فن

هشام سليم.. مرثية لجيل الأحلام التائهة

يقول جبران: “إذا المحبة أومَتْ إليكمْ فاتبعوها.. إذا ضمتكمْ بجناحيها فأطيعوها.. إذا المحبة خاطبتكمْ فصدّقوها…”. لذلك من الأفضل أن يكون رثاء هشام سليم من باب المحبة الخالصة؛ لا من غيره.. ربما لأن هشام استطاع ببساطة أن يحفر ملامحه، ونبرات صوته الهادئة المتوجسة، على أفئدة جيل كامل تفتح وعيه مبكرا في عقد السبعينات، مع تلك التحولات الاجتماعية والسياسية الخشنة عقب آخر الحروب كما أسماها الرئيس السادات.. جيل أريد له أن يكون أول من يُلقى في محرقة الارتداد عن المشروع القومي، وانسحاب مصر من أدوارها العربية والإقليمية.. في مقابل سلام باهت؛ سيعرف القاصي والداني بعد ذلك مغبة الإقدام عليه، وخطورة الاستغراق في أوهامه.

الظهور الأول لهشام سليم في “إمبراطورية ميم” أمام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة.. دور المراهق “مدحت” الابن الخامس من ستة أبناء ترعاهم الأم المترملة الراغبة في استئناف حياتها بالارتباط بمن تحب.. بالرغم من أن الفيلم تناول عددا من القضايا التي تهم الشباب وتتماس بشكل كبير مع المرحلة السياسية عقب عام الحسم الذي نكصت عنه القيادة السياسية دون مبررات كافية.. إلا أن “مدحت” كان أفضل تجلٍ لمشكلة جيلٍ ستفرض عليه مواجهة لم يخترها.. لنرى المراهق الحائر يسرق السجائر التي يدخنها سرا، ويستجيب لغواية خادمة أسرة صديقه بقبلة عابرة في المصعد، يفتضح أمرها على الفور، يهمل “مدحت” دروسه وموهبته في الكتابة؛ لينساق وراء المغريات؛ قبل أن يسقط مغشيا عليه بتأثير “السُّكر” في ليلة الاحتفال.. شخصيات الإخوة والأختين كانت ذات أبعاد متعددة من “مصطفى” الثوري، و”مها” المتحررة الساذجة، و”مديحة” الجادة حادة الطباع، و”محمود” الذي ملك عليه حب الموسيقى حياته، و”ممدوح” المفتون بكرة القدم.. بقي “مدحت” بكل تفاصيله التعبير– الأجمل والأكثر جرأة عن الجيل الذي يستعد بتهورٍ لمواجهة المجهول.

طالت فترة الانتظار لأربع سنوات مع يقين لا يخالطه شك بعودة الفتى الوسيم، وكانت العودة خريف 1976، مع يوسف شاهين في “عودة الابن الضال” والرواية هي تنويعة بالغة العذوبة على قصة وردت في إنجيل لوقا تنتهي بالآية “… وَلكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالُا فَوُجِدَ”. وكان “إبراهيم” هو ابن الابن الأكبر الذي حوّله شاهين إلى طاغية؛ لكنه على عكس أبيه يحب الناس ويعيش بين العمال البسطاء ويحب ابنة عامل في مصنع أبيه، وينتظر عودة عمه بفارغ الصبر، وعندما يعود العم مهزوما منكسرا منهارا من قسوة التجربة التي كابدها.. يقرر “إبراهيم” أن ينقذ الحلم مع حبيبته؛ فيهرب بمساعدة الجد من المذبحة التي أودت بحياة الجميع، ليلقى كل منهم مصيره الذي صنعه بيده.. كان أداء هشام سليم للدور ساحرا.. بعيدا عن التأثير المباشر لـ “جو” الغاضب دوما.. لكن موهبة هشام كانت حقيقية جعلت انفعالات الشخصية في معظمها داخلية.. ليستطيع مدير التصوير عبد العزيز فهمي التقاط تلك الانفعالات الهادئة بسهولة؛ لتعلن الشخصية في أكثر من مشهد عما يعتمل بداخلها من صراعٍ، ببراعة شديدة دون الحاجة لحوار.

لقد رسّخ “عودة الابن الضال” تلك المحبة التي زرعها هشام في قلوب هذا الجيل منذ فيلمه الأول.. لكن الغياب عن الشاشة لثماني سنوات جعلنا ننسى لبعض الوقت تلك الإطلالة المحببة قبل أن تعود مجددا مع يحيى العلمي في دور “أحمد” في “تزوير في أوراق رسمية” ليمتعنا هشام بأداء متوازن لشخصية الأخ المشاغب الذي يغفر له الجميع هفواته ليقينهم بطيبة قلبه، وفي نفس العام في “لا تسألني من أنا” يظهر في دور ابن الرائعة شادية بأداء أكثر نضجا وجمالا.. أكد تلك المحبة الصادقة التي صنعها هشام على مهل في أفئدة جيل حارب بعد انتهاء المعارك؛ ليبقى وعيه بمعزل عن توجهات سياسية صنعتها “كامب ديفيد” وما بعدها.

وفي عام 1987، يشارك هشام سليم في بطولة فيلم “الانتفاضة” من إخراج أحمد الخطيب.. وللأسف ضاع الفيلم الذي يجسد جزء من نضال الشعب الفلسطيني، ولم يبق من الفيلم سوى “الأفيش” والقليل جدا من المعلومات.

وفي العام التالي تفتح الدراما التليفزيونية ذراعيها للفتى الموهوب؛ ليبرع في أداء دور “هشام أنيس” في “الراية البيضاء” من تأليف المبدع أسامة أنور عكاشة، وإخراج محمد فاضل.

كان دور “هشام أنيس” بمثابة بعث جديد لجيل الأحلام التائهة الذي استسلم للواقع وغادر إلى الخليج، أو تنازل عن مبادئه محليا بعد أن داهمته موجة القبح العارمة في عصر الانفتاح الاستهلاكي المقيت الذي دشنه نظام الرئيس السادات.. ليعود “هشام أنيس” ليستنهض جيله مجددا؛ باعثا فيه روح المقاومة، وإمكانية الممانعة ورفض الرضوخ الذي سوقوا له في تلك المرحلة ولا يزالون؛ بأنه القدر المقدور الذي لا فكاك منه.. كان وجود “هشام أنيس” إلى جوار الدكتور “أبو الغار” إعلانا واضحا لا يقبل الشك عن أن الجيل الذي تراجع عن أدواره لا بد له أن يتقدم ليحمل الراية، التي وإن كانت بيضاء اليوم؛ إلا أن يوما ما سيأتي في القريب؛ ستتخضب بأذكى الدماء دفاعا عن الوطن وأرضه وناسه ومقدراته.. وهو ما تحقق في يناير2011، وما زالت آثاره تعتمل في قلب الوطن؛ حتى يتحقق الحلم؛ ففي النهاية لن يصح إلا الصحيح.

في العام التالي 1989، يبدأ سليم في نسج دور من أجمل أدواره.. “عادل البدري” بداية من الجزء الثاني في “ليالي الحلمية” وعلى مدى الأجزاء التالية.. يتقلب الشاب الأرستقراطي بين الأفكار والآراء لينتهي منتصرا لأنبل القضايا الإنسانية.. وفي نفس العام يشارك الفنان العالمي عمر الشريف بطولة فيلم الأراجوز من إخراج هاني لاشين، ويبدع بطلنا في دور “بهلول” ابن الأراجوز الذي يتمرد ويرفض حياته البائسة؛ لكنه يتحول إلى شخص انتهازي بلا مبدأ.. وفي “الهجّامة” من تأليف أسامة أنور عكاشة، وإخراج محمد النجار.. يجسد بطلنا شخصية “سيد الكومي” الذي يتحول لتاجر مخدرات مدمرا مستقبل وطنه وحاضره، بأداء بارع كشف عن موهبة تتمتع بكل أدوات التشخيص الذي بيّن لكل ذي عقل مقصود “عكاشة” وما يرمي إليه.

وفي “يا دنيا يا غرامي” نرى سليم في دور “يوسف” الميكانيكي ابن الحارة المصرية الذي يحب ابنة خالته ولا يجد سبيلا للزواج منها بسبب الفقر، وارتفاع تكاليف الزواج.. ويضطر “يوسف” تحت ضغط الحاجة لارتكاب بعض الأعمال المخالفة للقانون.. لينتهي به الأمر إلى السجن.. وكان من أجمل تفاصيل الشخصية التي أداها سليم بتميز واضح، تلك العلاقة الخاصة التي ربطته بالعجوز المتصابية “زهيرة” هانم والتي تتحول مشاعره نحوها من الاستغلال إلى العطف والرحمة.

 

لقد تعددت أعمال الراحل هشام سليم بين الأفلام السينمائية والدراما التليفزيونية والمسرح والقليل من الأعمال الإذاعية.. وقد ناله ما نال جيله من الظلم؛ لأن الجيل السابق لجيله ظل متشبثا بأدوار الشباب إلى أن قارب الخمسين، ما قلّص من فرصة هذا الجيل في الإبداع والتألق.. ومع ذلك فقد حفر هشام سليم اسمه بين أسماء الفنانين الكبار بأدوار شديدة التميز والروعة شكلت وعي جيلنا والأجيال اللاحقة.. لتبقى ذكراه خالدة في قلوب محبيه ممن عرفوه فتى جميلا في “إمبراطورية ميم” قبل خمسين عاما.. إلى أن ظهر في آخر أعماله السينمائية فيلم “موسى” العام الماضي ومسلسل “هجمة مرتدة” في رمضان قبل الماضي.. رحم الله هشام سليم فنان جيل الأحلام التائهة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock