فن

يسري نصر الله.. الإفلات من «عقدة شاهين»

في كثير من حواراته الصحفية يذكر المخرج “يسري نصر الله” أستاذه “يوسف شاهين” بمزيد من الحب والتقدير؛ لكنه لا ينسى في كل مرة أن يذكر أنه قال له : ” أنت حمار مابتفهمش”، وأنه صارحه ذات مرة أنه لا يصلح للإخراج وأن المهنة المناسبة له هي “سواق لوري”.. ودون مواربة يُصرِّح “نصر الله” مرارا أن أيام العمل مع “جو” كانت كابوسا أقض مضجعه لفترة طويلة؛ حتى مع مناسبة هامة مثل فيلم “إسكندرية كمان وكمان” الذي ساعد “يسري” في إخراجه وشارك في كتابته؛ سنسمعه يقول أنه خرج من هذه التجربة مكتئبا وفي حالة يرثي لها وقد اتخذ قرارا باعتزال الإخراج السينمائي والبحث عن عمل آخر.. وأن هذه الحالة المزرية لم يخرجه منها سوى سفره إلى ألمانيا وابتعاده لفترة لم يقرر متى تنتهي، وأن عودته لم تتم إلا بإلحاح من “جو” للمشاركة في عمل المونتاج للفيلم أو نحو ذلك.

إلى جانب ما تقدم سنضع ما صرح به “نصر الله” كثيرا في لقاءات جماهيرية عن عشق لا محدود للإخراج السينمائي بدأ معه منذ كان في السادسة من عمره! ما دفعه لرسم أفيشات لأفلام من وحي خياله الطفل، لكتابة عبارة “إخراج يسري نصر الله” أسفل الأفيش فحسب.. كما سنرصد علاقته بالمخرج العظيم “شادي عبد السلام” الذي كان جارا لـ “نصر الله” في فترة صباه وشبابه الأول، وكيف اقترب منه وتأثر به كثيرا على المستوى الفني والإنساني، لتوحي لنا تلك الكلمات بأن “عبد السلام” أفسح المجال للشاب الحالم ليتردد عليه في مكتبه، ويتعرف على العديد من النقاد والمخرجين والفنانين.. مما عمّق رغبة الفتى في العمل بمهنة الإخراج السينمائي.

في المرحلة الثانوية يصبح التردد على المراكز الثقافية المهتمة بفن السينما شغله الشاغل، كما ظهر لديه الميل لكتابة مقالات نقدية.. لكننا سنفاجأ –بما يشبه الصدمة- أن “يسري” سيلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وليس بمعهد السينما، وستزيد دهشتنا عندما نعلم أن “نصر الله” التحق فعلا بمعهد السينما ولم يستطع تحمل الدراسة به سوى أربعة أشهر انتقل بعدها للدراسة في الكلية المذكورة.. وهذه المعلومة لا يذكرها “يسري” كثيرا رغم غرابتها وتعدد دلالاتها!.

لكن مخرج “السرقات الصيفية” يصر على أن شغفه بالسينما لم ينقطع طوال فترة دراسته للسياسة والاقتصاد، حتى أنه يصف نفسه بـ “العاشق المهووس”! ومع ذلك سنجده فور تخرجه يسافر إلى بيروت ليعمل صحافيا بجريدة “السفير” وكان الهدف الأول هو العمل بالتدريس في “تل الزعتر” لكن يبدو أن “يسري” لم يكن قد استقر على شيء ولم يحدد خطا لحياته رغم تجاوزه عامه السادس والعشرين آنذاك.

يقول “يسري” أنه عمل ناقدا فنيا بالسفير، وأنه كان يكتب ثلاث مقالات يوميا في نقد الأفلام مستغلا حالة “الحيوية الشديدة” التي كانت تعيشها “بيروت” على مستوى السياسة والأدب والفن.. ومن المعروف أن تلك الفترة التي حددها المخرج كانت بين العامين (1982:1978) وهي من أشد أعوام الحرب الأهلية كما أنها شهدت اجتياحين للبنان من جانب جيش الكيان الصهيوني.. يعني هذه الأجواء لم تكن في الحقيقة مشجعة لا على العمل ولا الإقامة وأعتقد أن الفنون تأثرت بشكل مباشر بتلك الاحداث في “بيروت” وغيرها.

ثم يكون اللقاء مع “جو” في بيروت، وعمل حوار معه للجريدة، ثم التواصل هاتفيا، ثم لقاء آخر يسفر عن استهجان “شاهين” لإقامة “نصر الله” في “بيروت”. “انت قاعد عندك في “بيروت بتعمل إيه” ثم عرض بالعمل نظير راتب شهري قدره ثلاثون جنيها! ليصفي “يسري” أعماله ويعود إلى القاهرة، وفي أول لقاء معه في حفل تأبين أخته ينكر “جو” أي معرفة له بـ “يسري” كما ينكر أن لديه فرصة عمل مناسبة.. ثم تعود الذاكرة لـ “جو” فجأة فيتذكره، ويسند إليه وظيفة كاتب تقارير عن السيناريوهات التي تصل إلى الشركة!!

هل نلحظ فيما سبق حالة هروب متكرر من هذا الهوس بالسينما؟ هل تساورنا الشكوك بشأن حقيقة حدوث كثير مما سبق؟ هل تختلط الوقائع بالذكريات بالمشاهد السينمائية وتصوراتها المسبقة لدى “نصر الله” ولدى الكثيرين من عشاق الفن السابع حد الهوس.. ربما.

في أحيان كثيرة عندما تلح فكرة ما علينا بدرجة كبيرة؛ تتحول إلى عبء ثم إلى “كابوس” وتصبح محاولات الفرار منها سبيلا للنجاة! هل هذا ما حدث مع “نصر الله” أم أننا لا نملك سوى أنصاف حقائق تحتاج إلى كثير من التفاصيل الغائبة لتكتمل الصورة.

سيبدأ “نصر الله” في نسج عالمه الخاص فور انسلاخه عن “شاهين” لكنه سيحرص على التواصل معه طوال الوقت ليأخذ رأيه فيما يقدمه من أعمال.. ستكون آراء “جو” صادمة إلا فيما ندر.. وستتراوح بين الردود المهذبة مثل: “لم أحب هذا الفيلم” يقصد فيلم “المدينة” والردود القاسية التي ربما حملت ألفاظا خارجة مثل رأيه في “مرسيدس”.

سنجد “نصرالله “في سرقات صيفية” يحاول إيجاد حالة من الائتناس بالناس فيستدعيهم كشهود على طفولة معذبة تصيغ معاناتها أطراف عديدة؛ لكن المأساة تصنع بيد أقرب الناس لتسبب “عقدة” لن تنحل بل ستتفاقم مع الوقت منتجة حالات من الهروب المتكرر من المسئولية، والرفض التام لتبعات تكوين أسرة وإنجاب أطفال؛ فما زال الإحساس بفداحة التخلي عميقا وحادا وطازجا رغم مرور عقود عديدة.. سيبدو الصوت زاعقا في هجاء يوليو وقرارتها الاشتراكية، مع محاولات مضنية –لا تحتملها خفة العمل- لتحميلها تبعات السقوط لطبقة أسست أحلام ثرائها على الخداع، كما يظهر ذلك واضحا في قصة الجد الذي أوهم البدو بوجود كنز ليسخرهم في استزراع الأرض، وانتهاء بفكرة الحفيد الذي يتصور نفسه “روبن هود” فيدفع بصديقه الفلاح المسكين “ليل” إلى السجن بعد أن ورطه معه في السرقة.. وفي نهاية الفيلم لا يبدو “نصر الله” مكترثا بإقناعنا بشيء حتى أنه أظهر “ياسر” وهو في الثلاثين في صورة شاب ما دون العشرين عاد للتو من بيروت بعد سنوات من العمل الصحفي.

سرقات صيفية
سرقات صيفية

وفي “مرسيدس” يعلن “نصر الله” عن نفسه في شخصية “نوبي” المولع بالاشتراكية –في صورة شبه هزلية- حتى أنه يظهر وجهه شبحيا في جنازة “عبد الناصر” مع تعليق يفيد بأنه شعر بمسئولية تطبيق الاشتراكية ملقى على عاتقه وحده بعد رحيل الزعيم، وعلى أثر ذلك يدخل “نوبي” مستشفى الأمراض العقلية لأربع سنوات.. بدا في “مرسيدس” أمر تحرر “نصر الله” من “شاهين” بعيد المنال.. لكنه في “المدينة” يفاجئنا بالانطلاق على نحو رائع بما يعني تحرره كاملا من هذا الأسر؛ لتنحل عقد “شاهين” ولا يبقى منها سوى الذكرى.. بل إن هذا الفكاك يلقي بـ”نصر الله” أبعد بكثير مما كان يتوقع؛ ليبدع عملا ملحميا رائعا عن فلسطين وليس عن القضية حسب تعبيره..

مرسيدس يسري نصر الله
مرسيدس يسري نصر الله

في “باب الشمس” يبهرنا “يسري” بلغة سينمائية بالغة العذوبة، لغة تنطق بحكمة السنين وبراعة الموهوب الممتلك لكل أدواته الذي يستطيع أن يضع في كل مشهد لمسة خاصة ومع تتابع المشاهد في سلاسة يصنع نهرا يتدفق بالصدق مما يعمق الشعور بالمأساة دون ضجيج ودون خطابة.

https://www.youtube.com/watch?v=trppGwC22ew

وفي “جنينة الأسماك” ينجح مخرجنا في تحقيق المعادلة الصعبة فينجح العمل على المستوى الجماهيري، مع تميز فني وإبداعي لم يغفل عنه النقاد، ليقدم بعد هذا الفيلم عددا من الأعمال الناجحة مثل “احكي يا شهر زاد” عن قصة وحيد حامد، و”بعد الموقعة” عن ثورة يناير2011أ ويشارك في إخراج فيلم” 18 يوم” بـ “خارجي- داخلي” وهو الفيلم الذي أثار جدلا واسعا ومنع من العرض، ثم “الخضرة والماء والوجه الحسن” وهو المشروع الذي أجله “نصر الله” أكثر من مرة حتى خرج إلى النور من إنتاج السبكي.

عندما سئل “يسري نصر الله” عن الرحيل المبكر لصديقه المخرج “رضوان الكاشف” وأن ذلك حال دون اكتمال مشروع المخرج الفيلسوف، أجاب “نصر الله” أن اكتمال المشروع من عدمه لا يجب أن يحسب بعدد الأفلام؛ لذلك هو يرى أن الكاشف قد أكمل مشروعه على نحو رائع من خلال ما قدم من أعمال تسجيلية بالإضافة إلى الأفلام الثلاثة الروائية الطويلة التي أخرجها.. وعليه فإن “يسري” يرى أن مشروعه قد اكتمل وأنه أنجز المهمة على خير وجه.. ولكننا مازلنا ننتظر أعمالا أخرى من المخرج الذي ناهز السبعين ومازال يحتفظ بدهشة الطفل وجسارة الفتيان.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock