الذاكرة لا تخون.. إنها –فقط- تترفق بنا فتعطينا صورا متعددة للحدث؛ بدافع من معاندة الملل والتكرار تنتج الذاكرة تفاصيل جديدة مع مرور الوقت؛ لكن هذا الإيغال في مفارقة الأصل لا يلغيه بالكلية.. ربما يحفظه في مأمن بعيدا عن متناول تلك التحديثات اللطيفة.. تلك الأصول تحتفظ بتشوشاتها طازجة؛ حتى أنها قادرة على استدعاء ذلك الشعور المختلط بالرهبة وقلة الإدراك.. حيث لا تظهر ملامح الوجوه بوضوح؛ لكنها لا تتشابه، إذ أن لها ما يميزها ويحفظ لها دلالة ما، ترتبط بالحدث.. شارب كث، أنف ضخم، فم ضاحك خال من الأسنان، أذنان كبيرتان يحركهما الهواء، حاجبان متصلان بوضوح تزينهما ندوب، حنجرة بارزة في رقبة مستدقة، وعينان متخاصمتان في بهجة.
لن أجهد الذاكرة هذه المرة في استحضار أناس بكامل هيئتهم.. سيكون الاستدعاء على عجل؛ لذلك لن أدهش عندما أجد أشخاصا قرروا الحضور دون أطراف أو بعين واحدة، أو على كراس متحركة، كما لا يجب أن يتعجب أحد من رؤية أطفال ما دون الثالثة يلعبون حفاة عراة-الحقيقة بقطعة ملابس واحدة علوية- فوق أكوام القمامة أو بالقرب منها؛ كما لن أفزع أنا من استدعاء صورة شيخ ثمانيني يخرج من منزله شبه عار في صقيع يناير ليلحق بصلاة الصبح في جماعة.. لكنني سأحاول مضطرا تناسي تلك المرأة البدينة هائلة الجرم ساكنة الكهف، الكامنة في تربص إلى أن تسمع صوت وحيدها يذكر أم أحدهم بسوء؛ فتخرج على عجل مستعرضة تاريخ تلك الأم تفصيليا بما يحسن السكوت عنه.
سيدي.. أنا لست هنا بصدد تفسير بعض الصور القديمة وفق ما استجد لدي من معلومات.. أنا شخصيا لا أجرؤ على ذلك، حتى بخصوص هذا الرجل سيئ الأخلاق الذي كان يقضي يومه في التربص بدراجات الناس لاقتناص إحداها إذا سنحت الفرصة، وكيف أن القبض عليه كان مدبرا.. فهو لم يضبط متلبسا ليقظته الشديدة، ومعرفته الواسعة بحيل الهروب وتضليل أولئك الأفراد الذين تنقصهم الهمة أغلب الوقت والنزاهة دائما.. بالطبع لن أصارح أحدا بدهشتي عندما أُخْبرتُ أن للرجل أخا يتحرك في هيئة ناسك، ويترك نظرة تأسفٍ على كل المواقف التي تجرح نقاءه الإيماني العميق؛ لكن المشي هونا وقيله للجاهلين سلاما لم يمنعه من العُجب بالنفس الذي يورد صاحبه الموارد.. لينتهي به الحال ليس ببعيد عن أخيه الذي اختار له القدر ميتة غريبة تليق برجل أجاد الفرار غير مرة من الموت.. فإذا به يصفعه بقسوة عندما لمحه ذات ظهيرة يجلس هادئا وقد خلع حذره كاملا واستسلم لسِنَةٍ غادرة.
لن أتخلى عن حذري وقراري السابق الذي اتخذته ببصيرة نافذة.. إنني لست مدعوا هذه الليلة لإحداث حالة من النشوة لدى جيل كامل من الرفاق المنهكين.. سأتمسك قدر استطاعتي بالإيجاز ونقل الصور كما هي دون محاولات للاستيضاح واستجلاب تفاصيل، واستخدام معلومات مستحدثة على نحو غير أمين.. سأذكر هنا –أيضا- أني لم أصارح أحدا باعتراضي على كثير من العلاقات التي رأيتها لا تحقق أدنى قدر من التكافؤ.. لماذا كان هذا المُسن البائس الغضوب زوجا لهذه المرأة الوادعة طيبة المحيا.. إن الرجل الساكن في البيت الذي يسد آخر الشارع له شارب مشذب وشعر لامع مصفف، وهندام يسر.. لا يرتدي الجلباب أبدا، وهو يليق بتلك السيدة المستكينة.. كذلك فإن الرجل صاحب العيون الخضراء الذي لا يكف عن الحديث وإلقاء النكات يليق تماما بالمرأة التي تضع “الباروكة” وأحمر الشفاه الصارخ.. إن هيئتها المتجملة بتصنع فاضح لا تتناسب مع صلعة زوجها وشاربه وبطنه المندلق.. نعم لم أصارح أحدا بحزني الشديد من أجل هذا الرجل النحيل الشاحب المتزوج من امرأة يعادل وزنها سبعة أمثال وزنه دون مبالغة.
أصبح من المتوجب عليَّ أن أخبركم أني لا أخضع للضغوط خاصةً إذا مُورست على هذا النحو.. لكنني لا أفتقر إلى الشجاعة، ولا تنقصني الرغبة في المصارحة؛ لذلك سأعلن ما حدث لي عند الوصول إلى تلك النقطة التي احتفظت فيها الذاكرة بتلك المشاهد الغائمة.. كان الأمر يحتاج إلى شيء من الحذر.. شيء من البراعة.. شيء من الارتياب المحبب؛ فالخطأ في التعامل مع هذه القصاصات يصيبها بـ “فيروس” الثرثرة، ويمنحها طاقة بوح مراوغة، وقدرة على الخلط والتمويه بالغة الخطورة.. ومع ذلك لن يكون من المناسب أن أعترف أن هذا قد حدث، ربما تخيلت أن حدوث ذلك سيكون مرضيا للبعض تحديدا لأولئك الصبية الذين انتشروا في أروقة الذاكرة مسببين بأصواتهم وهيئتهم شعورا هائلا بعدم الارتياح.. لم أقصد ذلك الصبي البشع متسخ الملابس الذي جرؤت على خنقه وركله ودفعه إلى باب المقهى الجانبي واضطراره للهرب أمام تلك الشجاعة المفرطة، وأنه لم يحاول الانتقام بعد ذلك رغم أن ذلك كان متاحا؛ ما يشكك في صحة الرواية، وربما ينسفها نسفا.. ما عنيته تحديدا تلك الحادثة التي وجدتها تجلس في ركن من أركان الذاكرة مكللة بالعار، عندما وقعنا أنا وأخي الصغير وصديق لي في أسر مجموعة من أطفال الحي الأشرار عصر يوم خميس؛ وكنت أنا المستهدف بالإيذاء بسبب شكلي الذي أثار غضبهم-لا أدري لماذا- لم يصل الأمر إلى حد الاعتداء.. بعض السباب مع الدفع إلى الحائط.. لكنني استطعت الهرب وتركت أخي وصديقي خلفي مرغما.. لكنهما لحقا بي بعد دقائق، عندما سألتهما متلهفا: كيف هربتما، جاءني الرد معاتبا: لم نهرب لقد أطلقونا.