنه لا يفهم كل تلك النظرات والتنهدات التي تغدق بها السندريلا على معجبيها، كما لم يتبين سبب تعلق الفتاة بالفتى الثقيل.. لم يعجبه سوى “سليمان الأنكش” بحركاته الفجة وغنائه الصارخ.
https://www.youtube.com/watch?v=pigh5IgA7qQ
ويعود الوجوم ليكسو الوجوه مجددا قبيل الخريف في سبتمبر الذي عرف بعد ذلك أنه سمي ب” أيلول” الأسود قبل هذا التاريخ بثمانية أعوام بعد وقوع الصدام الذي أسفر عن مقتل 4000 فلسطيني وخروج المنظمات من الأردن إلى لبنان..
ويأتي سبتمبر الحزين 1978، ليحمل إلينا اتفاقية السلام المسموم، وكان الصغير قد تعلق قلبه منذ وعى بأفلام أكتوبر التي كان ينتظرها من السنة للسنة. وإذا بجهازه المحبب يتحول إلى محتفل دائم يتغنى بالزعيم ومنجزه وشجاعته وسلامه الرث، وهو ما جعله يتذكر ذلك المشهد الحزين حين رأى جده المهيب يبكي كطفل وهو يشاهد جنازة أم كلثوم التي لم يعرف كيف قامت من الأموات-بقدرة قادر- لتغني لسلامهم المزعوم “بالسلام بالمحبة الدنيا تحلا، ليه يكونوا ناس فـ ناحية وناس في ناحية” وهو لم يدرك كل ذلك في تلك السن الصغيرة تمام الإدراك؛ لكن الذاكرة الغضة ازدحمت بتلك الصور المتلفزة.. والمشاعر المكتومة بالغضب.. والحزن الذي سيصير بعد ذلك باتساع الوطن.