تقديم “أصوات”
على الرغم من الدور الذي تلعبه الظروف الاجتماعية والسياسية وكذلك الضغوط النفسية التي قد يتعرض لها من يتحول من شخص عادي إلى متشدد متطرف أو إرهابي، إلا أن البنية الفكرية والعقائدية التي تسوغ تكفير الآخرين وتستحل دماءهم يبقى لها أيضا دور لا يمكن تجاهله في أى محاولة لفهم التطرف والإرهاب.
تقوم منظومة الفكر الإرهابي على عدد من الافتراضات المشكوك فيها: أولها أن المنتمين لها قد توصلوا – دون غيرهم ” للإسلام الحق”، وثانيها أن “الآخرين” هم في ضلال؛ سواء كانوا من “العصاة” أو “الجاهلين” ب “صحيح الدين”، الذين قد يصل بهم عنادهم وتكبرهم إلى حد الكفر الذي يبرر قتلهم شرعا، أما الفئة الثانية التي يجوز قتل أصحابها أيضا – من باب أولى – فهى فئة الأعداء الكافرين المنتمين للأديان الأخرى دون تمييز.
عادة ما يحتاج الإرهابي لفتوى تبرر العنف والقتل من مفتن أو شيخ، وقد يحاول فهم الفتوى إن كان لديه التكوين اللازم في العلوم الشرعية وهو النمط الذي كان شائعا مع الموجات الأولى من عنف الحركات الإسلامية التي بدأت منذ منتصف القرن الماضي قبل أن تتفاقم مع سبيعينيات القرن ذاته في أنحاء العالم الإسلامي، ولكن العديد من الدراسات الميدانية ودراسات الحالة المتعمقة، الأجنبية والعربية، التي طبقت خلال السنوات الأخيرة على من مارسوا الإرهاب أو على مسيرة حياتهم قبل أن يصلوا لذروة الفعل الإرهابي، تثبت أن الكثيرين منهم – خاصة من الشباب المحبط الغاضب – أصبحوا ينتهزون أى إشارة تصرح باستخدام العنف، دون توقف وتبين كاف لمدى صحة الفتوى بالقتل، مكتفين بشبكة متجانسة من المفاهيم التي يتداخل فيها الديني بالسياسي وكأنهما شئ واحد، والأهم أنها تضفي قدسية “الديني” على “السياسي”.
لا تطرح جماعات العنف باسم الدين على المنتمين لها عددا من المفاهيم المنفردة واحدا وراء الآخر، ولكنها تصدر لهم منظومة أفكار متجانسة عضويا، أى شبكة مفاهيم مترابطة يمهد كل منها لما بعده، ويستند لما قبله في ذات الوقت، كما أن كل مفهوم أو مجموعة من المفاهيم تمهد العضو لتقبل قواعد عمل مستقرة داخل التنظيم، وهو ما يفسر قدرة شبكة مفاهيم الإرهاب على التأثير والإقناع.
على سبيل المثال يمهد مفهوم “التقية والاستضعاف” لأن يتحلى عضو الجماعة بالصبر اللازم على مدى زمني قد يطول، وهو تعبير عن المرحلة الضرورية اللازمة لوصول الجماعة وأعضائها لمرحلة “التمكين”، كما أن مفاهيم مثل ” الأمير أو المرشد” أو “الأسطرة” أو “الأخونة” أو “العصبة المؤمنة” أو “الأسرة” (العائلة الأيديولوجية) تلعب دورا فكريا ونفسيا في تأهيل العضو لمفهوم “الطاعة” وتقبل نظام العمل الاستبدادي الهرمي الذي لا مجال فيه لمناقشة الأوامر أو التفكير الحر حول طبيعة الجماعة وتوجهاتها السياسية ..إلخ
هذه مجرد أمثلة حول “المفاهيم المؤسسة للإسلام السياسي” التي تتناولها هذه السلسلة من المقالات تفاصيلها، وهى السلسلة التي كتبها المفكر السياسي والاجتماعي والروائي المعروف الدكتور عمار علي حسن خصيصا للموقع.
أصوات أونلاين
“أستاذية العالم” … هذه فكرة إخوانية تعني السيطرة على كل ما على الأرض من بلدان بعد عملية متدرجة تبدأ بتربية أو تكوين “الفرد الإخواني” ثم “الأسرة الإخوانية” فالمجتمع الإخواني، الذي يسمونه “المجتمع المسلم” من منطلق زعمهم بأنهم الممثل الشرعي والحصري لصحيح الإسلام.
بالطبع لا تعني الأسرة الإخوانية هنا المعنى الاجتماعي المتعارف عليه بين الناس وإنما التكوين الأوليّ الذي حدده مؤسس الجماعة، والذي يعد في نظره النواة الأساسية للوصول إلى الأممية الكاملة، مرورا بإحياء الخلافة الإسلامية من وجهة نظرهم، منفصلين عن التطور الذي آل إليه العالم الحديث، ومستعيدين الشكل السياسي القديم دون التزام بإدخال أي تطوير عليه يراعى مصلحة الناس الذين يعيشون الآن وهنا.
ويحدد مؤسس الجماعة حسن البنا مهمة الإخوان في “سيادة الدنيا، وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة، وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس”، لكن حين يعرض لنا الإسلام الذي يراه نجده يبتعد عن النهج الذي رسخه القرآن الكريم ووافقته فيه السنة المطهرة.
وعند الجماعات المتطرفة ينقسم العالم إلى فسطاطين، حسب تعبير أسامة بن لادن، أو وفق التوزيع الفقهي القديم “دار إسلام” و”دار حرب”، وتعمل هذه الجماعات على إخضاع كل من يقع في دار الحرب إلى الإسلام عنوة، عبر الفتح، الذي ينبني على جهاد الطلب، وتهمل بابي “الموادعة” و”العهد” في تاريخ المسلمين، كما تتغافل عن أن القرآن الكريم لا يقر هذا المسلك، وأن المعارك التي فرضت على الرسول لم تكن سوى “جهاد دفع” لرد العدو أو ردعه.
وقد ولدت هذه الفكرة من سعي الدولة الإسلامية في عصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين إلى حيازة غطاء فكري وقانوني لحركة التوسع وتنظيم علاقتها بالعالم.
وعلى رغم تقادم الزمن فإن الجماعات المتطرفة لا تزال تتمسك بتلك الرؤية مع أنها أصيبت بالعجز عن استيعاب كل فعاليات المجتمع الإسلامي مع مرور الوقت، وأضرت بعالمية رسالة الإسلام التي ينص القرآن على أنها “رحمة للعالمين”.
وينطلق هذا الفكر من اعتقاد عام بأن الأمة الإسلامية يجب أن تسود البشرية وتقودها من جديد، حسبما يرى سيد قطب، ولهذا تنكأ جماعة “الإخوان” وغيرها جرح الكبرياء عند المسلمين، وتستدعي مواقف للقوة والعزة في أيام عز الإمبراطورية الإسلامية، بمختلف مراحل تطورها التاريخي، لتوظفها في خدمة مشروعها الوهمي دون مراعاة لصورة الإسلام، ومصلحة المسلمين وحالهم في الوقت الراهن، ودون سعي حقيقي لامتلاك وسائل القوة من الاهتمام بالعلم والأخذ بأسباب التقدم الحضاري.
وحتى تتم هذه العودة، ويأتي ذلك المستقبل، تنتهج الجماعات الدينية السياسية سبلًا عديدة، وتتبنى رؤى كثيرة، تختلف من واحدة إلى أخرى.
ولدى جماعة “الإخوان” ترتبط العودة، التي ستنتهي بأستاذية العالم، بتكوين تنظيم قوي، يتبنى رؤية شاملة مزعومة للإسلام!. وقد ألف بعض أعضاء الجماعة أناشيد عديدة تدور حول هذا المعنى منها:
“ملكنا الدنيا قرونا.. وأخضعها جدود خالدونا”.
وعند الجماعات والتنظيمات المتطرفة نجد علاقة بين فكرة السيطرة على العالم، بعد تقسيمه إلى “دار إسلام” و”دار حرب” وبين فكرة “الولاء والبراء” التي تمثل ركيزة أساسية لدى تيار السلفية التكفيرية، ويعني بشكل عام، موالاة المؤمنين ونصرتهم، والتبرؤ من الكافرين ومعاداتهم، وهو لديها لصيق بالعقيدة الإسلامية، بل يشكل في رأيها معياراً رئيسياً لإيمان المسلم والتزامه بالإسلام، وبناء عليه تتوسع في تكفير جميع من لم ينضموا إلى هذه الجماعات والتنظيمات المتشددة.
ويبدو مما تقدم أن فكرة “أستاذية العالم” هذه، وما يضاهيها أو يقترب منها في أفكار الجماعات والتنظيمات المتطرفة لها صلة بمفهوم “الحتمية التاريخية” التي يعتقد فيها معتنقو التصورات المتطرفة في اليهودية والمسيحية، وأصحاب الأيديولوجيات الاستبدادية مثل الشيوعية والنازية والفاشية، وهي تعني الإيمان بأن التاريخ يسير في الاتجاه الذي يحقق أهداف وغايات هذه الجماعات، وأن قدرتها على تحقيق النصر في النهاية مسألة مفروغ منها، حتى لو تعثرت أحياناً في بعض المواقع والمعارك.
وبالطبع فإن هذه فكرة خادعة، طالما تم استخدامها في تجنيد وحشد وتعبئة الشباب للانضمام إلى هذه الجماعات وتلك التنظيمات بدءاً من تنظيم “الفنية العسكرية” الذي ظهر في مصر عام 1974 وحتى تنظيم “داعش”، وقد لبست هذه الفكرة لباس الكفاح من أجل الخروج من الانحطاط، والتصدي للحملات الاستعمارية ضد الأمة الإسلامية، ولكن تحقيق هذه الغاية لا يمكن أن يتم بطريقة التفكير والتدبير التي تقوم بها التنظيمات المتشددة، التي تعيش في الماضي وتنكر الحاضر، ولا تريد أن تذهب إلى المستقبل، وتجافي التفكير العلمي، وتسيء إلى الإسلام نفسه في أسسه الثلاثة التي تقوم على الفطرة والرحمة والتوحيد.