فن

فيلم “19 ب”.. مسافة قصيرة نحو “اختراع العُزلة”!

في كتابه “اختراع العُزلة” الذي يروي فيه “بول أوستر” جانبا من سيرته الذاتية والذي يبدأ بإبلاغه بوفاة أبيه.. ذلك الرجل الذي لم يعرف عنه الكثير إذ كان يتشح بالصمت طوال الوقت.. يقول أوستر عن هذا الأب: “عاش وحيدا لخمسة عشر عاما: عنيدا، غامضا، لكأنه مُحصَّن ضد العالم. لم يكن يبدو كرجل يحتل حيزا من الفراغ، وإنما ككتلة من حيزٍ منيع على هيئة رجل. يرتد العالم عنه، يتهشم أمامه، وأحيانا يلتصق به حد التماهي دون أن يخترقه. وحده في كل شيء، ومثل شبح، عاش طوال تلك السنوات في بيت شاسع حيث باغته الموت”.

يطرح فيلم “19 ب” سؤالا مفاده.. ما الذي يضطر أحدنا إلى العزلة والهرب من صخب الحياة والتعاطي مع البشر إلى مصاحبة الحيوان والاستئناس بالذكريات فقط.. أحيانا ما يصبح الارتباط بالمكان أقوى من أي محاولة لتركه أو الابتعاد عنه.. مع الوقت يمارس المكان سطوته على الإنسان؛ فيقع في أسره بالكلية.. ربما كان هذا الانتماء الشديد للمكان، والحنين الجارف إليه هو ما شكّل المعنى الأول لفكرة الوطن.

في “اختراع العُزلة” أيضا يذكر “بول أوستر” عن أبيه شيئا من ارتباطه ببيته الأول فيقول: ” …خلال الأسبوع الأوّل لنا في البيت الجديد، قبل أن نُكمل تجهيزه ونعتاد عليه، ارتكب أبي هفوة لافتة: خرج في إحدى الليالي من العمل، ولم يقد سيّارته إلى البيت الجديد، بل مضى مباشرة إلى بيته القديم، على نحو ما كان يفعل لسنوات، أوقف سيارته على جانب الطريق، ودلف من الباب الخلفي، وصعد الدرج ودخل إلى غرفة النوم، واضطجع على السرير، ونام. أغفى زهاء ساعة. ولا حاجة إلى القول إنه حين عادت سيّدة البيت الجديدة، ووجدت رجلا غريبا نائما في سريرها، أنها بُوغتت بعض الشيء. إلا أنه بحلاف المتوقع، لم يقفز أبي من السرير، ويسارع إلى الفرار. وسرعان ما تبدّد الارتباك، وضحك الاثنان من كل قلبَيْهما من الأمر”.

فيلم 19 ب

في فيلمه “19ب” لا يبدو المخرج الشاب أحمد عبد الله السيد معنيا كثيرا بجوانب فنية تتعلق بالنجاح الجماهيري، أو حتى كسب رضا النقاد أو أن يكون فيلمه فيلم مهرجانات كما يحلو للبعض تصنيف أعمال فنية بعينها.. ربما كان هناك ما هو أهم من ذلك، يريد السيد قوله.. حتى موضوع العُزلة الاختيارية والارتباط بالمكان والعيش وسط الحيوانات.. والاكتفاء من مقومات الحياة بأقل القليل.. والصراع من أجل الاحتفاظ بالخصوصية.. تبدو أمورا تتجاور في سياق أشمل وأعم من معانيها المجردة.

ربما كان من الأيسر أن ننحاز إلى رؤية بعينها تتعلق بأمر واحد مما سبق لنبني عليه قراءتنا للعمل الفني.. لكن ذلك لن يكون منصفا لجهد من أبدعوه.. هذا الحارس المسن الذي لم نعرف له اسما طوال الفيلم، والذي لا يعرف لنفسه وجودا بعيدا عن هذا العقار (الفيلا) الذي يصارع الزمن ويوشك أن ينهزم بالتداعي.. هذا الوافد المقتحم المتسلل المتزلف تارة والمهدد تارة أخرى، والذي لا يُقدم على الانتقام؛ ربما لأنه يخشى أن يكون ظالما بعد أن جرب قسوة الظلم، ودفع من عمره ثلاث سنوات في السجن دون جريرة كما ألمح أكثر من مرة.

فيلم 19 ب

وما بين إيقاف الزمن ومحاولة تسكينه من قبل الحارس المسن، ومسارعة الشاب المتطفل على المكان لإنجاز أعماله في محاولة منه لإدراك ما فاته، وزيارات الابنة المتكررة لأبيها الحارس وإلحاحها عليه في المغادرة معها، واكتشافنا أن ثمة علاقة جمعت الشاب بالفتاة ذات يوم وانتهت على نحو شائن- تتصاعد الأحداث بوتيرة هادئة لا تشي بالنهاية التي اختارها المخرج، والتي تبدو عبثية إلى حد ما.. وربما يمكن تفسير هذا الاختيار بأن دوافع الفعل الباعثة عليه يمكن أن تؤدي في النهاية إلى ارتكاب ما لم يكن في الحسبان.. فبالرغم من أن الخصمين ناورا كثيرا وتحايلا في محاولات متعددة لكسب الصراع دون دفع الثمن، رغم تباينات القوة الواضحة؛ إلا أن المواجهة الدموية فرضت نفسها في النهاية.. كحل أخير ونهائي يحسم ذلك الجدل الذي طال.. هل كانت رؤية الفيلم التي تراوحت على مدى دقائقه المئة تحيلنا إلى أنه ليس “خير الأمور الوسط” وأن صراع الأضداد هو الحقيقة المؤكدة.. وأن محاولة إيجاد السبل للعيش المشترك أو التكيف مع أوضاع فرضتها الظروف هو إهدار للحياة ذاتها؟

في مشهد النهاية الذي يعود بالحارس إلى حياته الوادعة، بعد اطمئنانه إلى أمور عديدة.. منها أن العقار قد صار تقريبا له، بعد استحالة العثور على مالكتيه اللتين هاجرتا إلى مكان غير معلوم، وبعد اختفاء مصدر التهديد الأساسي لعزلته المختارة.. وبعد معرفته أن الابنة -اعتبر وجودها المتكرر تهديدا لعزلته أيضا- لم يعد بمقدورها زيارته؛ نظرا لانتقال الشركة التي تعمل بها إلى مكان بعيد.. وبعد تبادل نظرات ودودة مع الجارة العجوز التي ربما شاهدت من نافذتها مشهد نهاية الصراع- ينتصر الشيخ على الزمن.. رغم بعض الخسائر المؤلمة.. لقد تجاوز محنته واسترد كيانه الذي توحّد مع المكان وصارا شيئا واحدا حتى أن المكان تدخّل بصورة مباشرة ليكون أحد عناصر حسم الصراع.

فيلم 19 ب

لا بد من الإشارة إلى إبداع الممثلين في أداء شخصياتهم.. سيد رجب قدم لنا نموذجا بديعا لهذه الحالة الإنسانية الفريدة التي تنافح عن وحدتها وخصوصيتها، وتخشى اقتحام حياتها حد الهلع.. أحمد خالد صالح كان في أفضل حالاته، فاستطاع الوصول إلى أبعد تفاصيل الشخصية فجاء أداؤه واقعيا ومتميزا على أفضل ما يكون.. ناهد السباعي في دور الابنة، أبدعت رغم قلة المشاهد، وكذلك فدوى عابد في دور الجارة المحبة للحيوانات.. وفي دور الصديق حارس العقار المجاور أبدع مجدي عطوان على نحو لافت يستحق الإشادة.

فيلم “19 ب” عمل يصعب تصنيفه، ولا تعرف قراءته الحسم، هو عمل فني ذو قيمة، ويستحق أن يُشاهد أكثر من مرة.. وربما كان هذا كافيا جدا لصانعيه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock